أصبح الأمر مسألة اتفاق عام بين مواطني أغنى دولة في العالم على أن الأمور لا تسير على ما يرام؛ حيث أصبحت الولايات المتحدة، في عامها الـ 245، دولة مريضة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. وخلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وعد أحد الأحزاب السياسية بـ “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، بينما حشد الآخر المؤيدين “لإعادة البناء بشكل أفضل”؛ لكن لم يتحدث أحد عن “صباح أمريكي جديد” أو أي شيء من هذا القبيل يوحي بالتفاؤل، فالجميع يمكنهم أن يروا كيف يبدو الوضع قاتماً.
وخلال آخر فوضى وطنية شهدتها البلاد في السبعينيات، تمسك الأمريكيون بفكرة أن السوق سوف تحررهم. وكانت النتيجة حقبة من التبجيل الديني لحقوق الملكية والأسواق في كل شيء؛ ليس فقط كحل للمشكلات الاقتصادية التي تعانيها البلاد، بل وأيضاً لمشكلاتها الاجتماعية والسياسية. وأعيد تصنيف الناس باعتبارهم شكلاً من أشكال رأس المال وطُلب منهم الاستثمار في أنفسهم.
ويتطلب الحفاظ على اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية تحقيق توازن دقيق. ومن الواضح أن الأمريكيين من كل الانتماءات السياسية يفقدون اهتمامهم بصياغة التسويات اللازمة. فعلى الجناح اليميني، هناك استعداد متزايد للتضحية بالديمقراطية. وكما أشار المؤرخ كوين سلوبوديان، في كتابه “المدافعون عن العولمة” الصادر عام 2018، فإن المدافعين عن حقوق الملكية ليسوا معارضين لمشاركة الحكومة في الاقتصاد؛ بل إنهم سعوا، بنجاح كبير، إلى تطويق الملكية بحصن من القوانين المصممة صراحةً للحد من سلطة النظام السياسي.
ومن المفهوم أن يثير هذا الدفاع عن الامتياز غضب العديد من الأمريكيين الذين يفتقرون إلى الأمن الاقتصادي اللازم لإعالة أسرهم أو الفرصة لتحقيق أحلامهم. فهو يغذي العداء الانعكاسي تجاه السوق؛ ما يؤثر على نحو متزايد على المناقشات السياسية بين الليبراليين.
وفي كتابه الجديد “التحرر من السوق”، يذهب مايك كونزال، مدير برنامج الفكر التقدمي في معهد روزفلت، وهو مركز أبحاث يركز على عدم المساواة الاقتصادية، إلى ما هو أبعد من الحجج المؤيدة إلى تنظيم الأسواق أو إنشاء برامج حكومية جديدة لإعادة توزيع الدخل؛ حيث كتب “هذا الكتاب يناقش أن الحرية الحقيقية تتطلب أن نبقى متحررين من السوق”. وفي رأيه، فإن اقتصاد السوق ليس محركاً للازدهار الواسع، وهو بالتأكيد ليس مكملاً للحرية السياسية. ويعلن أن “الاعتماد على السوق هو حالة عميقة من عدم الحرية”.
ويقدم كونزال سرداً مقنعاً للمشكلات التي تسببها السوق؛ ولكن لائحة اتهامه تغفل الطرق التي أدى بها توسع اقتصاد السوق في كثيرٍ من الأحيان إلى إحداث ذلك النوع من التغييرات التي يسعى إلى تحقيقها على وجه التحديد، وأنه على الرغم من كل الشكوك التي تحيط بالسوق في معسكر اليسار؛ فإنه لا يزال يشكل أداة مهمة.
شروط مسبقة للحرية
إن المفهوم التقدمي للحرية هو نتاج عدة قرون من التجربة والخطأ؛ حيث جاء أولاً تأكيد حق الشعوب في التحرر من مختلف أشكال القمع. وهذا هو نوع الحرية الذي تم تكريسه في وثيقة الحقوق للولايات المتحدة؛ لكن المساواة أمام القانون لا تساوي الكثير دون القدرة على المشاركة في كتابة تلك القوانين، لذا جاء بعد ذلك التأكيد أن الحرية تتطلب حق الاقتراع العام.
وكونزال هو أحد أنصار النهج الثاني؛ فهو يريد أن تؤمّن الحكومة الأساسيات اللازمة لجميع الأمريكيين للمشاركة الكاملة في مجتمع ديمقراطي حديث؛ وهي قائمة تشمل الرعاية الصحية، والتعليم الجامعي، والإنترنت واسع النطاق. ويجادل بأن الحكومة يجب أن تقوم بهذه المهمة؛ لأن السوق لن تقوم بها. يقول “إن توزيع السلع في اقتصاد السوق لا يتناسب مع ما نحتاج إليه لعيش حياة حرة”.
وتقدّم العديد من كتب السياسة حججاً نظرية مرصعة بقليل من الحكايات، حيث يشعر المرء أن الخباز يحسد كل شريحة شكولاته يضعها في كعكة الباوند، إلا أن كتاب كونزال ذو طرح أفضل؛ فقد بنى لنفسه اسماً كمدون في الأعوام التي تلت الأزمة المالية، العام 2008، وهو يعرف كيف يروي قصة، وكتابه هو إعادة سرد لتاريخ الولايات المتحدة؛ باعتباره كفاحاً طويلاً للحد من دور السوق.
ويكتب “على مدى قرنين من الزمن، ظل الأمريكيون يناضلون من أجل التحرر من السوق”. وقد حقق الشعب بعض الانتصارات، مثل قسائم الطعام للأطفال وإعانات البطالة والرعاية الصحية لكبار السن؛ لكن في الآونة الأخيرة، لم تكن المعركة تسير على ما يرام حيث تتحدد جودة الحياة بشكل متزايد بالقدرة على دفع تكاليف التأمين الصحي والتعليم والإسكان، حيث الأغنياء يعيشون حياة رغدة، والفقراء يكافحون.
الهروب من السوق
وفي أحد الفصول الذي تدور أحداثه خلال الحرب العالمية الثانية، يروي كونزال عن إنشاء ما يقرب من 36 مركزاً للرعاية النهارية في ريتشموند – كاليفورنيا، لرعاية أطفال النساء العاملات في أحواض بناء السفن في المدينة مترامية الأطراف. ولم تدفع الأسر التي استخدمت هذه المراكز، أو أكثر من 3100 من مراكز الرعاية النهارية الأخرى في زمن الحرب التي فتحت في جميع أنحاء الولايات المتحدة، سوى رسوم رمزية، وتكفلت الحكومة ببقية التكاليف.
ويعتبر كونزال هذا الوضع مثالاً على نجاح الأمريكيين في تجنب استبداد قوى السوق، فقد منحت الحكومة للأمهات خدمةً لم تكن متاحة أو ميسورة الكلفة. لكن الحكومة أقدمت على هذه الخطوة كي تتمكن المرأة من العمل، وحققت هدفها عبر دفع رواتب لنساء أخريات للعمل في مراكز الرعاية النهارية.
وكان معارضو برنامج الرعاية النهارية ينتمون إلى المعسكر الذي يحاول الحفاظ على مساحة خارج السوق. وحسب رأيهم، يجب على الأمهات البقاء في المنزل – على الأقل أولئك اللواتي لا يستطعن تحمل تكاليف رعاية الأطفال دون دعمٍ حكومي. وبعد الحرب، نجح هذا الفريق في إغلاق مراكز الرعاية النهارية المدعومة من الحكومة.
وفي العام 1954 حين أقر الكونغرس تخفيضاً ضريبياً على نفقات رعاية الأطفال، اقتصر القانون في البداية على النساء اللواتي يستطعن إثبات أنهن بحاجة إلى عملٍ مدفوع الأجر. وكان كونزال محقاً حين اعتبر أن رعاية الأطفال يجب أن تكون متاحة بسهولة في الولايات المتحدة اليوم؛ لكن الدعم الحكومي لرعاية الأطفال ليس مجرد مسألة منح الناس حرية المشاركة الكاملة في المجتمع أو في النظام الديمقراطي، بل إنه يمنحهم أيضاً حرية المشاركة في اقتصاد السوق.
ويبدأ كونزال طرحه عبر استعراض واحد من الفصول التأسيسية للولايات المتحدة المعاصرة حيث إعادة توزيع الأراضي الغربية. ويروي حالة الهياج التي أصابت الساحل الشرقي المكتظ بالسكان، والتي أسفرت عن قانون الحيازة الزراعية، وهو التشريع الذي سمح للأمريكيين المطالبة بأرضٍ كافية لإنشاء مزرعة عائلية.
ويجادل كونزال بأن قانون الحيازة الزراعية عكس “طلباً غير مبرر للحفاظ على شيء ما بعيداً عن السوق”. عملياً، استُعمِلت هذه القوانين كوسيلة لتحويل معظم القارة إلى سلعة بحد ذاتها. واستولت الولايات المتحدة على الأراضي التي كان يسكنها الأمريكيون الأصليون، وأعادت تعريفها على أنها ملكية خاصة للبيض.
وقد اكتسب الملايين من صغار الملاك موطئ قدم في اقتصاد السوق مما أعطى مضموناً أكبر للخطاب القائم على المساواة الذي تبناه مؤسسو البلاد. وفي الوقت نفسه، لا يزال طرد الأمريكيين الأصليين من أراضيهم، وحرمان أصحاب البشرة السوداء من ملكية الأراضي، يلقيان بثقلهما على المجتمع الأمريكي والديمقراطية الأمريكية حتى الآن.
الرأسمالية في خدمة الديمقراطية
إن جاذبية خطاب السوق الحرة تكمن جزئياً في بساطته، إذ يتعين على الحكومة أن تحمي الحرية الاقتصادية، التي تعرف تعريفاً ضيقاً باعتبارها حقوق الملكية، وأن تعمل على تيسير التبادل الحر. وقد واجه التقدميون صعوبة في صياغة خيار بديل، لكن ما هي المسائل التي يُفترض أن يطالب بها الأمريكيون إذن؟ بينما تتمثل إحدى الأفكار القوية في كبح تبعية الحرية السياسية للحرية الاقتصادية.
وفي هذا السياق، تقول الفيلسوفة ديبرا ساتز “تعتمد المجتمعات الديمقراطية على قدرة مواطنيها على العمل كأشخاص متساوين”، ولذلك، فعندما “يقوض السوق أو يعرقل العلاقات المتساوية بين الأشخاص، يصبح تنظيم السوق أمراً مبرراً؛ حتى إن كانت تلك الأسواق فاعلة”. ولن تتأثر معظم أنشطة السوق بمثل هذا المبدأ. ويصف كونزال صعود الحركة العمالية ونجاحها في نهاية المطاف في خوض المعارك الشاقة لتقليل ساعات العمل اليومي والأسبوعي باعتبارها نموذجاً للنزعة المعادية للسوق في الحياة الأمريكية. ويكتب أن العمال “أرادوا مساحة ووقتاً بعيداً عن سوق العمل”.
إلا أن هناك طريقة أخرى لتصوير القصة نفسها، ويتم الاحتفال بزعماء النقابات والنشطاء عن حق باعتبارهم “الأشخاص الذين منحوا عطلة نهاية الأسبوع للعمال”. فما أرادوه هو حرية العمل ثم العودة إلى المنزل في نهاية يوم العمل، والبقاء في المنزل يوم السبت؛ فقد أرادوا أن تصبح الرأسمالية في خدمة الحرية.
وكان عهد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، كفيلاً بتلقين الأمريكيين درساً قاسياً حول أهمية السياسة العامة. وقد أتاح بزوغ فجر إدارة جديدة فرصة قيّمة لتطبيق ذلك الدرس؛ فالأمريكيون يحتاجون إلى مساعدة الحكومة للحصول على التعليم، ورعاية أنفسهم وأفراد أسرهم، والسعي وراء الفرص الاقتصادية؛ لكن لا مفر من أن يُفسِد التقدميون هذه الفرصة إذا اعتبروا أن هذه الأهداف هي معركة ضد السوق، فما يحتاج إليه الأمريكيون هو قدر أكبر من الحرية؛ حرية المشاركة في المجتمع الديمقراطي وفي سوق العمل.
المصدر: فورين أفيرز / تعريب: كيو بوست
مصدر الصور: الجزيرة – روسيا اليوم.
موضوع ذا صلة: أثر “الترامبية” على البنية الداخلية الأمريكية
عضو هيئة تحرير صحيفة “نيويورك تايمز” / مؤلف كتاب “ساعة الاقتصاديين.. أنبياء زائفون، أسواق حرة، وتصدع المجتمع” – الولايات المتحدة