يراقب العالم باهتمام شديد التطورات الأخيرة المحيطة بجزيرة تايوان، التي تبرز على الساحة الدولية حالياً باعتبارها أقوى اختبار للإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن، في تعاملها مع الصين، وهو اختبار من المرجح أن يقود إلى الحرب أو السلام في بحر الصين الجنوبي المضطرب. فمنذ دخول بايدن إلى البيت الأبيض، 20 يناير/كانون الثاني 2021، صعّدت بكين من إرسال الطائرات المقاتلة والقاذفات ذات القدرات النووية لاختراق الأجواء التايوانية، مما دفع مسؤولي تايبيه إلى نشر أنظمة صواريخ وإصدار تحذيرات صارمة لمغادرة الطائرات الصينية هذه الأجواء. وتزامنت هذه التطورات المهمة مع تعيين الرئيسة التايوانية، تساي إنج وين، للجنرال السابق تشيو كو تشن، خريج كلية الحرب الأمريكية، وزيراً جديداً للدفاع، مع توقعات بأن يشرف على تعزيز التعاون العسكري مع وزارة الدفاع الأمريكية – البنتاغون بشكل يضمن زيادة القدرات الدفاعية لتايوان لمواجهة أى احتمال لـ “غزو” صيني محتمل للجزيرة.
وكما هو معتاد، ردت بكين بخطاب صارم على أية بوادر لتعزيز التعاون الاستراتيجي والعسكري بين واشنطن وتايبيه، حيث حذر وزير الخارجية الصيني وانغ يي، 7 مارس/آذار 2021، الولايات المتحدة من “تجاوز الخطوط الحمراء واللعب بالنار” بشأن قضية تايوان. ورداً على ذلك، أكدت الناطقة الرسمية للبيت الأبيض، جين بساكي، على أن الولايات المتحدة “ستقف مع الأصدقاء والحلفاء لتعزيز الرخاء والأمن والقيم المشتركة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”، في رسالة واضحة، من جانب واشنطن، على أهمية تايوان الاستراتيجية بالنسبة للوضع الأمني البحري الأمريكي في هذه المنطقة، وعلى مساعي الإدارة الحالية الجادة لبناء تحالف من الديمقراطيات ذات التفكير المماثل، لاحتواء طموحات الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
أهم نقطة اشتعال
التوتر المتزايد بين واشنطن وبكين بشأن تايوان يأتي في وقت تعتبر فيه الأخيرة الجزيرة، التي انفصلت عن البر الرئيسي وسط حرب أهلية العام 1949، مقاطعة منشقة يجب إعادة توحيدها مع الوطن الأم. بينما لا تزال الأولى، التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع تايبيه، العام 1979، بهدف الاعتراف ببكين كممثل رسمي وحيد للصين، أقوى حليف لتايوان ومزوّدها الأول بالأسلحة، لتمكينها من الدفاع عن نفسها وفقاً لقانون أصدره الكونغرس الأمريكي في هذا الخصوص.
وفي هذا السياق، أكد الرئيس الصيني شي جين بينج مراراً، في السنوات الأخيرة، على أن إعادة دمج تايوان تحت حكم الصين أمر “لا مفر منه” ويجب تحقيقه “بكل الوسائل الضرورية” بما في ذلك استخدام القوة العسكرية. وخلال خطابه، في أوائل مارس/آذار2021، أمام المؤتمر الوطني لنواب الشعب الصيني، كرر رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانج التأكيد على مبدأ “صين واحدة”، مشدداً على أن بكين “ستظل يقظة للغاية وتردع بحزم أي نشاط انفصالي يسعى إلى استقلال تايوان”. وقال نائب وزير الخارجية الصيني لو يوتشنغ “إن توحيد الصين عملية تاريخية لا يمكن وقفها، ولا يمكن لأحد، ولا لأية قوة أن توقفها، ولن نسمح أبداً لتايوان بالحصول على الاستقلال.. فمبدأ الصين الواحدة هو خط أحمر لن يتم السماح بتجاوزه.”
ومن جهتها، أكدت إدارة بايدن على أن التزامها تجاه استقلال تايوان “ثابت كالصخر”، وأنها “لن تتخلى عن تايوان” في أية محاولة لإعادة تحسين العلاقات مع الصين. وذهب وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين، إلى حد وصف تايوان بأنها “دولة” وتعهد بإيجاد “مساحة أكبر للاتصالات” مع تايبيه. وفي السياق نفسه، طلبت الإدارة الأمريكية الجديدة الدعم لاستقلال تايوان من الحلفاء الإقليميين، وخاصة اليابان، التي حافظت على علاقات قوية مع مستعمرتها السابقة على مدار عقود، وهو الأمر الذي أسفر عن التأكيد في اجتماع “اثنين زائد اثنين” لوزيري الخارجية والدفاع من الولايات المتحدة واليابان، 16 مارس/آذار 2021، على “أهمية السلام والاستقرار في مضيق تايوان” في إشارة واضحة على عزم الدولتين التعاون معاً لدعم الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي والاستقلال النسبي منذ العام1949.
وبالإضافة إلى ذلك، تبدو إدارة بايدن عازمة على تقديم مساعدات عسكرية ودبلوماسية ملموسة إلى تايبيه، استكمالاً لما قامت به إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، والتي كانت قد سمحت بزيادة مبيعات الأسلحة وبتخفيف القيود على التبادلات الرسمية في المجالين العسكري والدبلوماسي، مما أثار استياء شديداً من جانب بكين. وكان من المؤشرات الدالة على ذلك القرار غير المسبوق الذي اتخذه فريق بايدن الانتقالي بدعوة سفير تايوان الفعلي في واشنطن هسياو بي-كيم رسمياً إلى حفل التنصيب الرئاسي في يناير/كانون الثاني 2021، الأمر الذي قدّمه الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في تايبيه على أنه “اختراق جديد” منذ أن قررت واشنطن، العام 1979، الاعتراف ببكين. هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، وسّعت إدارة بايدن أيضاً من انتشار قواتها العسكرية البحرية في المياه المجاورة للصين، بما في ذلك مضيق تايوان، في إشارة واضحة على التزام واشنطن بتزويد تايوان بوسائل الدفاع عن نفسها، وبحرية الملاحة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. كما بذلت واشنطن، في الآونة الأخيرة، مساعي ملموسة لإقناع حلفاءها في فرنسا وألمانيا وبريطانيا واستراليا واليابان والهند، بتشكيل تحالف عسكري لـ “مواجهة وردع” النفوذ البحري الصيني المتزايد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وربما يكون هذا التحالف العسكري الناشئ في هذه المنطقة هو أحد الدوافع المهمة لقيام بكين، أواخر فبراير/شباط 2021، بإجراء مناورات هجومية غير مسبوقة، شاركت فيها عشرات الطائرات المقاتلة وقاذفات القنابل، بالقرب من جزر براتاس التي تسيطر عليها تايوان في بحر الصين الجنوبي. وجاءت هذه المناورات بعد التدريبات البحرية الصينية “التاريخية”، العام 2020، والتي أطلق عليها “مناورات البحار الأربعة”، واشتملت على نشر حاملات الطائرات الصينية في مضيق تايوان.
توتر مستمر
تفاقم التوتر الأمريكي الصيني بشأن تايوان من المرجح أن يستمر في المدى المنظور، في ضوء عدة مؤشرات مهمة، لعل من أبرزها ما يلي:
أولاً،إعلان إدارة الرئيس بايدن، منذ توليها السلطة في يناير/كانون الثاني 2021، أن مواجهة التمدد الصيني الإقليمي وانتهاكات حقوق الإنسان في الصين ستكون على رأس أولويات سياستها الخارجية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ثانياً، تصعيد الكونغرس من تحركاته الضاغطة على الصين، والتي كان آخرها تقديم أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي، 8 أبريل/نيسان 2021، مشروع قانون أطلق عليه “قانون التنافس الاستراتيجي لعام 2021″، ويهدف إلى السماح للولايات المتحدة بمواجهة “التحديات” التي تشكلها الصين، مشدداً بشكل خاص على ضرورة تعزيز العلاقات بين واشنطن وتايبيه. وبالإضافة إلى ذلك، كرّست لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية للعلاقات الأمريكية – الصينية، التابعة للكونجغرس، في تقريرها السنوي لعام 2020، أحد فصولها الخمسة لتايوان كما قدمت 4 توصيات، كان من بينها منح سفير الأمر الواقع في تايبيه، الذي يعمل حالياً في منصب مدير المعهد الأمريكي في تايوان، ترشيحاً رئاسياً، فضلاً عن إصدار مرسوم يقر بأن الولايات المتحدة “كعضو في أية منظمة دولية، يجب أن تعارض أية محاولات من قبل الصين لإيذاء تايوان من خلال تشويه لغة أو سياسات أو إجراءات المنظمة”. كما مرر الكونغرس الأمريكي أيضاً مؤخراً “مبادرة الردع في المحيط الهادئ”، والتي تم تمويلها بمبلغ 2.2 مليار دولار لعام 2021 من أجل مواجهة قوة الصين العسكرية المتنامية والحفاظ على الهيمنة العسكرية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ثالثاً، ترجيح الجيش الأمريكي أن تٌسرِّع الصين جدولها الزمني للسيطرة على تايوان. ففي 9 مارس/آذار 2021، حذّر قائد القوات الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، الأدميرال فيليب ديفيدسون، خلال جلسة استماع أمام لجنة في مجلس الشيوخ الأمريكي، من أن الصين قد تغزو تايوان في غضون 6 سنوات، أي بحلول العام 2027، لتحقيق هدفها المعلن بالحلول محل الولايات المتحدة كأكبر قوة عسكرية في المنطقة. ويأتي هذا التقدير في وقت عززت الصين قدراتها العسكرية، وباتت أكثر عدوانية مع تايوان، وأكثر حزماً في نزاعات السيادة في بحر الصين الجنوبي، كما أصبحت أكثر صدامية مع واشنطن، وهو الأمر الذي انعكس بوضوح في توجيه كبار المسئولين الصينيين انتقادات حادة وعلنية غير عادية إلى وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكيين في محادثات ألاسكا، 19 مارس/آذار 2021.
رابعاً، توتر العلاقات بين بكين وتايبيه منذ وصول الرئيسة التايوانية تساي إينج وين، من الحزب التقدمي الديمقراطي ذي الميول الاستقلالية، إلى السلطة العام 2016 ثم إعادة انتخابها العام 2020، إذ قطعت الصين جميع الاتصالات الرسمية مع تايوان بعد شهر واحد من تولي تساي منصبها، مشيرة إلى ضرورة أن تقر الأخيرة أولاً بأن تايوان جزء من الصين، وهو ما ترفضه الرئيسة الحالية لتايوان.
وعلى أية حال، ينظر إلى تايوان على أنها قد تكون السبب الأهم لوقوع حرب أمريكية – صينية كارثية في المستقبل. ومما يدلل على ذلك، تحذير مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق هربرت ماكماستر من أن التوترات المتصاعدة عبر مضيق تايوان تمثل “أهم نقطة اشتعال” في العلاقات بين واشنطن وبكين، مشيراً إلى أن تايوان سوف تكون “الجائزة الكبرى القادمة” للصين بعد قمعها للاحتجاجات الديمقراطية في هونج كونج وسيطرتها المتزايدة على بحر الصين الجنوبي. ومما سيزيد الأمور تعقيداً، إصرار مسؤولي إدارة بايدن، بل والحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس الأمريكي أيضاً، على تعميق العلاقات مع تايوان في الفترة المقبلة، الأمر الذي سوف يثير حفيظة وتحذيرات من بكين ضد “التدخل الخارجي” فيما تعتبره “مسألة داخلية”.هذا من جهة.
اختبار صعب
ومن جهة أخرى، ستكون طريقة التعامل الأمريكي مع قضية تايوان كاشفة لمدى مصداقية استراتيجية إدارة بايدن الجديدة المتمركزة حول نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان والليبرالية السياسية في العالم. فأي تحرك عسكري صيني ضد تايوان سيضع إدارة بايدن أمام خيارين لا ثالث لهما؛ الخيار الأول، التخلي عن كيان ديمقراطي صديق. الخيار الثاني، المخاطرة بما يمكن أن يصبح حرباً شاملة حول قضية ليست على لائحة اهتمامات معظم الأمريكيين؛ وإذا نجحت الصين في السيطرة على تايوان باستخدام القوة، فربما يكون ذلك بداية الانهيار للإمبراطورية الأمريكية كما كان تأميم مصر لقناة السويس العام 1956 بداية انهيار الإمبراطورية البريطانية، حيث تحول “الأسد الإمبراطوري إلى مجرد نمر من ورق”، على حد وصف المؤرخ والباحث البريطاني نيال فيرجسون. أما إذا استطاعت واشنطن قلب الأوضاع في تايوان نحو الاستقلال عن بكين، فسنصبح أمام موجة توجه ديمقراطي سيتردد صداه في كل بقاع العالم.
المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية
مصدر الصور: الحرة – Pinterest.
موضوع ذا صلة: هل تتحول تايوان إلى “كوبا” الصين؟
د. أحمد قنديل
رئيس وحدة الدراسات الدولية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية – مصر