حوار: سمر رضوان
بعد الحركات الانفصالية المتتالية التي شهدتها وتشهدها أوروبا، برز معطى جديد تمثّل في “قمة براغ” التي جمعت بين العديد من القوى والأحزاب اليمينية الأوروبية ضمن مؤتمر واحد، عبّروا فيه عن معارضتهم الكبيرة للاتحاد الأوروبي وسياساته مستندين إلى معطيات جديدة عديدة أبرزها وصول عدد منها إلى السلطة، كاستلام زمام الحكم في النمسا، ووصول اليمين الألماني، المتمثل في حزب “البديل لأجل المانيا”، إلى مجلس النواب لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى منافسة زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية اليمينية مارين لوبان على مقعد الرئاسة في فرنسا.
للوقوف على هذه التطورات، سأل مركز “سيتا” الباحث الألماني مانويل اوكسنرايتر، مدير المركز الألماني للدراسات الأوراسية، عن رؤيته لهذه التطورات، لا سيما في النمسا والمانيا، حيث قال بأن “هناك عدد من الأحزاب والمنظمات السياسية المختلفة في أوروبا، والتي تعتبر “يميناً” أو “يميناً متطرفاً”، بدأت تشق طريقها الى النجاح. هذه المجموعات تتوحد في رؤيتها ضد الاتحاد الأوروبي، وسياسة الهجرة الجماعية، وإدارة بروكسل (مقر الاتحاد).”
ويشير الباحث اوكسنرايتر ان معظم هذه الأحزاب السياسية “تختلف عن بعضها البعض عندما يتعلق الأمر بجدول أعمالها السياسي الوطني الداخلي. فعلى سبيل المثال، لدى الجبهة الفرنسية الوطنية أجندة اجتماعية اساسية وصلت الى حد اطلق عليها بعض النقاد لقب “الاجندة الاشتراكية”، في حين أن توجهات حزب “البديل لأجل المانيا” ترنو نحو سياسة السوق المفتوح بشكل اكبر بكثير عن تلك الاجتماعية. اما حزب “الحرية” الهولندي فهو موالٍ للسياسة الاميركية بشكل صريح، اذ يغلِّب مصلحة “الاطلسي” على مبدأ “القارية” والعلاقة مع روسيا.”
وعن سبب وصول هذه الحركات الى السلطة، يقول الباحث اوكسنرايتر “إن سر نجاح هذه التشكيلات السياسية خاصة في النمسا، وكذلك في ألمانيا وفرنسا وهولندا وتشيكيا والعديد من الدول الأوروبية الأخرى، يعود الى أسباب كثيرة ابرزها إن عدداً غير قليل من المواطنين الاوروبيين لم يعودوا واثقين بسياسات الاحزاب الرئيسية، فلقد احسوا بأنها سياسات “الخيانة والاستغلال”. اضافة الى السياسات، لم يعد لدى هذا الجزء من الاوروبيين، ثقة بوسائل الاعلام الرئيسية التي كثيراً ما تكون صوتاً ينقل سياسات تلك الاحزاب والحكومات. من هنا، يعتبر الاتحاد الأوروبي “وحش مالي مجهول”، ينظم حياة الشعوب الاوروبية بشكل تفصيلي من دون ان يكون لتلك الشعوب القدرة على اتخاذ القرار او حتى المشاركة فيه.”
ويضيف الباحث اوكسنرايتر “بالإضافة إلى ذلك، لقد فقدت الحركات الديمقراطية الاجتماعية القديمة والأحزاب في أوروبا قبضتها على الناخبين التقليديين – العمال والموظفين، بينما ركزت القوى المعتدلة واليسارية، في العقود الأخيرة، على الأقليات مثل المهاجرين أو المثليين، بدلاً من تبني سياسة تخدم الشعوب بشكل عام، وهذا ما أدى إلى انحراف الناخبين من الطبقة العاملة من اليسار إلى اليمين. فعلى سبيل المثال، ان الجبهة الوطنية وحزب الحرية النمساويين هما اليوم “احزاب عمَّال”. كما أصبح الديمقراطيون المسيحيون المحافظون، في أوروبا وبنظر العديد من الناخبين الليبراليين ما بعد الحداثة، مفتقدين الى أي قضية سياسية حقيقية. ان صعود “اليمين” يسير، جنباً إلى جنب، مع إفلاس المشهد السياسي التقليدي في أوروبا.”
وعن قمة براغ، يقول الباحث اوكسنرايتر “ان اجتماع براغ كان مؤتمراً للمجموعات الأوروبية بعنوان “من أجل القومية والحرية”، وهو عبارة عن تحالف سياسي بين عدد من الأحزاب اليمينية الأوروبية، على سبيل المثال الجبهة الوطنية الفرنسية، وحزب الحرية النمساوي، وتجمع الشمال الإيطالي. وقد استضاف المؤتمر الحزب التشيكي “الحرية والديمقراطية المباشرة” الذى حقق نجاحاً كبيراً في الانتخابات البرلمانية التشيكية الاخيرة. وهذه المؤتمرات لا تختلف عموماً عن أي مؤتمر أوروبي آخر تعقده جماعات سياسية ليبرالية أو محافظة أو يسارية.”
وعن مستقبل الاتحاد الاوروبي في ظل نمو هذه الحركات، يشير الباحث اوكسنرايتر الى امر مهم جداً حيث يقول “لا ينبغي علينا الوقوع في فخ الخلط ما بين الاتحاد الأوروبي وأوروبا. تريد الاحزاب الاوروبية الرئيسية ان تصور لنا بأن مصير اوروبا مرتبط بالاتحاد والعملة الموحدة. ان الاحزاب المناهضة للاتحاد الاوروبي، من اليمين، هي مناهضة للاتحاد ولسيت مناهضة لأوروبا، وهذا شيء مهم يجب ايضاحه. أوروبا لديها العديد من المشاكل الناجمة عن الاتحاد الأوروبي والحكومات الوطنية، وبذلك فإن نمو القومية يعتبر رد فعل طبيعي ضد سياسات بروكسل، والحركات الانفصالية الإقليمية هي ايضاً رد فعل طبيعي على سياسة الدولة الداخلية.”
وفي ايضاح اكثر، يرى الباحث الالماني “ان العودة قليلاً إلى دول أوروبا، في القرن التاسع عشر، ستكون خطرة ومدمرة اذ لا أحد من القوى والاحزاب اليمينية يريد او يدعو الى ذلك. بطبيعة الحال، هناك هامش “مجنون” من تلك المجموعات يعزز السياسة القومية المتطرفة التي تشمل الأعمال العدائية بين الدول الأوروبية، وهذا ما قد يذهب بأوروبا من السيئ إلى الأسوأ.”
وعن مدى ارتباط وجود دول قومية “أمة” في اوروبا، حال تفكك الاتحاد الاوروبي، بالنزعة الاستعمارية القديمة، يقول الباحث اوكسنرايتر “أولا وقبل كل شيء، لا تزال الدول القومية “الامة” قائمة، فهي اعطت فقط بضعاً من حقوقها السيادية الى الاتحاد. ان ما يوحد جميع القوى اليمينية، تقريباً، هو موقفهم الإيجابي من الديمقراطية المباشرة كما هو الحال في سويسرا. في ألمانيا مثلاً، يدعو حزب “البديل لأجل المانيا” إلى إجراء استفتاءات شعبية بشأن القرارات الهامة. وللاجابة على هذا السؤال، سأتحدث عن المانيا تحديداً لأقول بأن غالبية الألمان يعارضون بشدة أي تدخلات عسكرية أو سياسية في البلدان الأخرى، مثال المعارضة القائمة حول زيادة عدد القوات الالمانية العاملة في الناتو في افغانستان وكوسوفو، كما انها تقف ضد إذكاء الحرب مع الاتحاد الروسي.”
وعن السياسات الاوروبية، يشير الباحث اوكسنرايتر، انه وفي الوقت الراهن، إن “التحالفات العابرة للحدود الوطنية، كالاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تدفع إلى وضع سياسة يمكن أن نطلق عليها “الاستعمار الجديد”. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إن الفوضى في ليبيا، والحرب في سوريا، لم تحدثا بإسم وإرادة المواطنين الأوروبيين، بل كانت في صالح استراتيجيات واشنطن وبروكسل. برأيي، أن الدول الوطنية “الامة”، ذات النظام السياسي القوي والديمقراطي المتوجه نحو الديمقراطية الحقيقية، لا ترغب في أية مغامرات استعمارية جديدة.”
وعن سياسات واستراتيجيات الدول “الامة”، يقول الباحث اوكسنرايتر “ليس هناك بديل لمفهوم الدولة “الامة” في أوروبا اليوم. والسؤال هو ليس عدم وجود الدول “الامة”، ولكن السؤال هو كيف ستبني هذه الدول “الامة” اقتصادياتها وأمنها كي تُظهر المصلحة الاوروبية تجاه الأقطاب الجيو-سياسية الأخرى، وكيفية تجنب الأعمال القتالية والمشاكل داخل القارة الأوروبية.”
وعن شكل العلاقة بين هذه الدول والاتحاد الروسي، يشير الباحث اوكسنرايتر الى انه “لا ينبغي علينا أن ننسى روسيا ليست “جارة لأوروبا”، روسيا هي أوروبا، او على الأقل في جزء كبير وهام منها. من اجل أن تكون هناك علاقات جيدة مع روسيا فهذه مهمة أوروبية داخلية. في المقابل، لا تزال واشنطن تحاول الحفاظ على خندق عميق بين الدول الاوروبية والاتحاد الروسي. هذا الفصل هو فصل مصطنع ليس في مصلحة الدول الأوروبية او روسيا، لكن فوائده تعود على الولايات المتحدة ذاتها. في حين ان الولايات المتحدة تمثل القوة الإقليمية الكبرى لأوروبا، تمثل موسكو قوة أوروبية. ان علاقات طويلة الأمد مع روسيا هي ضرورة مطلقة لـ “أوروبا آمنة”، فالتوترات بين القوى الأوروبية وروسيا تشكل خطراً عميقاً على القارة.”
مصدر الصور: البديل – جريدة النهار