شهد الملف التركي – الأرميني تحوّلاً بارزاً على مستوى إشارات وتصريحات من الجانب الأرميني الرسمي تفيد برغبة أرمينيا تحسين العلاقات مع تركيا، وفتح صفحة جديدة تؤسس لمرحلة من الإيجابية.
لكنّ ما هي فرص تطبيع العلاقات التركية – الأرمينية بعد عقودٍ طويلة من ترديد أرمينيا لأحداث تاريخية حول أحداث 1915، واحتلالها أجزاء من الأراضي الأذرية؟ وما هي فرص تحقيق هذا التطبيع؟ ما العوامل الداعمة، وتلك المعرقلة له؟
في حديث لـ “وكالة أنباء تركيا”، قال الصحافي المتخصص في الشأن التركي سركيس قصارجيان، إن “محاولات التقارب الأرميني – التركي بدأت بشكل جدّي قبل عقد، بالتزامن مع سياسة (صفر مشاكل) التي أعلن عنها حزب العدالة والتنمية مع وصوله إلى السلطة في تركيا”، ورأى قصارجيان أن “العملية مثل غيرها من مسارات المصالحة لم تكتمل بسبب التحوّل الذي شهدته السياسة الخارجية التركية مع تفرّد الرئيس رجب طيب أردوغان في حكم الحزب والجمهورية على حدٍّ سواء”، على حد تعبيره.
وأضاف قصارجيان “اليوم، تبدو احتمالات إحياء هذا المسار قائمة، وذلك لأن كِلا السياسيَّين في الجارتين اللدودتين بحاجةٍ إلى تحريك المياه الراكدة لحسابات السياسة الداخلية.. نيكول باشينيان في أرمينيا وأردوغان في تركيا كسبوا الانتخابات لكن بالمناصفة تقريباً، هذا يعني وجود كتلة معارضة وازنة لهما”.
وتابع قصارجيان قائلاً إن “البلدين، مع الفارق الكبير جداً في المستويات الجيو – سياسية والاقتصادية بينهما، إلا أنهما يمرّان بأزمةٍ اقتصادية لا مثيل لها منذ عقود، وبالتالي أيّ تقاربٍ مع (العدو) سيُحسب لهما، هذا من ناحية حسابات السياسة الداخلية والانتخابات”، وأردف قائلاً “أما لجهة السياسة الخارجية، فإنّ تطبيق بنود اتفاق الهدنة الأخير بين يريفان وباكو، وخاصة المتعلّق منها بإنشاء ممرّ يوصل أذربيجان بتركيا مروراً بإقليم ناخيتشيفان، يتطلّب حكماً وجودَ حد أدنى من التواصل بين الجانبين الأرمينيّ والتركيّ لنجاح هذه المهمّة”.
وحول هذا الخصوص، قال قصارجيان إنه “من المعروف أن هذا الاتفاق يحظى بمباركةٍ روسيةٍ وتركية، فيما تأمل أرمينيا الاستفادة اقتصادياً من الطريق الحيويّ، فإن فتح هذا الطريق سيشكّل نقطة تحوّل بالنسبة لتركيا في الجانبين السياسي والاقتصادي”.
وفي معرض الإجابة حول العوائق والعراقيل المتوقعة بوجه هذا التطبيع، رأى قصارجيان أنها “كثيرة جداً، وأهمها المزاج الشعبيّ الأرمينيّ المعارض له، خاصةً في الشتات الذي يرى في نفسه أبناء الإبادة الجماعية الأرمنية، وصاحب الكلمة العليا في تقرير مصير العلاقة الأرمينية التركية في ظل عدم اعتراف تركيا رسمياً بهذه الجريمة”، حسب قوله.
ووفقاً لقراءته، رأى قصارجيان أن “الحرب الأخيرة أعادت إحياء (المخاوف الوجودية) لدى الشعب الأرمينيّ، في ظلّ الدعم العسكريّ والميدانيّ التركيّ لأذربيجان والخطاب أحاديّ الجانب، مقابل تراجع روسيا من دور الداعم لأرمينيا إلى دور الوسيط”.
من جانبه، قال المحلل السياسي إسماعيل كايا “شهدنا في الأيام الأخيرة تصريحاتٍ إيجابية متبادلة من الجانبين (تركيا وأرمينيا)، وهي خطوة مهمة جداً على طريق كسر الحواجز النفسية والتاريخية لرفض الحوار بينهما، وبالتالي فإنها إشارات إيجابية”، لكن كايا رأى أنه “من المبكر جداً الحديث عن إمكانية إحداث اختراقٍ حقيقيّ في العلاقات المعقّدة بين تركيا وأرمينيا والتخلّص من الأعباء التاريخية الثقيلة”.
وعن هذه الأعباء، قال كايا إن “هناك الكثير من العقبات التي تعيق إحداث اختراق في العلاقات بين البلدين، لكن أهمّها على الإطلاق أحداث عام 1915 التي وقعت في الدولة العثمانية إبّان الحرب العالمية الأولى”، موضحاً أن “الأرمن يصرّون على اعتبار ما جرى (إبادةً جماعية)، وتشدّد تركيا على أنها (مأساةٌ للجانبين) حيث ارتكب الأرمن مذابح فظيعة بحق المسلمين والأتراك ووصل عدد الضحايا إلى مئات الآلاف”، لافتاً إلى أن “الجديد في هذا الإطار هو تراجع أمل الأرمن في تحقيق أي نتائج حقيقية من لوبيّاتها الخارجية والضغط على دول العالم لاعتبار ما جرى (إبادة جماعية)”.
وبيّن كايا أنه “رغم الاعتراف الأمريكي وما سبقه من اعتراف دول أخرى، فإن الأرمن لم يحصدوا أية نتائج؛ وبالتالي، هذا مؤشر على إمكانية اتّباع طرق جديدة لتحقيق نتائج ومنها الحوار المباشر مع تركيا”. أما “التحوّل الثاني والكبير” بحسب كايا، فهو “ما جرى خلال حرب كاراباخ الأخيرة، حيث واجهت أرمينيا خيبة أملٍ كبيرة جداً بعدما فشلت في الحصول على دعمٍ أمريكيّ أو أوروبيّ في حربها مع أذربيجان وهو ما يدفعها لإعادة النظر في بناء تحالفاتها من جديد”، وأردف أن “نتائج الحرب وطرد الاحتلال الأرميني من كاراباخ ينزع واحدةً من أبرز نقاط الخلاف ويجعل تركيا أكثر انفتاحاً على إعادة تطبيع العلاقات، لا سيّما وأن تركيا وبعد مجموعة من التدخلات العسكرية الناجحة في سوريا والعراق وليبيا وكاراباخ باتت تُغلّب الدبلوماسية لحصد نتائج سياسية لعملياتها العسكرية وإعادة رسم خارطة العلاقات والسياسية مع الكثير من الدول ومنها أرمينيا”.
وأضاف كايا “فجّرت الهزيمةُ في حرب كاراباخ وفشلُ الحصول على دعمٍ غربيّ زلزالاً سياسياً في الداخل الأرميني، وهو ما قد يدفع نحو اتخاذ قراراتٍ جريئة بإعادة بناء خريطة التحالفات”، موضحاً أن “ما قد يساهم في ذلك هو حجمُ النفوذ الروسيّ على السياسيين في أرمينيا، بالتوازي مع العلاقات التركية الروسية المتقدّمة، وهو ما يمنح موسكو موقع الوسيط القادر على ممارسة الضغط على أرمينيا لتحقيق تقدّم في هذا الملف”، مؤكداً أن ملف المفاوضات التركية – الأرمينية “سيحتاج إلى سنوات من الخطوات الصغيرة والتدريجية التي يمكن أن تؤسّس لبناء الثقة، قبيل الحديث عن إمكانية بحث الملفات التاريخية والخلافات الجوهرية بين البلدين”.
وفي 20 سبتمبر/أيلول (الجاري) 2021، أكدت المتحدثة الرسمي باسم الحكومة الأرمينية، ماني جيفوركيان، استعداد أرمينيا لإجراء محادثات على مستويات عليا مع تركيا، من أجل المضي في تطبيع العلاقات بين البلدين، حيث قالت في تصريحات لوكالة أنباء “انترناكس” الروسية، إن “رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، أظهر نيته لبدء المفاوضات مع تركيا من خلال حديثه في البرلمان”، مؤكدة أن “باشينيان يولي أهمية كبيرة لتنفيذ خطة فتح ممر بين أذربيجان وناختشيفان، من أجل ضمان فترة كبيرة من السلام والاستقرار على المدى الطويل”، مشيرة إلى أنه “لا يوجد حالياً اتصال بين تركيا وأرمينيا”، مؤكدة أن “يريفان مستعدة للحوار مع تركيا على أعلى مستوى”.
وقبل ذلك بيوم واحد، كشف الرئيس أردوغان، أن رئيس الوزراء باشينيان طلب عبر أحد الوسطاء عقد لقاء معه. كلام الرئيس التركي جاء خلال مؤتمر صحفي عقده في مطار أتاتورك في إسطنبول قبيل مغادرته إلى مدينة نيويورك الأمريكية للمشاركة باجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث قال الرئيس أردوغان إن “رئيس الوزراء الأرميني أرسل لنا رسالة عبر رئيس الوزراء الجورجي (إيراكلي غاريباشفيلي) لعقد لقاء معنا”، متابعاً “إذا كان يرغب (باشينيان) بلقاء مع رجب طيب أردوغان، فلا بد من اتخاذ خطوات معينة هنا.. نحن لسنا منغلقين على المفاوضات”. كما شدد أنه على أرمينيا أن “تتخذ نهجاً إيجابياً تزامناص مع هذا الطلب.. وإذا كان (باشينيان) صادقا حقا في توجهه، فسأظهر أنا أيضاً صدقنا في هذا الأمر”.
وفي 8 سبتمبر/أيلول الجاري (2021)، أعرب باشينيان عن رغبة بلاده بتطبيع العلاقات مع تركيا. كلامه هذا جاء خلال اجتماع للحكومة الأرمينية في العاصمة يريفان، حيث قال “نحن على استعداد لإجراء مشاورات من أجل تطبيع العلاقات مع تركيا وإعادة إحياء النقل البري وخط السكك الحديدية”، متابعاً “نحن مستعدون لمثل هذا اللقاء ويمكننا توسيعه أكثر أيضاً”، موضحاً أن “روسيا أبدت استعدادها للمساعدة في هذا الأمر”. كما أشار إلى أن “الاتحاد الأوروبي وخاصة فرنسا والولايات المتحدة مهتمون بهذا الأمر”.
يذكر أنه في 14 أغسطس/آب 2021، أعرب باشينيان عن “استعداد أرمينيا تطبيع العلاقات مع تركيا، وفتح الحدود بين البلدين”، قائلاً – خلال مقابلة تلفزيونية محلي – إن “أرمينيا مستعدة لعودة العلاقات مع تركيا ونحن الآن جاهزون لذلك”، مضيفاً، أن “غياب العلاقات الدبلوماسية بين أرمينيا وتركيا وإغلاق الحدود يؤثر سلباً على الاستقرار والسلام الإقليميين”، مؤكداً “نحن مستعدون للحفاظ على العلاقات دون شروط مسبقة من أجل خلق جو من الثقة المتبادلة بين أنقرة ويريفان”.
وفي 11 فبراير/شباط 2021، قال وزير الخارجية الأرميني، آرا إيفازيان، إنه “لا يوجد مبرر لتأجيل إعادة افتتاح الحدود مع تركيا”، مشيراً إلى أن بلاده “ترجح الدبلوماسية والحوار”، مضيفاً – في كلمة له بمجلس النواب الأرميني – أن “الوضع في إقليم (كاراباخ) قد تغير، لهذا السبب لا توجد أية مبررات لإبقاء الحدود مغلقة مع تركيا”.
فيما أشار وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، 12 ديسمبر/كانون الأول 2020، إلى إمكانية تطبيع العلاقات مع أرمينيا بالتنسيق مع أذربيجان، وذلك بشرط التزامتها باتفاق وقف إطلاق النار في إقليم “كاراباخ”.
وفي 29 أغسطس/آب 2021، أعرب الرئيس أردوغان عن “استعداد تركيا للتطبيع التدريجي مع أرمينيا في حال انتهجت الحكومة الأرمينية مواقف واقعية وابتعدت عن كيل الاتهامات الأحادية”.
من الجدير ذكره، أن تركيا أغلقت حدودها مع أرمينيا لدعم أذربيجان العام 1993، وذلك بعد فترة وجيزة من إعلان أرمينيا الاستقلال، العام 1991، واحتلال إقليم “كاراباخ” الأذري.
وفي 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أعلن الرئيس الأذري إلهام علييف، الاستسلام الكامل للقوات الأرمينية التي تلقت خلال الفترة الماضية ضربات موجعة من قبل الجيش الأذري في الإقليم، بدعم تركي، كما أعلن علييف وقفاً نهائياً للاشتباكات بين أذربيجان وأرمينيا بموجب الاتفاق الجديد الذي تم توقيعه بين أذربيجان وروسيا وأرمينيا.
المصدر: وكالة أنباء تركيا
مصدر الصور: الوفد – العربية.
موضوع ذا صلة: ناغورنو كاراباخ.. مدخل إلى فصل القارة؟!
كاتبة وصحفية لبنانية مقيمة في تركيا