ذكرنا في تقديم هذا الموضوع أن محكمة التاريخ ليست منصة لتصفية الحسابات مع حاكم أصبح فى ذمة الله، وذكرنا أيضاً أن من يتصدى لهذه المهمة لا بد أن يتحلى بالفضائل التي تتوفر عند القاضي، وأن يبحث عن أدلة ثابته في المسائل الكبرى؛ ولذلك، سنبدأ في تقديم الحكّام العرب بداية بمصر من اللواء محمد نجيب إلى الرئيس حسني مبارك لأن ما بعده ليس موثقاً، كما أن الحكم على ما بعد الرئيس مبارك صعب للغاية في حضور خلافات جذريّة بين الشخصيات التي حكمت مصر.
وحتى “ثورة 25 يناير” لم يحن الوقت المناسب للحكم عليها وتوثيق أحداثها، ولكن يمكن أبداء انطبعات عامة لا تصلح أمام محكمة التاريخ.
وقبل أن نبدأ فى الحلقة القادمة للرئيس محمد نجيب، سنبدي بعضاً من الملاحظات العامة الآتية:
1. مر العالم العربي بدورة كاملة من التطورات والاحداث وظهرت الوثائق والايضاحات والشهادات اللازمة للمحاكمة؛ ولذلك، لا نبالغ إذا قلنا أن الحكام العرب هم الأعلى صوتاً في الوطنية والقومية ومحاربة إسرائيل والعروبة والعدالة الاجتماعية والحرص على الوطن هم أول من ضيع هذه الأوطان. ولا شك أنهم كانوا يدركون أن الحكم الاستبدادي لا يخدم وطناً أو مواطناً، وأنه كان متعة شخصية للحاكم العربى وللأسف لا يدرك هذا الحاكم موطن الخلل فى حكمه.
2. تصدي لمهمة الحكم أبعد العناصر في الأمة عن الكفاءة والفكر، واستحضر في هذا المقام الرؤساء الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك والعقيد معمر القذافى و الرئيس صدام حسين. فهؤلاء أبدوا في تصريحاتهم أكبر درجات الحرص على الأمة العربية والتعلق بشعاراتها، وسوف نوضح كيف أن هؤلاء الحكام لم يعترفوا بأخطائهم حتى عندما أتيح لهم ذلك.
3. أسيء للأمة العربية عندما لم يفهم هؤلاء أن هناك جيوباً عرقية وثقافية وقومية تتخلل هذه الأمة، ولكنهم فصلوا بين العرب وغيرهم من الأعراق والطوائف والمذاهب الدينية فترتب على ذلك أن الكرد في العراق مثلاً باتوا يقتربون من إسرائيل ويبغضون كل ما هو عربي. وقد لمست ذلك بنفسي عندما أتيح لي أن أكون أستاذاً زائراً في كلية التنمية البشرية في السليمانية، حيث ألقيت دروسي باللغة الإنجليزية وربما ترجموها إلى اللغة الكردية وفصلوا لي أسباب هذا الموقف من تجربتهم مع الرئيس العراقي صدام حسين – الذي تحالف أعداؤه معهم – فلقد سيق إلى الأعدام وهو يشعر أنه حقق للعراق ما يفخرون به لولا المؤامرة.
4. إن الحكّام العرب الذين يستدعون إلى محكمة التاريخ هم حكّام الشعارات القومية دون غيرهم، وهم يعتقدون جميعاً أنهم هم الوطن وأنهم حرّاس هذا الوطن، وربما مد الحاكم هذه المقولة إلى مجمل طائفته والمناصرين له كما يعتقدون أنهم “ضحايا” مؤامرة من الغرب، ولم يدركوا فى أية لحظة علاقتهم السرية مع الغرب، ولم يدركوا أيضاً أنهم كانوا ظاهرة صوتية وأنهم هدية لإسرائيل، وأنهم السبب في ازدهار الأخيرة والقضاء على العروبة بدليل أن الرئيس عبد الناصر رأى بنفسه مشروعه القومي المعتمد على الشعارات وعلى الحشد يسقط أمام عينيه العام 1967، وعاش بعدها 3 أعوام – كما يقول دكتور مراد غالب في مذكراته – يجتر أحزانه دون أن تواتيه الشجاعة بالاعتراف بأخطائه وأهمها أن الشعب المصري تغذى على الشعارات، حيث أكتشف الفارق الهائل والمطلق بين الواقع وهذه الشعارات. ولو لم تقع مأساة 1967، لكان الشعب المصري يتغنى بالانتصارات الوهمية وهو سعيد بواقعه.
5. إن إسرائيل – في نظر كل الحكّام من هذه الفئة – كانت تمثل رأس الحربه للمؤامرة، وقد عبر عن ذلك كل هؤلاء الرؤساء – من القذافي وصدام وعبد الناصر – ولكن الرئيس السادات كان يدرك أن منصبه وسلطته يمكن تأمينها بالمصالحة مع إسرائيل وواشنطن. وبالفعل، مكّن لهما ثم أنتهى دوره فلقى مصيره المحتوم. وكان الرئيس القذافي يؤكد أن البيان المشترك للقمم العربية يكتب في واشنطن ويوزّع قبل ساعات على الرؤساء العرب، وقد ثبت صحة ذلك. ثم أنه القائل أن واشنطن هي “محور” أحلام وتحركات الحكام العرب، ولا أقول أنهم عملاء لها ولكنهم يحرصون على حماية أوطانهم من غدرها. لكن كل هؤلاء الحكام الذين أطلقوا الشعارات – التي قد تكون حقيقية – لم يمتلكوا القدرة على تحقيقها، فسقطت الأوطان العربية بين الآمال والواقع على أبسط الفروض.
قلنا أن هذه السلسلة من المقالات – بعد التمهيد لها – سوف تجمع في كتاب عنوانه “الحكّام العرب أمام محكمة التاريخ”، وليس صدفة أن كل هؤلاء الحكّام ينتمون إلى نظم جمهورية، وأنهم كانوا فى فلك الاتحاد السوفيتي؛ ولذلك، استخلص بعض الباحثين أن واشنطن هزمت موسكو السوفيتية في العالم العربي قبل أن تفكك الاتحاد السوفيتي نفسه.
مصدر الصورة: وكالة الصحافة الفرنسية.
موضوع ذا صلة: إصلاح الحاكم والمحكوم في العالم العربي
د. عبدالله الأشعل
سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر