جاءت زيارة وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد آل نهيان، إلى سوريا كالصاعقة في وقتٍ لم يكن أحد يتوقعه، هذه الزيارة هي الأولى من نوعها منذ العام 2011، مع بداية الأزمة السورية، والتي هي بشكلٍ أو بآخر لا تزال مستمرة لكنها بالطبع أخف حدّة عن السابق.

الشكل العام لهذه الزيارة – بالطبع – يحمل عنواناً رئيسياً وهو كسر عزلة سوريا؛ أما العناوين الفرعية فكانت “بحث العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين، وتطوير التعاون الثنائي في مختلف المجالات ذات الاهتمام المشترك، وتكثيف الجهود لاستكشاف آفاق جديدة لهذا التعاون، وخصوصاً في القطاعات الحيوية من أجل تعزيز الشراكات الاستثمارية”، وهذا بطريقةٍ أو أخرى، يعيدنا بالذاكرة إلى حصار العراق، ضمن سياسة قديمة – جديدة، تحت عناوين اقتصادية في الظاهر، لكن الباطن يحمل من علامات الاستفهام الكثير، خاصة التوقيت، و”التكويعة” إن جاز التعبير التي تبيّن انحرافاً مغايراً 180 درجة عن عزلة دمشق السابقة والتي بدأت العام 2011 ومستمرة إلى الآن خصوصاً وأن العقوبات الغربية لا زالت قائمة ومفعلة وبالإضافة إلى أن دمشق لم تعد بعد إلى مقعدها الدائم في الجامعة العربية (وهي عضو مؤسس فيها) رغم أن المؤشرات تنذر بقرب العودة، لكن ثمّة متغيّرات تثير الريبة على الرغم من أن عناوينها برّاقة.

لكن لنبتعد قليلاً عن التصريحات الروتينية التي خرجت من دمشق أو أبو ظبي، أو أية دولة أخرى، بين من يؤيد هذه الخطوة وآخر يعارض وما بينهما، فمن المؤكد أن الولايات المتحدة بدأت بمكانٍ ما من تغيير الموقف منذ اقتراح مشروع مد لبنان بالغاز المصري، عبر سوريا والأردن، وهذا يتعلق بكسر ما يسمى “قانون قيصر” الذي سيسمح لدمشق بتنفس الصعداء في ظل وضع اقتصادي خانق يعيشه الشعب السوري، الذي لم يقرأ من كل هذه الزيارة إلا أن تكون متنفساً لبلاده حتى ولو كانت تحمل ضمناً أي مشروع خفي ضد إرادة بلاده، لأن أمام إرادة الحياة تتحطم صخرة التزَّمت السياسي وإن كان هذا الأمر قد أغلق أبواباً كثيرة بوجه دمشق في أوقاتٍ سابقة.

لقد حملت الزيارة عدة ملفات في سلة واحدة، منها بحث عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ومن ثمة حضور القمة العربية في الجزائر، وزيارة محمد بن راشد ولي عهد أبو ظبي المرتقبة إلى سوريا، كذلك زيارة الرئيس بشار الأسد إلى دولة الإمارات، كما أن هذه الزيارة ستكون تمهيداً لكثير من الزيارات المشابهة لاحقاً لوزراء خارجية عرب آخرين.

أما الأسباب الأخرى التي قد تكون الأهم فأبرزها ضرب المعارضة خاصة تلك المحسوبة على تركيا، وهذا يبيّن أن الموقف الإماراتي تغير نتيجة الضغط الأميركي على دول الخليج، فالأمور التي مهدت لهذه الزيارة، هي التوغل التركي في الأراضي السورية والعراقية، إضافة إلى التهديد التركي مؤخراً ضد الوجود الكردي في سوريا، زد على ذلك زيارة الملك الأردني، عبدالله الثاني، الأخيرة إلى العاصمة الأمريكية واشنطن والجميع أطلع على مضمونها بما يتعلق بسوريا آنذاك.

من هنا، يمكن القول بأن لدولة الإمارات – حتماً – دور قوي، فهي تسعى للرّيادة وبحسب المعطيات تعمل على وصل ما قطع خلال العقد الأخير، فإذا كانت البداية من سوريا، لن تكون النهاية في اليمن، حيث سنجدها حاضرة في أكثر من ملف وفي أكثر من بقعة جغرافية. هذا الموقف هو قديم لكنه احتاج إلى أن يطفو على السطح في الوقت المناسب، فلقد وقعت حكومة أبو ظبي مع حكومة بغداد عقداً لبناء 5 محطات كهرو – شمسية لتوليد الطاقة، في وقت كانت قد خفضت إيران الحصص التي كانت تمد بها العراق، على خلفية ارتفاع الدين وعدم وفاء الديون، وهذه نقطة لافتة لعبتها الإمارات بذكاء شديد، ما أعطى درساً لبغداد أنها لا تستطيع أن تعزل نفسها عن محيطها العربي، وأنها بحاجته حتى ولو كانت المواقف السابقة لا تنذر بأن المحيط العربي كان يهمه عمار أو دمار هذه الدول بشيء.

أما أنواع وأشكال الاستثمارات في سوريا فمن السابق لأوانه معرفة كيف ستتطور الأمور، لكن من المؤكد أن الإغراءات في هذا الجانب ستكون كبيرة جداً. لن نقول أنه يأتي في مسعى بأن تدخل دمشق في قطار التطبيع لأن هذا بعيد كل البعد حالياً، لكن قد يدخل في ما يسمى “سياسة التركيع” من البوابة الاقتصادية، وهنا سنذكر مثالاً يُضرب ولكن حتماً لا يُقاس عليه، فكلنا يتذكر أن صندوق النقد الدولي كان سيمد لبنان بقرض يخفف من وطأة أزمته الاقتصادية الشديدة، لكن نظراً لتقلبات الملف السياسي والاقتصادي فيه، دخل هذا البلد في معارك سياسية لا تنتهي، إلا أن أياً من الوعود السابقة لم يتحقق، عندما أراد المجتمع الدولي الضغط على لبنان اقتصادياً لأسباب معروفة على الصعيد السياسي، وهنا يكمن الخوف على سوريا والعراق وأي بلد عربي آخر، عندما لا يكون ظاهر العلاقات أخوي بكل معنى الكلمة.

زد على ذلك، وبعيداً عن المدخل الاقتصادي، لا بد من تبيان نقطة غاية في الأهمية، وهي ملف اللاجئين السوريين، في ضوء أنه رقم كبير لا يُستهان به، وقد يشكل عقبة حقيقية في ضوء أي حل مرتقب؛ بالتالي، الإمارات لم تهمل هذا الجانب وبالطبع لها فيه مآرب ستستفيد منها في فرض بعض الأمور، لكن عندما تتمكن اقتصادياً، فاليوم وتحديداً في “إكسبو دبي 2020” تم توقيع العديد من الاتفاقيات مع الجانب السوري، وأول كسب الورقة الأولى.

من زواية أخرى، لننظر إلى موقف الولايات المتحدة. إلى الآن، تبين أن إدارة الرئيس جو بايدن تقف ضد التطبيع العربي مع دمشق، لكن الأكيد والذي بتنا نعيه جيداً أن أي أمر من هذا القبيل ما كان ليحدث لولا الضوء الأخضر الأمريكي، ولا يمكن لأي باحث سياسي أو محلل أو قارئ للمعطيات بشكل جيد أن يقرأ الأمر إلا من هذه الناحية، وإلا نكون نخدع أنفسنا قبل أن نخدع الشارع العربي.

بالعودة مرة جديدة إلى الأردن، نعلم جيداً أن الملك عبدالله الثاني كان قد قاد تطبيعاً إقليمياً سريعاً مع حكومة الرئيس الأسد، منذ أن التقى الملك بالرئيس الأميركي في البيت الأبيض، يوليو/تموز 2021، رغم أن هذا الأمر يتعارض مع السياسة الأميركية تجاه سوريا ويتعارض أيضاً مع القانون الأميركي. لكن إدارة الرئيس بايدن قررت أنها لن تكافح بنشاط هذا الاتجاه التطبيعي مع سوريا بعد الآن (ظاهرياً)، ونعلم أن الأمر انتهى بمكالمة بين الملك الأردني والرئيس السوري بعد أكثر من 10 أعوام من الانقطاع، وانتهى الأمر بفتح الحدود مع سوريا. وعند تضييق الخناق على سوريا، أغلقت كل الأبواب آنذاك في وجه دمشق، أيضاً بأوامر أمريكية، التي رحبّت بإعلان فتح الحدود الأردنية – السورية، رغم امتعاض الأطراف الموالية لواشنطن آنذاك، وهذا يبين أن إدارة الرئيس بادين أعطت تطمينات للأردن بأنه لن يُعاقب بموجب “قانون قيصر”، وهو القانون الأميركي الذي يهدف إلى منع التطبيع مع سوريا برئاسة الأسد، هذا الأمر ينطبق على الإمارات أيضاً.

إلى ذلك، رحبت فرنسا بتلك الزيارة بشكل غير مباشر، رغم أن لا نوايا فرنسية للتطبيع مع دمشق في هذه المرحلة، ولأن الزيارة الإماراتية إلى سوريا لم تكن حدثاً اعتيادياً، كونها تعتبر الزيارة الأولى من نوعها. لكن مجرد الترحيب الضمني يعتبر مهماً في هذه المرحلة وبوابة لتغييرات كثيرة مقبلة على المنطقة، فهذه الزيارة فتحت الباب على مصراعيه إزاء عودة سوريا إلى المحيط العربي في وقت يدور تساؤل كبير حول رأي السعودية، ومدى مباركتها لتلك الخطوة التي تؤكد أوساط عديدة، بأنها لم تكن لتتم لولا وجود ضوء أخضر من واشنطن. لكن موقف الرياض – تحديداً – من تطبيع مع دمشق سيكون مرتبطاً بخروج إيران من المعادلة وهذا أمر ليس بجديد، لكنها لن تنتظر هذا الأمر فقد بدأت بإثارة موضوع خروج القوات الإيرانية بشكل كامل من سوريا، وهو ما يتنافى مع الرواية الرسمية السورية التي تؤكد على التمسك بإيران ورفض خروجها كشرط لإعادة العلاقات العربية – السورية. لكن الظاهر – بحسب المواقف العربية – أن إيران هي “العُقدة” التي تقف كحجر عثرة في سبيل أي حل سوري – عربي، فلعودة دمشق لى جامعة الدول العربية شرط سعودي خلاصته خروج إيران. وللمضي قدماً في الحل السوري تشترط الولايات المتحدة خروج إيران أيضاً، حتى المعارضة السورية بكامل أطيافها لا تريد بقاء إيران في سوريا، والتي تعتبر أحد أبرز أطراف الصراع في البلاد، حتى التعاون الروسي مع طهران في سوريا، لا يمكن وصفه بالتحالف المتين خاصة وأن لموسكو تجربة سابقة في فترة حكم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، الذي رفع العقوبات عن إيران، إبان توقيع الاتفاق النووي العام 2015، وهو الأمر الذي دفع بطهران إلى إلغاء معظم العقود المبرمة مع الشركات المصنِّعة الروسية، ومنحتها للشركات الغربية بزعم حاجتها إلى دعم استعادة العلاقات السياسية بخطوات اقتصادية.

هذه المؤشرات تم التقاطها من قبل الدول الإقليمية، ففي الجمعية العامة للأمم المتحدة، الشهر الماضي، التقى مسؤولون سوريون بالعديد من القادة العرب، وبعد ذلك تعهد وزير الخارجية المصري، سامح شكري، بالمساعدة في استعادة مكانة سوريا في العالم العربي حيث تأتي هذه التطورات من بوابة أن الانخراط العربي يمكن أن يضعف القوة الإيرانية في سوريا؛ وبالمناسبة، هذه رؤية بريت ماكغورك، كبير مستشاري بايدن للشرق الأوسط، حيث يعلم الجميع أن الصراع في سوريا أدى إلى زعزعة استقرار منطقة الشرق الأوسط بأكمله.

أثارت زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى سوريا شهية المحللين السياسيين على اختلاف مشاربهم، وغالبيتهم تتحدث عن عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وهذا برأيّ أمر ثانوي وغير مهم على الإطلاق، لأن الشعب السوري بكل تأكيد ينتظر خطوات عملية تنعكس على واقعهم المعيشي تحسناً، بينما البعض منهم ما يزال متشائماً، وإن سألته، سيقول لك “في العام 2018، افتتحت الإمارات سفارتها من جديد في دمشق، والجميع تفائلوا خيراً، إلا أن الوضع السوري، تحديداً المعيشي لم يزدد إلا تدهوراً، فما الذي ستغيره زيارة اليوم؟”

من هنا، لا أحد يدري بعد ما هي الملفات التي ناقشها كل من بن زايد والأسد، إلا أن ثقل هذه المباحثات هو الملف الإيراني الذي تصدّر المحادثات المغلقة بين الطرفين. ولكن ما هي مجريات الأمور بعد ذلك، فهذا شأن لن يخرج إلى العلن إلا في حينه، لكن الأيام القادمة ستبيّن حقيقة تفاصيل هذه الزيارة، التي أجد فيها متنفساً لدمشق خصوصاً وأن التجارب السابقة لم تكن مشجعة، ولنا في العراق خير دليل. فإن كانت عودة سوريا إلى المحيط العربي حتمية، يجب على معرقلين هذه العودة إفساح المجال، خاصة وأن تدخلاتهم لم تجلب خيراً للشعب السوري الذي هو منّا وفينا، ويحق له العيش أسوةً بأقرانه في كل العالم.

مصدر الصور: البيان – أوريان 21.

موضوع ذا صلة: ماذا في جعبة عبدالله بن زايد؟

عبد العزيز بدر القطان

كاتب ومفكر – الكويت