نجحت واشنطن مع إسرائيل في فرض اتفاقات الاعتراف والتطبيع بين العرب وإسرائيل في ثلاثة موجات؛ الموجة الأولى، كانت الأهم والتي فتحت الباب لإختراق العالم العربي والتي زادت الهيمنة الأمريكية على الحكام العرب. وقد بدأت هذه الموجة باتفاق السلام مع مصر، اتفاقية “كامب ديفيد”، حيث توّج أعواماً من التقارب المصري – الإسرائيلي إذ كسر “الحاجز الجماعي” العربي الذي حظر الصلح المنفرد مع إسرائيل، جاعلاً الاتفاق الجماعى العربي مع إسرائيل مقابل تسويتها مع الفلسطينيين.
شملت هذه الموجة مصر والأردن ومنظمة التحرير المختلفة، نسبياً. فقد جمع بين هذه الأطراف الثلاث الاعتراف بإسرائيل وفتح الباب للعلاقات معها، مع فارق أساسي يكمن في حالة منظمة التحرير حيث زعمت أن الاعتراف كان متبادلاً وهو ليس كذلك، حيث أن “إتفاق أوسلو” لم يكن معاهدة سلام ولكن يتم التفاوض وفق مبادئه للتوصل إلى معاهدة سلام.
وإذا كانت إسرائيل قد رهنت انسحابها من سيناء مقابل اعتراف مصر بها وفرض العلاقات الدبلوماسية معها، فإن حاجة عمّان إلى مياه نهر الأردن – الذي أحكمت إسرائيل احتلال صفتيه – دفعها إلى الاتفاق مع إسرائيل خاصة وأنه يبدو أن الأخيرة شجّعت المنظمة على الحلول محل الأردن في الحديث بإسم الشعب الفلسطيني والوقيعة بينهما بعد الصدام العسكري بين الطرفين، ويد إسرائيل ظاهرة في “أيلول الأسود”، العام 1970، الذي تصادف مع وفاة الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، وهو يحاول تسوية الخلاف بين الطرفين.
أنصار السلام مع إسرائيل يبررون الصفقة بأنها ضرورية لاسترداد سيناء حتى بقيود على السيادة المصرية، ولكن سيناء عادت كاملة مقابل تفاهم أو فهم فرضه مناحيم بيغن على الرئيس أنور السادات في المفاوضات، وهو عدم إستخدام سيناء – مرة أخرى – لتهديد إسرائيل، وفي ذلك تسليم بأن سيناء كانت أداة تهديد بيد مصر في مواجهة إسرائيل، وهم يعلمون أنها عادت مؤقتاً وأن لديها نظرية وهي استخدام القوة الساحقة لاحتلال الأرض العربية ثم ردها جزئياً مقابل رهن إرادة الدولة العربية بالكامل.
أيضاً، إنهم يدركون أن صفقة السلام أهم محطات المشروع الصهيوني في مصر والمنطقة العربية خاصة وأن بيغن صرّح عقب توقيع “كامب ديفيد” بأنه حصل على ضمانة من الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر، بأن يعود إلى سيناء إذا قامت في القاهرة حكومة تعادي إسرائيل، فأصبحت النُظم المتعاقبة تبرر خضوعها لواشنطن وإسرائيل بأنه التزام في معاهدة السلام وخدمة لاستقرار مصر وعدم فقدانها سيناء، وقد طبّق بيغن هذه النظرية بالفعل.
أما “إتفاقية وادي عربة” في العام 1994، فقد كانت ضرورتها مرتبطة بهيمنة إسرائيل علي ضفتي نهر الأردن بحيث حرمت عمّان من المياه، كما أن الاتفاقية كانت أثراً من أثار السلام مع مصر وعقب “إتفاق أوسلو” مباشرة، إذ تعلم إسرائيل أن معظم سكان الأردن هم فلسطينيون، بل إن الأردن نفسه أقيم على أرض فلسطين العام 1921؛ ولذلك، اقترحت إسرائيل – في مرحلة من المراحل – الدولة الأردنية كبديل عن إنشاء الدولة الفلسطينية بجوار إسرائيل في فلسطين، مع العام بأن كلها أراض فلسطينية.
إقرأ أيضاً: المقاومة واشكالية الاعتراف بإسرائيل
أما الموجة الثانية من معاهدات السلام فقد اعتبرتها واشنطن انجازاً ضخماً لسياستها الشرق أوسطية، وأطلقت عليها “المعاهدات الإبراهيمية”، نسبة إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام، حيث وقعتها الدول العربية الأربعة، وهي كل من السودان والمغرب والإمارات والبحرين. في هذا التوقيت، ولم تكن هناك ضرورة كما كانت الحال مع مصر والأردن، ولكن هذه المعاهدات أبرمت بمسعى أمريكي؛ فكأن المعاهدات والتقارب مع إسرائيل متفرعة عن العلاقات الأمريكية مع هذه الدول، ولكن الإمارات والبحرين والمغرب تعمقت في علاقاتها مع إسرائيل وجاء ذلك على حساب الحقوق الفلسطينية.
أما الموجة الثالثة فهي التي يخطط لها الرئيس الأميكي، جو بايدن، حيث أعلن عنها قبل بدء رحلته إلى الشرق الأوسط، وهي إبرام اتفاقية سلام مع السعودية.
هذا المسعى يرد عليه عدد من الملاحظات أبرزها أن السعودية كانت صاحبة مبادرات السلام مع إسرائيل، فقد قدم الملك فهد – عندما كان ولياً للعهد العام 1981 – “مبادرة فاس” التي قررت أن السلام مع إسرائيل خيار استراتيجي، وهذا تأكيد لنفس الاتجاه الذي أعلنه الرئيس السادات، العام 1979، وهو أن “حرب أكتوبر” هي آخر الحروب، وأن واشنطن لديها كل أوراق اللعبة، وأن إسرائيل راغبة في السلام لكن يعوقها حاجز نفسي تطوّع باسقاطه من خلال زيارة القدس وليس تل أبيب وهي دلالة على ما سيحدث بعد ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 1977. أما بالنسبة إلى المبادرة العربية للسلام – المقدمة من السعودية – التي اعتمدتها قمة بيروت العام 2002، ورئيس منظمة التحرير، ياسر عرفات، محتجز في المقاطعة ولا تستطيع القمة انقاذه أو تحريره أو ضمان خروجه وحضوره القمة، فقد استخدمتها إسرائيل لكي تستفيد فقط بالتطبيع مع السعودية، وهكذا اخترقت الدولة العربية بفعل العامل الأمريكي واستجاب الحكّام انقاذاً لعروشهم وإغفالهم لقيم العروبة والعدل وشرف الأمة، وهم يعلمون.
لقد كان الحكام – في السابق – يربطون ويشترطون أي تقارب مع إسرائيل بإعلان اجراءات توضح رغبتها واستعدادها للتسوية مع الفلسطينيين. ولمّا حصلت إسرائيل على ما تريد من العرب، أبعدتهم عن فلسطين وخلقت لهم عدواً مشتركاً جديداً وهو إيران، حيث تحتشد الدول العربية وراء إسرائيل ضد طهران على حساب فلسطين. وفي هذا المناخ، كان طبيعياً أن تمضي إسرائيل في مخططها الصهيونى لتفريغ فلسطين من سكانها، ويتحد العرب معها ضد المقاومة العربية بذرائع ساقطة.
مصدر الصورة: رسالة نت.
د. عبدالله الأشعل
سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر