يتفق المشروعان في خاصية واحدة وهي أنه عندما جاء مشروع هرتزل الصهيوني، كان الواقع يجعل المشروع خيالياً؛ وبالفعل، كان رد الفعل حينذاك في القرن الـ 19 لهذا المشروع هو الاستخفاف والاستغراب، وربما إتهم هرتزل بالجنون، ولكن المشروع ازدهر ودبّت فيه الحياة وقيِّضت له القوى والظروف اللازمة لتحويله من الحلم والخيال إلى الواقع. الغريب أن ثيودور هرتزل كان يأمل أن تنشأ إسرائيل بعد 50 عاماً من إعلان المشروع في المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية صيف العام 1897، وكان المشروع يتصور قيام دولة تجمع كل يهود العالم وتبدأ بإقامة إسرائيل، ولكنه كان يحبذ إقامة هذه الدولة في فلسطين.

أما مشروع هرتزل العربي فيظهر هذا العام 2022، أي بعد 125 عاماً من المشروع الصهيوني الذي قام على أساس أن اليهود مضطهدون بسبب عبقريتهم وفشلت محاولات إدماجهم لأسباب تعلق بهم وبالشعوب التي عاشوا بينها أيضاً.

كنا نتمنى أن تكون دولة العباقرة كنزاً لتقدم المنطقة؛ وبالفعل، قدَّم المشروع المدروسة خطواته بعناية عدداً من المبررات التي أسماها الكاتب الفرنسي الراحل روجيه غارودي بـ “الأساطير”، أولها أن المهاجرين الأوائل إلى فلسطين فروا بسبب الاضطهاد، وأنهم من العمال والفلاحين الذين استهوتهم الدعاية الصهيونية.

وفي مرحلة تالية، قدَّم المشروع مبرراً آخر أعمق وهو انقاذ اليهود من الإبادة من جانب أدولف هتلر، لكن اللافت أن الهجرات كانت منتظمة وبإشراف الوكالة اليهودية وبريطانيا، بل إن نابليون بونابرت – خلال حملته على مصر أواخر القرن الـ 18 – بشّر بقيام دولة اليهود في فلسطين تيمناً بالحملات الصليبية التي قصدت بيت المقدس، كما أرسل للمصريين رسالة من مالطا، قبيل وصوله إلى مصر العام 1798، يزف لها بشرى أنه اعتنق الإسلام، ولكن التبشير بإسلامه وبقيام دولة لليهود لم يقنع المصريين وأعدوا له مقاومة شرسة في جميع محطات الحملة.

ثم قدم المشروع – في الأربعينيات من القرن الماضي – أن إسرائيل جزء من الحضارة الأوروبية، وأنها ستعوض وتعزز الرسالة الحضارية التي أتى بها الاستعمار وكذلك نشر القيم الديمقراطية والازدهار، وزعموا أن اليهود خلاصة سكان الدول التي هاجروا منها وبؤرة مكثفة للحضارة والتكنولوجيا ومهمتها نقل المتخلفين العرب إلى مدارج الحضارة.

ثبت أن إسرائيل جزء من أوروبا الاستعمارية، ووكيل عن الغرب بالاستعانة بالحكّام المحليين؛ ولذلك، اندهت أوروبا للتصدي العربي المسلح، ولم يكشفوا أنهم دربوا كوادر الميليشيا اليهودية وأمدوهم بالأسلحة والمعلومات.

اليوم، يريد مشروع “هرتزل العربي” تفكيك إسرائيل، ووقف فعالية المشروع الصهيوني. هذه الفكرة تبدو بالغة الخيال قياساً على الواقع الذي يشهد بتسيّد إسرائيل، ولكني واثق أن هذا المشروع سيبقى غداً للأجيال الأقدر على تحقيقه.

إقرأ أيضاً: تحرير المصطلحات الصهيونية في الصراع العربي – الإسرائيلي

يقوم المشروع على الركائز الآتية؛ الركيزة الأولى، وضوح المشروع الصهيوني وعلاقته بالغرب وبساطته المفرطة، ويقابل هذه الركيزة ركيزة مقابلة على عودة فلسطين إلى ما قبل قيام إسرائيل.
الركيزة الثانية، إقتناع يهود العالم بالمشروع، يقابله اقتناع الفلسطينيين بحقهم في الانفراد بفلسطين.
الركيزة الثالثة، وجود دولة عظمى لها مصلحة في المشروع الصهيوني، يقابله الحاضنة العربية الهشة.
الركيزة الرابعة، البيئة الدولية التي سيطر سيّاساً عليها اليهود وكذلك البيئة الإقليمية، بل واقتحام العقل العربي ونحن بحاجة إلى بيئة عربية حاضنة، وبيئة دولية مؤيدة للمشروع العربي. وفي هذا المقام، فإن مقارنة الموقف السوفيتي مع العرب بالموقف الأمريكي والغربي مع إسرائيل به خلل كبير، والآن الروسي – العربي يفترق عن الإسرائيلي – الغربي.
الركيزة الخامسة والأخيرة، الإعلام والسيطرة الإعلامية وفرض مصطلحات بالقانون والنفوذ على العقل الأوروبي مثل “الهولوكوست” كما فرضت الصهيونية على الأمم المتحدة الاحتفال الرمزي في الإعلام الفلسطيني والعربي في المجال الدولي والإقليمي.، حيث أن “معاداة السامية” صارت جريمة تفرضها الدول الأوروبية على الدول الخاضعة لها، والحق أن الكتاب والمفكرين الصهاينة يبلورون المفاهيم، بينما العرب يتراجعون بأساً وقهراً، ولا شك أن الإعلام بالغ الأهمية خاصة الأسلوب الإسرائيلي، فقد كانت القاعدة عند العرب أن الصورة تتحدث عن نفسها، بينما إسرائيل قررت أن تستنطق الصورة كما تريد؛ والمثال الجاهز هو مقتل الطفل محمد الدّرة في حضن والده منذ أعوام، فقلبت إسرائيل الميزان بأن استمطرت اللعنات على الوالد أن جاء بطفله إلى منطقة الخطر دون أن تفطن آلة الإعلام الصهيونية أن الدرة كان بجوار منزله في غزة، وليس هناك ساحة قتلى خطرة يمكن تجنبها. فقد جعلت إسرائيل كل الفلسطينيين هدفاً، هذا على جانب. أما على الجانب الآخر، يتداول الإعلام العربي المقاومة ضد إسرائيل بطريقة مخجلة.

مصدر الصورة: العربي الجديد.

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق – مصر