تعتبر الجزائر قوة إقليمية مهمة ومؤثرة في منطقة شمال إفريقيا، حيث تحتل مكانة بارزة في الأوساط الإفريقية والشرق أوسطية وحتى العالمية، وتمتلك مقومات وعناصر أساسية (عسكرية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية) تؤهلها للبروز كقوة مؤثرة، بالإضافة إلى كونها الدولة الأكبر مساحة في القارة الإفريقية بعد انقسام السودان.
حاولت العديد من الدراسات تحليل السياسة الخارجية الجزائرية في محيطها الإقليمي، وتحديد المقاربة الأبرز التي يتبعها صنّاع القرار في الجزائر لوضع وتنفيذ سياساتهم، وكذا محاولة طرحت مقاربات جديدة وبدائل مهمة تتماشى مع المتغيرات الإقليمية والدولية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الجزائرية.
يعتبر هذه المقال مراجعة تحليلية لدراسة بعنوان “قوة إقليمية معطلة: سياسة خارجية جزائرية كلاسـيكية فـي عالـم متغيـر – تأملات نقدية في ضوء مقاربة القوة الناعمة”، للباحث جلال خشيب صادرة عن مجلة “تجسير”، مركز أبن خلدون للعلوم الانسانية والاجتماعية، في جامعة قطر.
حاول الكاتب – في هذه الدراسة – إعادة التفكير في التوجه التقليدي الكلاسيكي للسياسة الخارجية الجزائرية، التي تعتمد على “القوة الصلبة” وأدواتها في التعامل والتأثير بشكل أكبر، مما جعلها مقيدة وثابتة منذ الاستقلال، والتوجه نحو تفعيل مصادر أخرى للقوة الناعمة الجزائرية التي يمكن وصفها بالكامنة أوالمعطلة.
ولقد إنطلق الباحث من إشكالية رئيسية لدراسة موضوعه، وهي: ما هي الأساليب أو الآليات المناسبة التي يمكن من خلالها الوصول لمصادر القوة الناعمة الجزائرية؟ وما هي الأساليب المناسبة التي تمكن الجزائر من التأثير في جوارها الإقليمي وتشكيله باستخدام مصادر قوتها الناعمة الكامنة؟
قبل تحليل محتوى الدراسة، يجب الانطلاق من المصطلحات البارزة التي استخدمها الكاتب، والتي تحمل أبعاداً مختلفة مثل: الدولة الكامنة، القوة الاقليمية، الغروسروم المعطل، هيمنة إقليمية حميدة، والتي تفتح مجال البحث أمام مفاهيم جديدة بعيدة عن المصطلحات التقليدية.
فبداية مع استخدامه لمفهوم القوة الإقلميية للتعبير عن مكانة الجزائر أو لوصف ثقلها السياسي في المنطقة، هو بالتالي اعتبرها دولة ذات نفوذ وتأثيرعلى شمال إفريقيا أو الفضاء المغاربي، اقتصادياً أو سياسياً أو عسكرياً. هذا من زاوية.
ومن زاوية أخرى، كما يعرّف البعض القوة الاقليمية انطلاقاً من شروطها، حيث يمكن تمييز القوى الإقليمية بأربعة معايير محورية: المطالبة بالقيادة، وجود موارد للسلطة، وتوظيف أدوات السياسة الخارجية، وقبول القيادة، وهي معايير متوفرة إلى حد بعيد في الجزائر.
إقرأ أيضاً: الأزمة الجزائرية – الفرنسية إلى أين؟
مفهوم أخر استخدمه الكاتب هو “الدولة الراكدة”؛ حسب اعتقادي، لا تختصر فقط في ركود السياسات وغياب تفعيل للطاقات الكامنة والثروات، بل في الغموض الذي يحيط بالسياسة الخارجية الجزائرية على الرغم من كونه مفيد في كثير من الحالات، ولكن وجود قدر من الليونة والوضوح مطلوب لأنه يفتح مجالاً أمام تطبيق مقترحات المختصين الموجودين خارج النظام، والمهتمين بتطوير قدرات الدولة والتحسين من سياستها، والمساهمة في استغلال الموارد وتحويلها من موارد كامنة وثروات إلى سياسات مُفَعلة.
تعتبر الدراسة التي قدمها الباحث قراءة نقدية، تتكون من 4 محاور أساسية:
1. ماهية القوة الناعمة عند جوزيف ناي، ودورها وأهميتها بالنسبة للأطراف في البيئة الدولية الجديدة: اعتمد الكاتب في دراسته على تعريف القوة الناعمة كمجموعة وسائل تحقق مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية دون أن تضطر الدولة إلى استخدام وسائلها العسكرية، كالحرب أو التهديد بشنها أو الوسائل الاقتصادية، كالعقوبات الاقتصادية والحصار التجاري أو التهديد بهما. كما إعتمد أيضاً على 3 مصادر للقوة الناعمة في كل دولة حسب الواقعي إدوارد هاليت: الثقافة السائدة في المجتمع – القيم السياسية – السياسة الخارجية للدولة.
يمكننا أن نعتبر مبحث الدراسة الأول مدخل مفاهيمي ونظري لتوضيح المقاربة التي ستتمحور حولها الدراسة ككل، والتي اقترحها الكاتب على صنّاع القرار في الجزائر كبديل للمقاربة الكلاسيكية التقليدية.
2. السياسة الخارجية الجزائرية الكلاسكية – التقليدية: إنطلاقاً من العقيدة الأمنية الجزائرية الثابتة، تعتبر المصادر والوسائل الصلبة (الشق العسكري خاصة) هي الأساس الذي تبني عليه الجزائر سياستها الخارجية. ولقد حاول الكاتب – في هذا المبحث – تفسير أسباب اعتماد الجزائر على القوة الصلبة وتجاهل باقي المصادر المتوفرة إنطلاقاً من التاريخ الاستعماري الذي أثّر على شكل وترتيب الأولويات لدى صنّاع القرار فيها. لكن هذا لا ينفي وجود ملامح للقوة الناعمة، فالجزائر لطالما إعتمدت على آلية الوساطة الدبلوماسية في سياستها الخارجية لتحقيق مصالحها ومصالح الدول الصديقة، والتي عززت مكانتها إقليمياً ودولياً.
3. مصادر القوة الناعمة الجزائرية المعطّلة: استخدم الكاتب العنوان التالي للتعبير عن محتوى المبحث الثالث: “الغروسروم المعطل وتفعيل القوة الناعمة في السياسة الخارجية الأمنية الجزائرية – نحو هيمنة إقليمية حميدة”. ومصطلح “الغروسروم/المجال الكبير” هو مفهوم استخدمه كارل شميدت.
إن فكرة “الغروسروم” هي تصور طوره النازيون لعالم مبني على أساس مناهضة الغرب ويكون نقيضاً لمفهوم العالمية؛ إنطلاقاً من التصوّر الألماني، فإن داخل “الغروسروم” يجب على كل شعب تولي المنصب الذي يستحقه على أساس القدرة والانجاز مع التمسك بمبدأ عدم تدخل أطراف خارجية.
و”الغروسروم” – بحد ذاته – هو محاولة لصياغة عقيدة بديلة للانجلوسكسونية، بديل لـ “مبدأ مونرو”؛ وفي هذا الصدد، فإن “الغروسروم” له معنيان:
المعنى الأول: سياسي ضيّق، يتضمن تأمين الذات في الدول الناشئة ضد المحاولات الانجلوسكسونية للابتزاز وإخضاع الدول سياسياً من خلال “الاختناق” الاقتصادي.
المعنى الثاني: هو أوسع نطاقاً، ويتضمن اختراقاً أساسياً للاطار التفكيري الضيق الموجّه نحو النزعة التحررية والدولة الإقليمية وانكار – من حيث المبدأ – الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي الفوضوي، وإنشاء منطقة إمداد آمنة من الأزمات والحصار وتهدف إلى ضمان التجارة المنظمة والتبادل التجاري وتكون هذه المنطقة مترابطة وتشترك في قيم وثقافة متقاربة.
من هنا، يمكننا القول أن أساس مفهوم “الغروسروم” هي أنظمة أو تجمعات إقليمية منفصلة عن بعضها البعض، تكون إما في القارة الواحدة أو بين مجموعة دول ذات توجه واحد ورؤية متقاربة ثقافياً وسياسياً.
هذا النموذج الخاص بـ “الغروسروم” ينطبق على عدة مناطق من بينها الجزائر ومحيطها الإقليمي، فهي تمتلك القدرة والامكانيات الكافية لتفعيل “الغروسروم المعطّل” – كما ورد في الدراسة – عن طريق استخدام مكاسبها التاريخية والتنوع الثفاقي وتعدد المصادر الدينية واللغوية والفكرية، التي تعتبر مخزوناً هائلاً مشتركاً بينها وبين عديد الدول الإفريقية والذي سيؤهلها للعب دور مهم والتوجه نحو الهيمنة الحميدة.
إقرأ أيضاً: استراتيجية “الحزام والطريق” وتنامي الدور الصيني في الجزائر
4. سُبل تفعيل القوة الناعمة الجزائرية الكامنة: ركّز الكاتب – في هذا المبحث الرابع والأخير – على الشروط الضرورية اللازم تفعيلها لإحداث تغيير في السياسة الخارجية الجزائرية والتوجه نحو تحرير القوة الناعمة الكامنة، وتتمثل هذه الشروط: تقديم تجربة سياسية جزائرية ناجحة (السياسة الداخلية) وهذا للزيادة من مصداقية السياسة الخارجية، ومعالجة المشاكل والازمات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية لأن الوضع الداخلي سينعكس – لا محالة – على الوضع والمكانة الخارجية للدولة وسيعكس مدى فعالية السياسة الخارجية، بالاضافة إلى ضرورة تطوير البنية التحتية والاهتمام بالجانبين الثقافي والاعلامي لأنه أساس القوة الناعمة.
حاول الكاتب – في دراسته أيضاً – المقارنة بين التجربة التركية والجزائرية في العديد من النقاط، بالإضافة إلى تطرقه للاختلافات الثقافية والفكرية الموجودة داخل الجزائر والتي يمكن اعتبارها إمتيازاً تمتلكه الجزائر تستطيع استغلاله من ناحية ايجابية لمواجهة الشائعات التي يتم تصديرها للخارج عن نزاعات وخلافات داخلية في الجزائر بسبب الإختلاف الهوياتي، حيث يجب تكريس هذا الاختلاف بطريقة إيجابية عكسية لزيادة التلاحم.
ولكي يكون تحليل هذه الدراسة أكثر دقة، يجب أن نتطرق للتيارات المضادة التي تحمل تصوراً مختلفاً أو وجهة نظر لا تتطابق مع توجهات الكاتب، حيث هناك بعض المحللين اللذين ركزوا في تعريفهم للقوة الجزائرية الإقليمية على الجانب الصلب العسكري فقط، وكان حديثهم عن المستوى الإقليمي متعلق بالدول العربية، حيث جادل محمد قشقوش، في مقاله المعنون بـ “الجزائر في ميزان القوى الإقليمي: الاحتياطي الاستراتيجي العربي”، أن الجزائر تمثل قوة عربية إقليمية مضافة للرصيد العربي، مركزاً على الجيش والميزان العسكري والمقومات العسكرية الجزائرية ومدى القدرة من الاستفادة منها عربياً؛ فحسب اعتقاده، إن الفراغ الاستراتيجي الليبي ومقاومة الإرهاب وكذا الهجرات غير الشرعية – من جنوب الصحراء إلى أوروبا – هي قضايا محورية تهدد الأمن العربي، ويبرز فيها دور القوة العسكرية الجزائرية أو فاعلية المقاربة الكلاسكية التقليدية، حيث ركّز قشقوش – في تصنيفه للجزائر كإحدى القوى الإقليمية الهامة والمؤثرة سواء في الإطار العربي أو الشرق أوسطي أو الشمال الإفريقي – على الجانب العسكري.
يعتبر العديد من المحللين أن المقاربة الكلاسيكة الصلبة جزء من العقيدة الأمنية الجزائرية، ولكن هذا لا ينفي محدودية تأثيرها وأفقها الضيق في الكثير من الحالات؛ ولتتحقق أهداف السياسة الخارجية الجزائرية المتمثلة في الحفاظ على الأمن الاقليمي والقومي وكذا التوجه نحو الهيمنة الحميدة وبسط النفوذ في شمال إفريقيا والفضاء المغاربي بما يخدم المصالح المشتركة، يجب على صنّاع القرار استغلال وتحرير الإمكانيات الجزائرية المتوفرة والكامنة (القوة الناعمة).
إنطلاقاً من الأفكار التي ركز عليها الكاتب في دراسته وكذا الآراء الأخرى الداعمة أو المناقضة لتوجهه، يمكننا الاستنتاج أنه يجب على الجزائر التوجه نحو إحداث تغييرات أساسية في آلياتها لتحقيق أهداف السياسة الخارجية في اطار مقاربة القوة الناعمة، وأبرزها:
1. الإدراك الصحيح للمتغيرات الاقليمية المحيطة بالجزائر وكذا الدولية، حيث على صنّاع القرار فيها بناء تصوّر ذاتي جديد يتماشى مع المستجدات الإقليمية وأكثر مرونة. من المسلّم به أن أية دولة تسعى لتكون مهيمنة إقليمياً، فهي تحتاج لامتلاك الإرادة السياسية والطموح لأن تصبح كذلك.
2. التوجه نحو الاعلان والاستعراض بدل من الغموض التام: يجب على الجزائر أن تستعرض قيمها ورؤيتها السياسية المميزة على الأطراف المجاورة خدمة للمصالح المشتركة، وأن الاستعراض أو التلقين يمكن أن نعبر عنه بـ “التنشئة” بهدف رفع نسبة الترابط بين الأطراف الإقليمية، وجعل القوى الثانوية في الإقليم تقبل بقيم ومعايير المهيمن على أساس أنها الفكر الصحيح الذي يجب أن يفعّل.
3. توفير هوية إقليمية وإرساء تضامن إقليمي حول قضايا معينة: بالنسبة للجزائر، هذه الخاصية مفعّلة من قبل في السياسة الخارجية الكلاسيكية؛ فقضايا مثل دعم الحركات التحررية ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها ومكافحة الإرهاب، هي قضايا مشتركة فيها تضامن وتحمل هوية إفريقية جامعة، وهذا بسبب المعاناة التي شهدتها القارة جراء الاستعمار والإرهاب والجريمة المنظمة.
المراجع:
جلال خشيب، 2021، قوة إقليمية معطلة: سياسة خارجية جزائرية كلاسيكية في عالم متغيـر – تأملات نقدية في ضوء مقاربة القوة الناعمة، مجلة تجسير، المجلد الرابع، العدد: 1.
بوالجدري فيصل، 2018، إستراتجية الهيمنة الإقليمية بين شيوع المصطلح وغموض المعنى، مجلة البحوث والدراسات الانسانية، العدد: 16.
محمد قشقوش، 2018، الجزائر في ميزان القوى الإقليمي: الاحتياطي الاستراتيجي العربي، مجلة آراء حول الخليج، العدد: 130.
Dan Diner, 2000, Beyond the Conceivable: Studies on Germany, Nazism, and the Holocaust, University of California Pr, London.
Daniel Flemes, 6/2007, Conceptualizing Regional Power in International Relations, German Institute of Global and Area Studies, N°: 53.
مصدر الصور: إرم نيوز – أرشيف سيتا.
مدوّنة / حاصلة على درجة ماجستر في الدراسات الأمنية والاستراتيجية – الجزائر