يخلط البعض بين الإلحاد والكفر والطغيان والعَلمانية والليبرالية. ولكي نفهم العَلمانية والليبرالية وعلاقتهما بالإلحاد، يجب أن نوضح أمر مهم جداً. فالإلحاد له صور متعددة وكلها تشترك في إنكار وجود الله، وهو أقصى صورة للإلحاد، والتي هي الكفر أو إنكار الرُسل أو الرسول أو الرسالات أو البعث والحساب أو إنكار الإسراء والمعراج؛ وعلى الرغم من أن الملحد الجزئي يؤمن بأحد عناصر الإيمان، لكنه إذا أنكر وجود الله فقد خرج من دوائر الإيمان إلى الكفر.
أما العَلمانية، فإن لها 3 مفاهيم وتطبيقات:
– المفهوم الأول: هو الذي ظهر في أوروبا نهاية العصور الوسطى متأثراً بمارسات الكنيسة السياسية وصراعها مع الملك؛ فعندما تغلب الملك، تم فصل الدين – أي الكنيسة – عن السلطة إيذاناً بنشأة الدولة الحديثة. منذ القرن السادس عشر، تصورت القوى الاستعمارية الأوروبية أن النموذج الأوروبي – بفصل الدين أي الكنيسة عن السلطة – هو النموذج المثالي لأنه حقق، في نظر أوروبا، أمرين؛ الأمر الأول، حقق الهيمنة السياسية الخارجية للدول الأوروبية. والأمر الثاني، أنه حرر العقل من سيطرة الكنيسة، فانطلقت البحوث العلمية والثورة الصناعية الأولى.
لكن شعار “فصل الدين عن الدولة” تنقصه الدقة، لأن الدين يعني الكنيسة وممارساتها المسيحية التي نسبتها إلى الإنجيل، فلقد تغولت الكنيسة لدرجة أن البابا كا يتحكم بالدنيا والآخرة، وأطلقوا عليه “ذا السيفين”. وكانت العَلمانية تعني تحرير العقل من هيمنة ورقابة الكنيسة وليس تحرير العقل من الدين. ومعلوم أن الكنيسة لعبت بالدين، كما لعب رجال الدين الإسلامي إلى حد كبير بالإسلام. فالمعنى الأول الفصل السلمي والبرئ بين الدين والدولة، وهذا هو الذي ساد في أوروبا حتى اليوم.
– المفهوم الثاني: هو المفهوم الإيجابي للعَلمانية، ويعني هذا المفهوم الليبرالية التمثل بإطلاق الحريات، بما فيها الحرية الدينية، والتجاسر على المقدسات الدينية النسبية في المعتقد الكنسي؛ لذلك، لم يكن هناك تقديس للسيدة مريم وللسيد المسيح ولا الإنجيل، وانطلقت حركة النقد لكل هذه الأمور. ومن الجدير ذكره هنا أنهم ميزوا ما بين الحرية الدينية وبين التسلط الديني.
– المفهوم الثالث: هو المفهوم الذي يعادي الدين، وهو الذي صدّره الغرب إلى الدول الأخرى. كما أنه المفهوم الذي أدخله مصطفى كمال أتاتورك إلى تركيا الحديثة. هذا المفهوم التبس بمفهوم سلبي لليبرالية، وهذا ما يتلامس مع الإلحاد. وفي هذه الحالة، فإن الإلحاد يعني العَلمانية والليبرالية أي التحرر من قيود الدين.
إقرأ أيضاً: ذرائع الملحدين في التجرؤ على الدين: الذريعة الأولى(1/2)
ولأننا دول متخلّفة، فقد انتشرت هذه المفاهيم السلبية حيث عمل الغرب على نخب الدول المتخلّفة لاعتناقها، وذلك ضمن حملته على الإسلام، وهو يظن أنه ينتصر للمسيحية، علماً بأنه يعتنق مفهوماً مشوهاً للمسيحية نفسها.
أما الجماعات الإسلامية، فلا ترى كلاً من النموذج الأول أو الثاني، واعتبرت المفهوم بالنموذج الثالث معانداً للدين الإسلامي. وقد ظهرت تيارات عقلية في صفوف الفقه الإسلامي، أطلق البعض عليه “العَلمانية الإسلامية”، وهذا أقرب إلى تأكيد أن العقل أساس الإيمان في الإسلام.
لذلك، عندما ظهور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في تركيا، منذ العام 2002، فإنه تمسّك بالعَلمانية كنظام عام أدخله أتاتورك، الذي أقام تركيا الحديثة، ثم طعمه بالعَلمانية “الإيجابية” لا عَلمانية أتاتورك، ثم أن اعتزازه بالتاريخ العثماني الإسلامي.
ولقد أطلق البعض مواقف أشارت إلى أن الرئيس أردوغان “يناهض” العَلمانية من الناحية العلمية، بينما يتمسك بالعَلمانية ظاهرياً، خاصة وأن الدستور يعتمد العَلمانية كأساس للحكم في تركيا الحديثة.
مصدر الصورة: ويكيبيديا
اقرأ أيضاً: ذرائع الملحدين في التجرؤ على الدين: الذريعة الثانية(2/2)

د. عبدالله الأشعل
سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق / أستاذ محاضر في القانون الدولي والعلاقات الدولية – مصر