خلال العقد الأخير مر العالم بمتغيرات عديدة، على كافة الأصعدة، وصلت ببعض الدول إلى حد القطيعة، وبالمقابل تقربت دولاً من بعضها، وبالعكس، لنأخذ على سبيل المثال تركيا التي برزت كلاعب سياسي على المسرح العالمي، وأثبتت حضوراً وأداءً فاعلاً عكس الكثير من التوجه في السياسة الخارجية وتعديل المسار بما يضمن هذا الدور.
لن أستفيض بالدور التركي في الأزمة الأوكرانية، فهي سعت سياسياً واقتصادياً، إذ تحاول إنجاح المفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني، وبذات الوقت كان مركز التنسيق المشترك في إسطنبول خطوة ذكية جداً من أنقرة، بموجب اتفاق تصدير الحبوب إلى بلدان العالم أجمع، لكن ما يعنيني هنا، الخطاب التركي فيما يتعلق بالتطبيع مع دمشق، فهذه النبرة لم نكن نسمعها العام الماضي وما قبل فما الجديد في ذلك؟
ذكرت وسائل إعلام تركية، أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره السوري، بشار الأسد، قد يجتمعان شخصياً حتى قبل الانتخابات الرئاسية في يونيو 2023 في تركيا، حيث سيكون هذا الاجتماع إن حدث المرحلة الثالثة على المسار الذي يسير بوساطة روسيا لتطبيع العلاقات الثنائية بين البلدين، كما تعلمون، في نهاية شهر ديسمبر 2022، جرت محادثات في موسكو بين وزراء دفاع روسيا وسوريا وتركيا، أعلنت بعدها أنقرة انسحاباً محتملاً لقواتها من سوريا وإن كان ذلك بشرط “بشروط معينة”.
ولا ينفي الرئيس أردوغان رسمياً إمكانية لقائه بالرئيس السوري “من أجل ضمان السلام في سوريا”، ولكن فقط بعد مشاورات بين وزراء خارجية تركيا وروسيا وسوريا، مع الإشارة إلى أن هناك اجتماع مرتقب يجمع وزراء خارجية روسيا وتركيا وسوريا في موسكو في الفترة من 14 إلى 16 يناير، في الوقت نفسه، لم يتم تحديد المواعيد المحددة للقمة التركية السورية، ولكن من المتوقع أن تعقد في موعد لا يتجاوز مايو 2023.
ومما لا شك فيه أن الاتصالات الأولى منذ سنوات عديدة بين رئيسي وزارتي الدفاع في تركيا وسوريا وما تلاها من تصريح لأنقرة حول استعدادها لسحب قواتها من الأراضي السورية المحتلة تستحق أكبر قدر من الاهتمام من الدول المعنية، إذ انه بعد قيام السلطات التركية بإصرار يحسد عليه لعدة أشهر، أعلنت نيتها إجراء عملية عسكرية خامسة على التوالي في شمال سوريا لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية – قسد،
من الصعب أن نحدد بدقة سر انعطافة التركي نحو دمشق، والإدلاء بمثل هذا البيان المحب للسلام، والذي يمكن اعتباره إيماءة مفتوحة لموسكو ودمشق؟ من الممكن أن يكون أردوغان مع ذلك قد استجاب للنداءات العاجلة للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي للامتناع عن استخدام القوة العسكرية والتوغلات الجديدة في شمال سوريا وهذا أمر وارد، كما يمكن الافتراض أن هذه الخطوة مرتبطة ببدء الحملة الانتخابية في تركيا ومحاولة حل جزئي على الأقل لمشكلة 3.6 مليون لاجئ سوري في البلاد، أيضاً هذا أمر وارد.
لا أستبعد أن تعتبر هذه الخطوة أيضاً المرحلة التالية على طريق عودة حزب العدالة والتنمية الحاكم، برئاسة أردوغان، إلى المسار الذي أعلنه ممثلوه سابقاً نحو “صفر مشاكل مع” الجيران” إذ أنه حتى الآن، تمكنت أنقرة بالفعل من تطبيع علاقاتها مع دول عدة، واقتربت مصر والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى في الخليج العربي، وتسعى لتجنب النزاعات مع إيران والعراق.
لكن على خلفية الأزمة في الاقتصاد، ومستوى التضخم المرتفع (حوالي 65٪)، والانخفاض الساحق في قيمة الليرة التركية والوضع السياسي المحلي الصعب في البلاد، اتضح أنه من المهم للغاية بالنسبة للرئيس أردوغان أن رفع ترتيبه عشية الانتخابات بسبب النجاحات على صعيد السياسة الخارجية، حيث لا يزال المسار السوري أحد المسارات الرئيسية لأنقرة في الشرق الأوسط.
لكن إلى أي مدى سيذهب الرئيس رجب طيب أردوغان في تطبيع العلاقات مع دمشق الرسمية ومدى سرعة القيام بذلك، من البيانات التوضيحية إلى الإجراءات العملية، غالباً ما تكون هناك مسافة كبيرة، هناك العديد من “المطبات” والعديد من العقبات الموضوعية والذاتية على طول الطريق، بينما لم يتم الإعلان عن مواعيد محددة لانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية.
في الواقع، لا تزال سوريا مقسمة إلى ثلاثة جيوب: المنطقة الرئيسية – التي تسيطر عليها دمشق وحلفاؤها الإيرانيون، والمناطق الشمالية التي تنتشر فيها فصائل المعارضة المسلحة والجماعات الإسلامية الراديكالية التي تحتلها تركيا، ومنطقة الحكم الذاتي الكردية “روج آفا” في الشمال – شرق البلاد بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.
يبدو أنه لن يكون من السهل على أردوغان إحداث تحول 180 درجة في العلاقات مع خصمه الإقليمي في شخص الأسد، أو الاعتراف بشرعية حكومته، فمن غير المرجح أن يرفض رجب طيب أردوغان دعم المعارضة السورية والجماعات الإسلامية الراديكالية، حتى في حالة الانسحاب الافتراضي للقوات التركية من محافظات شمال سوريا (إدلب، حلب، الحسكة، الرقة)، ستبقى هذه الأراضي تحت سيطرة السلطات الإقليمية والبلدية الموالية لتركيا، والتي تعتمد على قوات مسلحة بديلة، امن الشرطة وغيرها، إلى دمشق.
لقد طورت أنقرة برنامجاً مكثفاً لبناء ما يصل إلى 200000 منزل جديد في هذه المناطق من أجل إعادة توطين 1.5-2 مليون لاجئ سوري من المخيمات في تركيا، في الوقت نفسه، أُخذ في الاعتبار أن العدد الهائل من اللاجئين كانوا معارضين لنظام الأسد وسيصبحون موالين لتركيا في سوريا، بالتالي، من الواضح أن الحفاظ على هذا الوضع الراهن سيكون أحد شروط انسحاب القوات التركية من المناطق الشمالية من الجمهورية العربية السورية.
وهناك شرط آخر يمكن أن يكون مطالبة أنقرة من دمشق بنزع سلاح الميليشيات الكردية السورية وتصفية منطقة روج آفا الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي، ففي اجتماع وزيري دفاع تركيا وسوريا في موسكو، قام الجانب التركي مباشرة بتسمية العدو والهدف المشترك في النضال المشترك – حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري.
كما لا تخفي السلطات التركية مخاوفها من وجود الجيش الإيراني والجماعات الشيعية الموالية لإيران في سوريا (حزب الله اللبناني، الحشد الشعبي العراقي، والمقاتلين من أفغانستان، باكستان، اليمن، ودول أخرى)، حيث من الواضح أن انسحاب القوات التركية من البلاد سيكون مرتبطاً أيضًا بتخفيض موازٍ للوجود العسكري الإيراني في المنطقة الإدارية الخاصة، مع الإشارة إلى أن الكيان الصهيوني مهتم بدوره بهذا الطرح.
قد يكون المطلب الثالث الذي لا يقل أهمية من أردوغان للأسد هو استئناف عمل اللجنة المشتركة لوضع دستور جديد والتحضير لانتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة بمشاركة المعارضة الخارجية واللاجئين والنازحين ( أكثر من نصف سكان البلاد)، حيث يمكن الافتراض أن أنقرة تعتبر هذه الأحداث خياراً للتغيير السلمي للسلطة في دمشق وفرصة لإنشاء حكومة جديدة موالية لتركيا بقيادة جماعة الإخوان المسلمين.
وبالتالي، فإن استئناف الاتصالات بين المسؤولين الأتراك والسوريين يستحق الاهتمام ويمكن أن يؤدي إلى انخفاض التوتر العام في المنطقة وخلق ظروف مواتية لحل سلمي للصراع السوري، ومع ذلك، ليس هناك الكثير من الآمال لتسوية سريعة للوضع الصعب في سوريا وما حولها، حيث انه من المحتمل أن تظل كل الوعود والنوايا الطيبة لأردوغان مجرد جزء من خطابه قبل الانتخابات، ولن تتقدم الأطراف إلى أبعد من تفاعل الجهات المختصة من أمن وجنود واستخبارات في القتال ضد الميليشيات الكردية، كما لا يمكن أن ينتهي أي اجتماع رفيع المستوى محتمل إلا بتبادل الآراء أو المطالب النهائية أو الظروف غير المقبولة للأطراف.
بالمحصلة، هذا ما كنت أشير إليه دائماً في معظم مقابلاتي ومقالاتي، لكل من يتعامل في العالم السياسي تحليلاً أو إعلامياً، بما في ذلك مراكز صنع القرار في أي دولة في العالم، يجب ألا يميل كل الميل، لا مع ولا ضد، وألا يأخذ أية مواقف تتضمن مبالغات مدحاً أو ذماً، لأن في عالم السياسة كل شيء متغير، فالمصالح تتقدم داخلياً أو خارجياً، فقراءة الواقع واستشراف المستقبل يجب أن تكون كذلك.
مصدر الصورة: العربية نت.
إقرأ أيضاً: حقي: مصالح مشتركة تركية – سورية في شرق المتوسط
كاتب وإعلامي – الكويت