خاص “سيتا”

محمد نبيل الغريب البنداري*

يظل التسابق الدولي وإعادة التموضع بين أقطاب القوى الدولية في البحر الأحمر، محل تساؤل، ويتضح مدى خطورة هذه المنطقة مستقبلاً في حال نشوب أي نزاع عسكري بين دول الإقليم (آسيا وأفريقيا)، بحيث إذا نظرنا إلى خريطة التحالفات الدولية في المنطقة، يتضح أن هناك نوعاً من الخطوة “الاستباقية” لكافة الدول التي لها موطئ قدم في الشرق الأوسط (الولايات المتحدة الأمريكية- روسيا- إسرائيل- فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوروبي- الصين- تركيا- الإمارات العربية المتحدة)، نجد أن منها الساعي ومنها المتواجد بالفعل على شريط البحر الأحمر (الآسيوي والافريقي) معاً وخاصة الساحل الغربي منه، وهذا يوضح مدى تكتل هذه بالمخاطر في المنطقة، بل إن هذا التواجد الكثيف لبعض دول العالم في منطقة البحر الأحمر يمكن أن يشكل تهديد للأمن القومي العربي في المستقبل بطريقة أم بأخرى.

يخضع البحر الأحمر مؤخراً، لسياسة التسابق العسكري لبناء القواعد العسكرية لصالح دول بعينها للخروج وقت الحاجة بمصالح معينة تعود بالنفع على هذه الدول، وخاصة في ظل الوضع الفوضوي الذي يعيش فيه الشرق الأوسط الآن، حيث توجت البلدان التي تقع علي غرب ساحل البحر الأحمر بالقواعد العسكرية، وخاصة (جيبوتي وأرتيريا والصومال ومؤخراً وليس أخيراً السودان)، فتوجد في جيبوتي منذ عام 2001 القاعدة العسكرية التي تضم 4000 جندي أمريكي وإلى جانبها القاعدة الفرنسية وعمليات الاتحاد الأوروبي العسكرية لمكافحة القرصنة “اتلانتا”.

وزاحمت الصين هذا التواجد القوي، من جانب محور دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، فبدأت بإنشاء قاعدة في جيبوتي عام 2016 وتضم 10000 جندي صيني والتي بدأ تشغيلها فعلياً بداية عام 2017.

وعلى قمة 3000 متر، تستضيف جزر “الأرخبيل الأرتيرية” أكبر قاعدة إسرائيلية بحرية خارج حدودها “المحتلة” لمراقبة السفن الإيرانية من جانب، والتحرك الملاحي من جانب آخر، وأيضاً للقيام بأعمال استخباراتية لصالح إسرائيل ووفقاً لموقع تلك الجزر الاستراتيجية والتي تقع بالقرب من مضيق “باب المندب”، اذ تتخذ دولة الاحتلال من هذه الجزيرة موقعاً لمراقبة تحركات المملكة العربية السعودية واليمن والدول العربية العابرة من هذا المضيق فضلاً عن مراقبة الملاحة الدولية.

ومن جانب آخر لم تغب تركيا – إردوغان عن هذا التسابق العسكري الدولي في هذه المنطقة، ففي اكتوبر /تشرين الأول 2017، افتتحت القاعدة العسكرية التركية الشهيرة في ضواحي “مقديشو” مع الجانب الصومالي بتكلفة 50 مليون دولار حيث يسجل هذا أول وجود تركي في منطقة البحر الأحمر.
وفِي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وقعت روسيا الاتحادية مذكرة تفاهم أمني مع الجانب السوداني شملت بناء قاعدة عسكرية روسية علي ساحل السودان الشرقي، وكان هذا أيضاً أول وجود روسي في منطقة البحر الأحمر.(1)

“تركيا والقارة السمراء”

منذ مجيء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للحكم في عام 2014، وهو يواجه مجموعة من التحديات التي تؤثر بشكل مباشر على علاقات تركيا الخارجية والسياسية الخارجية مع دول الإقليم والعالم. ولعل أبرز التحديات التي واجهت هذه الدولة، والتي جعلت الدولة التركية بشكل مباشر تفكر في “التوسع الحيوي” على حد تعبير “اردوغان”، هي إقامة علاقات جديدة مع الدول وعلى وجه الخصوص “روسيا وأفريقيا”، وكسر حاجز الجمود بين تركيا وحلف “الناتو” من جانب، والعلاقات التركية – الأوروبية من جانب آخر.

ولعل أبرز التحديات التي دفعت انقرة للبحث عن شريك سياسي واستراتيجي جديد من أجل المواجهة سوياً لبعض التحديات وتتلخص فيما يلي:

أولاً: القضية الكردية

يتركز الأكراد في 21 محافظة من محافظات تركيا، وفِي الجنوب التركي خاصة، حيث تنظر تركيا للأكراد بمحور “التهديد” المباشر لها وخاصة “قوات سوريا الديمقراطية” و”حزب الاتحاد الديمقراطي”، الذي يتخذ من مدينة الباب الحدودية بين تركيا والجمهورية العربية السورية، معقلاً لانطلاق وتنفيذ عملياته في الداخل التركي. إضافة إلى ذلك وفي سبتمبر/أيلول 2017، تم إجراء استفتاء لانفصال الأكراد عن الدولة العراقية وجعله إقليم تحت الحكم الذاتي للأكراد، مما استدعى تخوفاً تركياً، وبالتالي اتخذت تركيا مجموعة من الإجراءات التصعيدية ضد الإقليم بالتعاون مع محور “طهران – بغداد”، ونتيجة لذلك، نفذت تركيا المئات من الغارات الجوية على المنطقة الافتراضية المشمولة بالحكم الذاتي للأكراد.(2)

ثانياً: الاتحاد الأوروبي ومعضلة الانضمام

قدمت تركيا طلب انضمام للاتحاد الأوروبي، العام 1987، على امل أن يتم قبولها، ولكن لم تتم الموافقة عليه حتى اليوم، فإقتصر وجودها على حلف “الناتو” فقط. وفي بداية عام 2016، تعمقت الأزمة بين الجانبان الأوروبي – التركي بسبب رفض الاتحاد، بقيادة ألمانيا، انضمام تركيا له ومن ثم هدد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بفتح باب اللاجئين على دول الاتحاد. وفي رؤية واضحة لهذا المشهد، تحاول تركيا فتح باب روسيا التعاوني أمام الاتحاد الأوروبي، وخاصة التعاون والانفتاح العسكري، الذي تحاول تركيا “قصف” حلف الناتو به، وخاصة بعد الاتفاق بين الجانبين التركي والروسي على توريد روسيا للأولى منظومة الصواريخ المتطورة “اس400”.(3)

فتركيا، اليوم، تبني علاقات جديدة وتوجهات سياسية جديدة مما جعل هناك رؤية ضبابية غير واضحة للعلاقات التركية الأوروبية.(4)

ثالثاً: فتح الله غولن والتوتر التركي الأمريكي

منذ الانقلاب العسكري في 15 يوليو/تموز 2016، نفذت الدولة التركية حملة من الاعتقالات ضد من وصفوتهم بـ “مدبري” عملية الانقلاب، ومن ثم فتحت تركا يدها للاعتقال العشوائي مما استدعى تدخل منظمات حقوق الإنسان، حيث شهدت العلاقات التركية – الأمريكية، مؤخراً، نوعاً من الفتور والتوتر السياسي القائم بسبب رجل الدين فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعتبره تركيا بأنه هو العقل المدبر لليلة الانقلاب. وتطالب تركيا الولايات المتحدة بتسليمه، غير ان الأخيرة ترفض، مما شهد توتراً في العلاقات الثنائية حول هذه النقطة، اذ لم يتوقف الخلاف والتوتر بينها على هذه النقطة، ولكن دعم الولايات المتحدة للأكراد بالسلاح في الشمال السوري، المحتم وقوعه جغرافياً في الجنوب التركي، تعد أيضا نقطة خلاف اساسية.

وعلى هذا، نستطع القول إن تركيا عندما توجهت إلى البحر الأحمر وأقامت قواعد عسكرية على سواحل هذا البحر، إنما يأتي أيضاً من ضمن الأسباب مزاحمة الوجود الأمريكي هناك، وخلق نوع من التخوف لدي الجانب الأمريكي على إسرائيل بسبب إيدلوجية تركيا الإسلامية، فهذا يشكل تهديداً لإسرائيل، وخاصة في منطقة السودان وتحديداً “جزيرة سواكن”.(5)

كل هذا، يبرز حجم التحديات التي تمر بها تركيا، في الآونة الأخيرة، مما دفعها الى بناء علاقات وانفتاح مع قوى أخرى مخالفة للقوى الشاهدة معها توترات في العلاقات الثنائية. ولعل الانفتاح التركي كان من نصيب كل من روسيا وبعض دول القارة السمراء، خاصة على ساحل البحر الأحمر، الذي وجدت فيه تركيا لنفسها موطئ قدم عسكري وسياسي، وكان أول ملامح هذا الوجود القاعدة التركية في ضواحي مقديشو – الصومال.

ويأتي الوجود الثاني لتركيا في القارة السمراء بعدما زار الرئيس التركي دولة السودان، في 25 ديسمبر/كانون الأول 2017، حيث تم توقيع اتفاقيات في مجالات التعاون العسكري والاقتصادي.(6)

كذلك، حصل اردوغان على جزيرة “سواكن” السودانية لجعلها قاعدة عسكرية تركية، بهدف استرجاع “التراث العثماني”، وإعادة تأهيلها على النمط القديم للدولة العثمانية. من هنا، يمكن تحليل تلك الزيارة والتقارب السوداني التركي في ثلاث محاور(عسكري – سياسي – ثقافي).

المحور الأول: المحور العسكري

اتجه الرئيس التركي إلى السودان، في زيارة هي الأولى لرئيس تركي لهذا البلد منذ استقلالها، وخلال تلك الزيارة خصصت السلطات السودانية جزيرة “سواكن” لتركيا الواقعة على الساحل الغربي للبحر الأحمر فيما تعتبر تركيا هذه الخطوة بمثابة بداية لانطلاق قوة العلاقات الثنائية بين البلدان، حيث صرح وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو(7) أنه تم توقيع اتفاقيات بين الجانبان تشمل تفاهم يخص أمن البحر الأحمر، وان انقرة مهتمة بأمن إفريقيا والبحر الأحمر. وأضاف أوغلو قائلاً “لدينا قاعدة عسكرية في الصومال ولدينا توجيهات رئاسية بتقديم الأمن والشرطة والجانب العسكري للسودان وسنواصل العلاقات في مجال الصناعات الدفاعية”.

من هنا يمكن أن نقول إن التقارب التركي – الأفريقي، وليس السوداني فقط، سيشمل تطور نوعياً خلال الفترة القادمة، ويمكن من خلال نظرة موسعة لهذا المحور القول إن التواجد العسكري لتركيا، في السودان، هو بمثابة توجيه رسالة سياسية أخرى للولايات المتحدة، وخصوصاً بعد الاجتماع بين رؤساء جيوش كل من قطر- السودان- تركيا في الخرطوم، حيث أن الدول الثلاث تجتمع حول ايديولوجية إسلامية واحدة، أي “الإخوان المسلمين”، وبالتالي سيتسبب هذا في قلق أمريكي – إسرائيلي في المنطقة إن لم يصل إلى مناوشات بين الدولتين (تركيا- أمريكا) في البحر الأحمر.

المحور الثاني: المحور السياسي وشراء الولاءات

الهدف الأول من توسع تركيا في القرن الأفريقي هو توجيه رسائل سياسية للجانب السعودي – الخليجي بأننا موجودون غرب البحر الأحمر وجنوبه، بالإضافة إلى الرسائل السياسية الموجهة إلى القاهرة بأننا موجودون في “الفناء الخلفي لكم”. وعلى هذا، كان القلق المصري والإقليمي حاضراً أثناء تلك الزيارة خصوصاً ان من المعلوم أن تركيا وقطر والسودان تقوم بتمويل نشاطات الجماعة الإرهابية، جماعة الإخوان المسلمين، في المنطقة وخاصة بعد زوال نظام الإخوان المسلمين، محمد مرسي في مصر، والتوتر في العلاقات القائمة بين الجانب المصري مع التركي – القطري.

من هنا، يمكن أن نقول إن هذه الزيارة في الجنوب المصري والاجتماعات بين رؤساء الجيوش الثلاثة موجه مخرجاتها إلى مصر بالدرجة الأولى، وعلى هذا يذكر أن في العام 2014 تم توجيه اتهامات للنظام القطري بأرسال متطرفين إلى سيناء لتنفيذ هجمات ضد الجيش المصري(8)، وتمويل النظام التركي لجماعة الإخوان الإرهابية لخلق القلاقل السياسية في مصر، بالإضافة إلى المحور المصري – اليوناني الذي شهد نوعاً من تطور العلاقات، في الأونة الاخيرة،. ومن ثم، وجدت تركيا نفسها محاطة في المتوسط بين الدولتين مما استدعى تخوفاً تركياً، اذ بحثت انقرة عن مخرج لها في أفريقيا للرد على التواجد المصري في غربها، لا سيما بعد ان شهدت العلاقات المصرية – السودانية توترات مشهودة حول مثلث “حلايب – شلاتين”، وادعاء السودان بأحقيتها “غير القانونية” له، وبالتالي ستوظف هذه الزيارة والاجتماع الثلاثي ضد مصالح الدولة المصرية علي النحو التالي:

(1) إرسال وتدريب متطرفين من شمال السودان إلى الجنوب المصري، ومن ثم المزايدة في مضايقة الدولة المصرية من السودان.
(2) الاتفاق مع حكومة السودان، بقيادة عمر البشير، على الاستمرار في المطالبة “الباطلة قانونياً” بحلايب وشلاتين.
(3) استخدام النظام السوداني كأداة لمهاجمة مصر سياسياً، كما حدث مع الإخوان المسلمين عقب ثورة 30 يونيو/حزيران 2013.

اضافة الى الرسائل المصرية، فإن الرسائل الموجهة للسعودية ودوّل الخليج من هذه الزيارة هي على النحو التالي:

(1) إبراز تركيا موقفها المؤيد مجدداً بخصوص “قطر” والأزمة الخليجية – الخليجية من خلال الاجتماع الذي ضم قائد الجيش التركي والقطري في الخرطوم.
(2) مزاحمة تركيا للسعودية من خلال جزيرة “سواكن” الواقعة غرب المملكة العربية السعودية.
(3) الاستمرار في “مناكفة” الدول غير المؤيدة للإخوان المسلمين، مصر والسعودية تحديداً، من خلال إشهار الرئيس اردوغان لإشارة “رابعة” أثناء زيارته لتونس والسودان، وأيضاً عندما أعلن رغبته في إحياء الدولة العثمانية من جديد انطلاقاً من جزيرة “سواكن”. بالإضافة إلى ذلك، الاستمرار في دعم قطر سياسياً وخصوصاً قبل الزيارة بأيام حيث تم الإعلان عن زيادة القوات العسكرية التركية العاملة في قطر.

المحور الثالث: المحور الثقافي

تمثل في الإعلان عن الشكل الجديد للعثمانية ملحقة بإيديولوجية إخوانية انطلاقاً من السودان، وكان أولها عندما وصل الرئيس التركي إلى مطار الخرطوم حيث تم استقباله على أنه أمير المسلمين، بل وظهر ذلك في تصريح البشير نفسه عندما وصف تركيا بأنها أخر معاقل الدولة الإسلامية في المنطقة ومن ثم تحويل جزيرة سواكن إلى الطراز العثماني القديم.

خاتمة

ان التحرك التركي في المنطقة، وخاصة في السودان، له تداعياته وأسبابه التي تبين كيف يفكر العقل “الأردوغاني” تجاه دول المنطقة المكفولة بالعداء لهم، وهذا ظاهر في مجمل تحركاته السياسية على الصعيد الإقليمي الدولي.

عند تفحص خطوات السياسية الخارجية التركية بعناية، نلاحظ التغير الواضح الذي تتخذه تركيا من خلال تهميش العلاقات التركية – الأوربية، بالإضافة إلى الأمريكية “السياسية” ومن ثم التطلع التركي إلى شركاء جدد في المنطقة، وخاصة القارة السمراء، وحيث استغل هذا التطلع الغياب المصري السياسي في هذه القارة. ومن ثم، يجب على الدولة المصرية العودة إلى الحقبة “الناصرية ” فيما يخص الانخراط أكثر في العلاقات المصرية – الإفريقية للتغلب على الدور التركي، وحتى الإسرائيلي في القارة السمراء، والموجه إلى ضرب اي مصلحة سياسية او اقتصادية للدولة المصرية في القارة السمراء بشكل خاص.

*كاتب وباحث سياسي

المراجع:

(1) الدول التي تتنافس على زعامة ساحل البحر الأحمر
http://www.vetogate.com/mobile/2969769
(2) استفتاء اقليم كردستان
https://www.bbc.com/arabic/amp/middleeast-41417117
(3) تركيا تكشف تفاصيل صفقة “اس400 “الروسية
http://bit.ly/2CTg0gu
(4) تهديد اردوغان لاتحاد الاوروبي بفتح باب اللاجئين
http://www.raialyoum.com/?p=570287
(5) فتح الله جولن والتوتر التركي الأمريكي
http://bit.ly/2AqQCfb
(6) زيارة اردوغان للسودان
http://bit.ly/2AqJ1wU
(7) تشاوش اوغلو والعلاقات التركية الأفريقية
http://bit.ly/2CEJPo2
(8) تورط قطر في دعم جماعات ارهابية في سيناء
http://www.albawabhnews.com/2691118

مصدر الصور: الصومال الجديد – فوكس نيوز – رصيف 22 – روسيا اليوم – الجزيرة نت – شبكة الصوت الاخبارية – تونس ليكس.