شارك الخبر

بعد أن حاولت أوكرانيا مهاجمة سفينة إيفان خورس الروسية في البحر الأسود بزوارق غير مأهولة، وعلى بعد 140 كيلومتراً شمال شرق مضيق البوسفور، تقتضي مهمتها ضمان سلامة تشغيل خط أنابيب الغاز التركي ستريم وبلو ستريم في المنطقة الاقتصادية في تركيا، ما يعرض اتفاق الحبوب إلى خطر محدق للعالم أجمع.

ومن المعروف أن الصين هي أكبر مستهلك للأغذية وأحد أهم مستوردي القمح والشريك التجاري الرئيسي للاتحاد الروسي، بدورها، أصبحت روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم في السنوات الأخيرة، مدعومة بالمحاصيل الممتازة (التي حطمت الرقم القياسي) في عام 2022، ومع ذلك، فإن هاتين الحقيقتين بالكاد تتقاطعان مع بعضهما البعض – على الرغم من زيادة الواردات الصينية من روسيا، إلا أن هذا لا يؤثر تقريباً على الحبوب.

بالمقابل، إن لتركيا مصلحة بالغة بإنجاح صفقة الحبوب، لأنها أكبر مستورد للقمح من روسيا، وهذا يضمن أمنها الغذائي على عكس بقية الدول الأخرى التي قد تتعرض لانتكاسة جراء التصعيد الأخير، ما يعني أن تمديد الاتفاق بعد انتهائه أمر سيكون موضع شك.

بالعودة إلى الصين، في الموسم الزراعي 2022-2023، أصبحت جمهورية الصين الشعبية أكبر مستورد للقمح في العالم، ووفقاً لنتائج 12 شهراً، استوردت بكين 12 مليون طن من القمح، متقدمة على تركيا والاتحاد الأوروبي (10.5 مليون طن) وإندونيسيا (10 ملايين) في هذا المؤشر، كما كان سجل الواردات المسجل في 1994-1995 قصيراً بمقدار 500 ألف طن فقط.

مع الإشارة إلى أن الزراعة في الصين تطور نفسها بوتيرة سريعة بشكل استثنائي، بعد الإصلاح الزراعي الذي تم تنفيذه في الثمانينيات، بدأت الإنتاجية في النمو، كما فعلت المساحة المزروعة بالمحاصيل، إذا كانت الصين في منتصف التسعينيات تحصد حوالي 100-110 مليون طن من القمح سنوياً، فقد وصل هذا الرقم في عام 2022 إلى 137 مليون طن، لكن ومع ذلك، فإن الإنتاج لم يواكب الطلب بشكل كامل، وطوال هذا الوقت، ظلت الصين رئيسية مستورد للقمح وعدد من أنواع الحبوب الأخرى.

بالتوازي مع ذلك، نمت العلاقات التجارية بين روسيا والصين أيضاً، في عام 2022، على خلفية العقوبات والتدهور العام للعلاقات بين الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، زادت التجارة الروسية الصينية بشكل حاد – بنسبة 29٪ لتصل إلى 190 مليار دولار، وعلى وجه التحديد، ارتفعت الصادرات من روسيا إلى الصين على الفور بمقدار 43٪ إلى 114 مليار دولار، وبالنظر إلى مجموعة السلع المصدرة، فإن روسيا زودت جمهورية الصين الشعبية بشكل أساسي بمنتجات مجمع الوقود والطاقة والمعادن (على سبيل المثال، الألمنيوم). في الوقت نفسه، زادت روسيا صادراتها الزراعية، وقفزت إمدادات الحبوب بنسبة 15٪ دفعة واحدة في العام الماضي.

رغم ذلك، إن جزءاً صغيراً فقط من الطعام الروسي ذهب إلى الصين، في حين أن الصادرات الرئيسية للمجمع الصناعي الزراعي إلى الصين هي المأكولات البحرية، فقد تم تسليم حوالي 30 ألف طن فقط من القمح، وهذا يمثل قطرة في المحيط وفقاً لمعايير الصناعة الزراعية وقليل جداً مقارنة بالمقدار الذي تشتريه الصين، فقد زاد هذا الأخير من استهلاك القمح للأعلاف في عام 2022، مستفيداً من حقيقة أن أسعار الواردات الخاصة به قد انخفضت بشكل كبير – لذلك اتضح أنه من المربح شراء القمح أكثر من الذرة، وهو محصول علف تقليدي آخر. كان الموردون الرئيسيون للقمح أستراليا (أقل بقليل من 60٪) وكندا (18٪) والولايات المتحدة الأمريكية (8٪). شكلت روسيا نصف في المائة فقط من جميع المشتريات الأجنبية.

بالتالي، تواجه روسيا صعوبات في تنفيذ “صفقة الحبوب” والقيود المختلفة المفروضة على روسيا في عام 2022، خاصة أنه إلى الآن لم يتم البت بما يتعلق بالبنك الزراعي الروسي وتفعيل نظام سويفت للمبادلات المالية بما يتعلق بالأسمدة الروسية، لكن تركيا تعمل على هذا الجانب وتحاول حل هذا الموضوع بالتعاون مع الأمم المتحدة، إلا أن الغرب في إطار سياساته المشددة على روسيا، يبدو أنه سيضع العالم أمام أزمة غذاء عالمية مجدداً رغم أنه كان يلوم روسيا فيها، لكن ماذا عن الآن؟

فأصبح من الصعب بمكانٍ ما أن تستمر روسيا بنقل حبوبها حول العالم بما في ذلك الأسواق العربية والإفريقية وغيرها إن يتم إيجاد حل جذري لهذا الموضوع.

من المتوقع أن تلتزم أنقرة الصمت فيما يتعلق بالهجوم الأخير على السفينة الروسية خاصة وأنه تم من إحدى ناقلات الحبوب ما يعني أن هناك تهديد جذري لاتفاق الحبوب، ونسف لجهود تركيا التي بذلت جهوداً كبيرة مؤخراً في إقناع روسيا للتمديد شهرين إضافيين، الصمت التركي مرتبط ببضعة أيام ريثما تنتهي الانتخابات الرئاسية في 28 مايو، ومن ثم ربما سنجد موقف أكثر صرامة من الجانب التركي مع الدول الغربية، فمن جهة إن المتضرر الأكبر من فشل الاتفاق هو الدول النامية سواء في إفريقيا أو الشرق الأوسط أو دول أخرى كثيرة حول العالم، ما يعني ولنتكلم عن الجانب الذي يعنينا وهو العالم العربي والإسلامي، وهذا العالم هو أكبر مستهلك للحبوب، وأساسي لغذائه.

ومنذ بداية الحرب الأوكرانية والدول العربية والإسلامية تعاني من نقص الإمدادات، مع الإشارة إلى أنه وفق آخر إحصائية هناك أكثر من 970 ألف شخص مهددين بالمجاعة بسبب الفروق بتوريدات الحبوب والتي غالياً تذهب إلى الدول الغنية التي نمى مخزونها على حساب الآخرين.

من وجهة نظر لوجستية، فإن أرخص وسيلة لنقل الحبوب هي النقل البحري، وبعد تعرض السفينة الروسية لهجوم أصبحت هذه الوسيلة معرضة للمخاطر خاصة وأن هذا الهجوم لن يكون الأخير، فالدور التركي في هذا السياق مهم جداً، لأنه على وفاق مع روسيا وأوكرانياً معاً بالتالي، إن الرئيس التركي الذي هو عرّاب صفقة الحبوب لن يسمح بهدم ما بناه وقد أخذ هذا الملف الكثير من العمل منه ومن إداراته رغم مشاغل الانتخابات الرئاسية.

وبعد الانفراجات الأخيرة التي طالت الوطن العربي، إن كان لجهة التطبيع السعودي الإيراني، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، إلى جانب تقديم بعض التنازلات السياسية هنا وهناك، مع الإشارة إلى أن التطبيع التركي – السوري قاب قوسين أو أدنى، فنحن أمام انفتاح اقتصادي مهول، لن تسمح تركيا ولا روسيا بأن تعطله أوكرانيا أو الدول الغربية، ناهيك عن أن التصعيد الأوكراني الأخير والخروج من مسرح العملية العسكرية داخل منطقة الحرب، سيؤثر سلباً على الاقتصاد العربي، بما في ذلك تركيا التي بلغت خسائرها بس زلزال 6 فبراير حداً غير مسبوق، فأعتقد أن هذا الملف سيكون على رأس أولويات رئيس تركيا الجديد، والذي هو رجب طيب أردوغان.

بالتالي، يمر العالم اليوم بمنعطفات خطيرة، الغرب طالما أن مسرح القتال خارج ملاعبه، لا تهمه الخسائر لا في الاقتصاد ولا في الأرواح، فضلاً عن مستودعاته الممتلئة، لن يأبه لمن يموت جوعاً أو عطشاً، حتى الصين حيادها في هذه المسائل غير مبرر، رغم أنها قوة اقتصادية كبيرة وتتمتع بحضور كبير على الساحة العالمية، لكنها لا تتدخل في ملفات خارج سياق منطقتها، فالغاز والنفط ليس كل شيء، الغذاء أساس الحياة وسنبلة القمح هي حياة الشعوب وبخاصة الفقيرة، لكن الثقة المطلقة ستكون بيد تركيا، والمفتاح موجود في أنقرة وما هي إلا أيام قليلة ربما سنسمع تصريحات تركية لاذعة، لأن تصرفات الغرب اللامسؤولة ليست مجرد خطر كبير، بل أصبحت أيضاً غير مقبولة.

مصدر الصور: GITTY – ريا نوفوستي.

إقرأ أيضاً: الأمن الغذائي ومواجهة الجوع

عبد العزيز بدر القطان

كاتب ومفكر – الكويت.


شارك الخبر
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •