شارك الخبر

في عمق كل قلب ينبض بوطنية لا تتجزأ، تنمو قيم العروبة والوطنية كشجرة متأصلة في أعماق الأرض، متماسكة وقوية في وجه أي إعصار، ومع ذلك، يبقى السؤال: هل نجد الوطنية في أفعالنا اليومية، أم هي مجرد كلمات نرددها دون أن نعيشها بحقيقتها؟

لنخوض سوياً في رحلة عبر عوالم الوطن والهوية، بعيداً عن الأمثلة المحددة، لنكتشف ما إذا كانت الوطنية حقيقية أم مزيفة في أفعالنا اليومية، ففي لحظات الصعوبة والتحديات، هنا يظهر الاختبار الحقيقي للوطنية، فمن يقف إلى جانب وطنه في أزماته، ومن يبذل جهوده لمساعدة الآخرين، يظهر بوضوح مدى ارتباطه بقيم الوطنية والانتماء.

ولكن الوطنية لا تقتصر على الأوقات الصعبة فقط، بل تتجلى أيضاً في العمل الدؤوب والمثابرة لبناء وتطوير الوطن، في كل مجالات الحياة، فمن يسعى لرفعة وتقدم وطنه، ويعمل بجد لخدمة مجتمعه، يكون متحلياً بروح الوطنية الحقيقية، وبالطبع، لا يمكن أن ننسى الدور البناء للانتقاد البناء والمساهمة في تحسين الأوضاع، بدلاً من الانتقاد السلبي الذي لا يساعد في تقدم الأمور، فمن يعبر عن رأيه بصدق ويسعى لإيجاد الحلول، يظهر بذلك ارتباطه العميق بوطنه ورغبته في رقيه.

بالتالي، إن الوطنية ليست مجرد كلمات ننطقها، بل هي أفعال نعيشها بكل تفاصيل حياتنا، في الأوقات السعيدة والصعبة على حد سواء، إنها روح تتجسد في كل تصرف، تذكرنا بأننا جميعاً جزء من وطن واحد، وأن تضحياتنا وتعاوننا هي ما يبني وطننا ويحميه.

ولتأكيد ما قصدته، سنعود إلى صفحات التاريخ وما أخبرتنا به، من خلال هذه القصة التاريخية، نستطيع استخلاص دروساً قيمة حول الوطنية والانتماء والشجاعة التي تظل ثابتة عبر الزمان والمكان، حيث تظهر الوطنية بوضوح في موقف معن بن زائدة الشيباني، الذي استمر في الدفاع عن دولة الأمويين حتى النهاية، رغم المخاطر التي كان يواجهها، ومع تغير الأوضاع السياسية وصعود الدولة العباسية، استمرت وطنيته في العمل لمصلحة وحماية وطنه.

ومع تحولات الزمن والظروف، يظهر أيضاً كيف يمكن للأعداء أن يصبحوا أصدقاء وأن ينبت الصداقة والاحترام من جذور الصراع السابق، فعلى الرغم من أن الخليفة العباسي، أبو جعفر المنصور كان يلاحق معن بن زائدة، إلا أن موقف معن الشجاع في المعركة جعل المنصور يقدره ويحترمه، وفي النهاية قام بتعيينه كوالي على مناطق مهمة، هذه القصة تذكرنا بأن الوطنية والعروبة لا تتغير مع تغير الأنظمة السياسية أو القيادات، بل تظل جزءاً لا يتجزأ من هويتنا وتاريخنا، وعلى الرغم من التحديات والصراعات، يمكن للشجاعة والإخلاص والعمل الصادق أن يثمر عنها تحولات إيجابية وتقدم للوطن والمجتمع.

وجدير بالذكر أن معن بن زائدة الشيباني (توفي 796 م)، المعروف بـ “أبو الوليد”، يُعتبر واحداً من الشجعان والأبطال في تاريخ الإسلام، يمتلك نسباً عريقاً يمتد إلى العصرين الأموي والعباسي، وهو معروف بجوده وكرمه الفائق، حيث تميّز بسخاءه الكبير حتى أنه وصل بعطائه إلى أعدائه، مما جعله محل إعجاب الناس وطلبهم للقاءه.

ففي لحظات اليأس والضياع، تظهر الوحشية الإنسانية بكل قبحها، وكما حدث مع السوريين في لبنان مؤخراً، تكشف الأحداث المأساوية حقيقة الخيانة والظلم التي يمكن أن يصل إليها الإنسان في مواجهة أخوته، من حروب العراق إلى الأزمة السورية، شهد العالم العربي مأساة تتلاشى فيها قيم الأخوة والعروبة أمام جشع السلطة والمصالح الضيقة، ففي مواجهة معاناة الأشقاء السوريين، لم تكن هناك رحمة أو تعاطف، بل كانت هناك قسوة وتجاهل لأبسط مظاهر الإنسانية.

ففي لبنان، بلد يفتخر بتاريخه العريق والوطنية الصادقة، شهدنا مشاهد القهر والظلم تجاه اللاجئين السوريين، حيث تعرضوا للسحل والقتل والتنكيل دون أدنى احترام لحقوقهم الإنسانية الأساسية، ولأجل مصالح سياسية ضيقة، حتى من يقول إنه وطني لم يقم بواجبه ويدافع عنهم، وفي هذا السياق، نجد أن قصة معن بن زائدة تندرج ضمن نفس النمط، بالتالي، تُظهر هذه القصة وما حدث للسوريين في لبنان كيف يمكن للمصالح الضيقة والحقد السياسي أن يكون لها تأثير كبير على حياة البشر، وكيف يمكن أن تفكك العروبة وتفقدنا قيمنا الإنسانية.

وها يعني أن تلك الأحداث تذكرنا بأننا بحاجة إلى الوقوف متحدين ضد الظلم والقهر، وأن نعمل معاً كأخوة عرب لحماية بعضنا البعض وللنهوض بوطننا العربي الموحد.

وفي مواجهة الفوضى والانقسام التي أحاطت بالعديد من دول الشرق الأوسط خلال فترة الربيع العربي، تكمن تحديات كبيرة أمام مفهوم الوطنية والانتماء الوطني، فقد شهدت العديد من الدول دعوات للتغيير والإصلاح من قبل شعوبها، وطالبوا بالعدالة والحرية والديمقراطية، وسط آمال بأن يكون هذا النهج مساراً نحو مستقبل أفضل، لكن بدلاً من أن تكون الوطنية والعروبة دافعًا لدعم وتضامن الشعوب العربية، وجدنا العديد من الدول تغلق أبوابها في وجه اللاجئين الذين فروا من الصراعات والاضطهاد، فقد تعرض الكثير من الشعوب للتجاهل والرفض، بينما كانت هذه الدول تدعو إلى الثورة والتغيير.

هذا المشهد يكشف عن تناقضات السياسات الخارجية، حيث تتحدث الدول عن دعم حقوق الإنسان والديمقراطية في الخارج، بينما في الوقت نفسه تمارس سياسات تجاهل ورفض تجاه الشعوب التي تعاني من الظلم والاضطهاد.

في هذا السياق، فإن الوطنية تتحدى بشكل مباشر عندما يفتقد الحكام والقادة الإرادة لتقديم الدعم لشعوبهم في اللحظات الصعبة، وعندما تتخلى عن مبادئ الإنسانية والعدالة في مواجهة مصالحها الضيقة، بالتالي، إن تحقيق الوطنية في مثل هذه الظروف يتطلب تقديم الدعم والتضامن للشعوب المظلومة، والعمل على تحقيق العدالة وحقوق الإنسان في كل مكان، بدلاً من التفريط في القيم والمبادئ من أجل مكاسب سياسية ضيقة النطاق.

إن الوطنية الحقيقية لا تقتصر على الكلمات والرموز الوطنية، بل تتجلى في التضامن والتعاون لمواجهة التحديات ودعم الشعوب المحتاجة، بغض النظر عن جنسياتهم أو معتقداتهم.

وفي وقت تتعرض فيه غزة لموجات من القصف والدمار، تكشف الأحداث الأخيرة عن تناقضات واضحة في السياسات الإقليمية والدولية، وتؤكد أن المصالح الضيقة هي التي تحكم، لا الأخلاق أو الوطنية، أما في ضوء الهجوم الإيراني على الكيان الصهيوني، بعد الضربة التي تعرضت لها القنصلية الإيرانية في دمشق، يظهر بوضوح أن الردود العسكرية لا تأتي فقط لصالح الشعوب المظلومة، بل تُجرى وفقاً للمصالح السياسية الخاصة.

فمن المثير للدهشة أننا نشهد صمتاً دولياً وعربياً على معاناة شعب غزة، الذي يعيش تحت حصار مفروض منذ سنوات، ويتعرض لهجمات متكررة من قبل الكيان الصهيوني، بينما تتجاهل الدول والمؤسسات الدولية دورها في حمايته ودعمه، بالتالي، تعكس هذه الأحداث أيضاً ضعف التضامن الإسلامي، وتكشف عن الانقسامات السياسية التي تعصف بالعالم العربي، وتُظهر بوضوح خوف الحكام على مصالحهم الخاصة بدلاً من الوقوف بجانب قضايا شعوبهم.

لذا، يجب علينا أن نفهم أن الوطنية والعروبة ليست مجرد شعارات، بل تتجلى في التصرفات والمواقف السياسية التي تدعم حقوق الإنسان وتقف إلى جانب الشعوب المظلومة، بغض النظر عن العواطف السياسية أو الاقتصادية، ما يعني أن عدم الوقوف بحزم ضد الظلم والاضطهاد يعكس ضعفاً في القيادة وانحيازاً للمصالح الضيقة، ويزيد من تعقيد الأوضاع في المنطقة ويعرض السلام والاستقرار للخطر.

ففي زمن القصص القديمة، كان التاريخ يروي لنا قصصاً عن نجدة للمظلومين وإيثار الآخرين، عن كرم وتعاون وإخاء حقيقيين، كانت الحياة تزدهي بالجمال رغم صعوباتها، فقد كان الإنسان يقف بجانب إخوته بكل إخلاص وصدق، مستعداً للتضحية من أجل الآخرين دون تردد، ومع مرور الزمن، أصبحت هذه القيم الأساسية تتلاشى تدريجياً فاليوم، نجد أن حجم الشر يتزايد، وأصبحنا نشهد بحزن وأسى قتل بعضنا البعض، وانعداماً للرحمة والتعاون الحقيقي. فما حدث؟ هل تغيرنا نحن أنفسنا، أم أن الأزمنة قد تبدلت وتلاشت تلك القيم النبيلة؟

ربما الإجابة تكمن في مزيج من العوامل، فربما تقلبات الحياة والتحولات الاقتصادية والاجتماعية قد غيّرت وجه العالم، ولكن هل هذا يبرر انقطاع التعاون والإخاء؟ هل يمكننا أن ننسى القيم التي بنيت عليها حضارتنا؟ ربما في هذه الأوقات العصيبة، يكون علينا التفكير بجدية في كيفية استعادة تلك القيم الضائعة، فلربما يكون في تجديد الالتزام بالعدالة والرحمة، وفي تعزيز روح التعاون والتضامن، مفتاح لبناء مستقبل أفضل، ولندرك أن التاريخ لم يترك شيئاً إلا وأخبرنا به، فلماذا لا نتعظ!

فهذا العالم مليء بالتناقضات والتحديات، تظهر القضايا السياسية واضحة كما لو كانت تجسيداً للتاريخ نفسه، فعندما يقوم إيران بالرد على الكيان الصهيوني، يعكس ذلك الانقسام الواضح بين التأييد والمعارضة، ويجسد تاريخاً حافلاً بالصراعات والصدامات السياسية، خاصة وأن تاريخنا مليء بلحظات التحول والصراع، حيث تتقاطع المصالح والأجندات السياسية، وتتجسد الانقسامات بين القوى المختلفة، فمنذ القدم، كانت الحروب والصراعات جزءاً لا يتجزأ من حياة البشرية، حيث تتباين المواقف وتتضارب الأهداف، ويبقى الانتقام واحداً من أبرز المحركات وراء تلك الصراعات.

وفي هذا السياق، يعكس رد إيران على الكيان الصهيوني ليس فقط تفاعلاً سياسياً حاداً، بل يجسد أيضاً تاريخاً متشابكاً من الانقسامات والصراعات القديمة، فالمواقف تتباين بين من يرى في هذا الرد استعادة للعزة والكرامة، وبين من يراه تصعيداً للتوترات وزيادة للعنف والاستقطاب، لكن في النهاية ليس لصالح أحدٍ منا، هذه الحقيقة الوحيدة المسلم بها.

و في النهاية، لا بد أن نتذكر أن الوطنية لم تأتِ من فراغ، بل نشأت وازدهرت في ظل الصراعات والثورات والحروب من أجل تحقيق المصالح الوطنية، إنها الوطنية التي دافعت عن الحق والعدالة، وصمدت أمام الظلم والاستبداد، وأسهمت في بناء الدول وتحقيق الاستقلال والحرية، إنها الوطنية التي شكلت حجر الزاوية في تاريخ الأمم، فكما قاتل الأجداد من أجل الوطن والكرامة والحرية، فلن نسمح للمصالح الضيقة والطموحات الشخصية أن تزعزع هذه القيم النبيلة.

فلنستلهم العبر من تلك الثورات القديمة، ولنتحد كشعوب واحدة، متحدون خلف راية الوطنية الحقيقية، التي تتجاوز الانقسامات والصراعات، وتعزز الوحدة والتضامن بين الناس، ولنجعل من الوطنية شعلة تنير طريقنا نحو مستقبل أفضل، حيث يسود العدل والمساواة، وتزهر الحياة بكل ألوانها وتفاصيلها، إنها الوطنية الحقيقية التي تجعلنا نقف صامدين في وجه التحديات، ونسير بثقة وإيمان نحو تحقيق أحلامنا وطموحاتنا لأوطاننا الحبيبة.

ولكن، مهما كانت الآراء متباينة، يبقى السؤال الأهم هو: هل يمكننا أن نتعلم من تاريخنا ومن الصراعات التي مررنا بها؟ هل يمكننا أن نبني جسوراً للتفاهم والتعاون بدلاً من الانقسام والصراع؟

إن التاريخ يعلمنا أن الحروب لا تحقق سوى المزيد من الدمار والخراب، وأن الحلول السلمية والحوار المبني على الاحترام المتبادل هي السبيل الوحيد لتحقيق السلام والاستقرار، إنها الدروس التي يجب أن نتعلمها ونتمسك بها، من أجل مستقبل أفضل للجميع، فكونوا وطنيين، بالفكر والموقف والحق، لا للدين أو الحزب أو المصلحة الشخصية.

مصدر الصور: أرشيف سيتا – إزفستيا.

إقرأ أيضاً: تفجير إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال قيادات إيرانية في ضوء القانون الدولي

عبد العزيز بدر بن حمد القطان

كاتب ومفكر – الكويت


شارك الخبر
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •