ذكرنا أن أمراض المحكوم أو الرعية سبب أغلبها هو الحاكم العربي. ونعرض هنا في – هذه المقالة – لأمراض الحاكم أو الراعي وعلاجها. ومما يذكر أن الصيغة القديمة التي تقول “إذا صلح الراعي صلحت الرعية”، كانت تستند إلى حقيقة أن أمراض الرعية سببها أمراض الراعي؛ ولكن لما نجح الحاكم في افساد الرعية، أصبحت الصيغة الجديدة هي أنه إذا صلحت الرعية صلح الحاكم على أساس أن الرعية وعاء والحاكم خرج منه. فإذا كان الوعاء سليماً صحيحاً أتاح أفضل من فيه حاكماً على كل المستويات، وإذا كان الوعاء فاسداً إنقض عليه أسوأ من فيه على كل المستويات، وهذا تطبيق للحديث الشريف “كما تكونوا يولى عليكم”.

هنا، نوجز أمراض الحاكم وعلاجها، فأمراضه مستعصية لكن علاجها ميسور اذا تصدى للمهمة رجال من ذوى العزم وإذا كان البرنامج واضحاً بصرف النظر عن الفترة الزمنية التي يستغرقها برنامج الإصلاح.

الحاكم العربي يعبُد السلطة؛ ولذلك، لا توجد شرعية داخلية لهذه السلطة ويجتهد في اشاعة الفساد حتى ينحط الناس ويجد مبرراً للاستعلاء عليه، وهو أكثر انحرافاً منهم. ونظراً لأن السلطة مطلقة في البلاد المتخلفة وكلمة الحاكم هي القانون، يصاب الأخير بأمراض شخصية لأنه يأتي من “أتفه” عناصر الأمة. للاسف، يكون الحاكم وكيلاً لمن عيّنه؛ ولذلك، يستمد كل الحكام العرب مشروعية السلطة لديهم من واشنطن، وقد كشفت ملحمة غزة أن واشنطن تخضع لإسرائيل، وقد وضعت المعادلة للحكام العرب فتمكنهم من السلطة مقابل تسخير الوطن وسكانه لخدمة إسرائيل. لذلك، يتصرف الحاكم العربي بشكل ظاهر حيث يدعى الوطنية والاستقلال وأحياناً يرفع شعار محاربة الاستعمار والصهيونية بعد استئذان واشنطن التي تتيح له مساحة لحفظ ماء الوجه أمام الشعوب العربية. ولكن دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي، السابق كشف الغطاء كما أن جهاز الموساد الإسرائيلي لديه ملفات الفضائح للحكام العرب.

أما أمراض السلطة فهي متعددة؛ النوع الأول، يتعلق بأمتيازات السلطة وسهولة توجيه موارد الدولة لصالح الاتباع، من كل نوع أو قل حراس عرش الحاكم. والنوع الثاني، هو أن الحاكم العربي – عندما يجلس على رأس السلطة لمدة طويلة – يصاب بأمراض السلطة التي شرحها بالتفصيل وزير خارجية بريطانيا العام 1964 عندما عاد إلى مهنته الأصلية وهي جراحة المخ والأعصاب، فأبدع في تعقّب أمراض السلطة الجسمانية والعقلية والنفسية – حتى في النظم الديمقراطية – حيث يصعب ممارسة السلطة وسط القيود القانونية والرقابة السياسية والبرلمانية والإعلامية، فتكون ممارسة السلطة لصالح الوطن وحده. ومع ذلك، يصاب الحاكم بأمراض السلطة رغم مناعة النظام ومناعته الشخصية والسياسية، ويستدل على هذا الواقع بشخصيتين على الأقل؛ الشخصية الأولى، هي أنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا السابقة، التي امضت في الحكم 12 عاماً متصلة. والشخصية الثانية، هي بنيامين نتانياهو، في إسرائيل، الذي أمضى في الحكم قرابة 30 عاماً متقطعاً منذ العام 1995 حتى كتابة هذه السطور، العام 2024. ولا شك أن الرئيس المصري الراحل، محمد حسني مبارك، عندما أمضى فس السلطة 30 عاماً ظهرت أمراض السلطة عليه الرسمية والشخصية، لأنه لم يكن يتمتع بأية حصانة ضدها؛ ولذلك، استخف تماماً بالشعب علناً وقام الشعب بالثورة عليه في 25 يناير/كانون الثاني 2011، وخلعه لولا أن قوى داخلية وخارجية مستفيدة من استمرار النظام أحبطت الثورة وطاردتها.

النوع الثاني من الأمراض مترتب على المرض الأول، وهو أن عبادة الحاكم العربي للسلطة اتاحت للخارج أن يمكنه من الحاكم العربي من هذه السلطة، فأصبح الخارج هو المتحكم في الوطن ومقدراته وقراراته مادام يسند سلطة الحاكم.

المرض الثالث مترتب على المرضين السابقين، وهو ترفّع الحاكم عن الشعب وتمكين بطانته من الاستفادة بالموارد والاستعلاء على الشعب، فأصبحت مصلحة الوطن في ناحية، وحسابات السلطة في ناحية أخرى. ففي أغلب الحالات، يتم التضحية بمصالح الوطن في سبيل خدمة كرسي السلطة.

المرض الرابع، هو أن الحاكم العربي يعتبر نفسه الوطن أو يعتبر الوطن ملكاً له؛ ولذلك، كان الرئيس مبارك يردد دائماً، إما هو وطغيان نظامه أو الفوضى، أملاً بأن يقبل الشعب الطغيان خوفاً من الفوضى. وقد لاحظنا أن مهمة اعلام الحاكم هي تبرير أخطائه وعجزه عن الادارة وفساده، واحياناً يبالغ هذا الإعلام بإعلاء حب الوطن وقدسيته، علماً بأن الوطن الذس يقصده الحاكم ليس هو الوطن الذي يقصده الشعب.

المرض الخامس، هو ادمان التبعية للخارج. فأصبحت قيمة الحاكم العربي – بنظر الولايات المتحدة – هو مدى نفعه لإسرائيل؛ ولذلك، ليس مستغرباً أن تكرس الدراسات الأمريكية صفحات مطولة للحديث عن صمود معاهدة السلام، “كامب ديفي”، بين مصر وإسرائيل 45 عاماً، وانها كانت “فتحاً عظيماً” لإسرائيل. ولقد أطلق عليها وزير خارجية إسرائيل – عندما كان يحتفل ببدء سريانها يناير/كانون الثاني 1980، بأنها حققت لإسرائيل “الجائزة الكبرى” ونزعت “الخطر المصري” تماماً من قاموس إسرائيل، وأن إدراك مصر لمزايا السلام مع إسرائيل هو الذي شجعها على التمسك بالمعاهدة. وسوف نفند هذه الرؤية في مقال آخر بالتفصيل لأن معاهدة السلام كانت “ثمرة الخطيئة”، وهى تقريب الرئيس الراحل محمد أنور السادات من إسرائيل وأمريكا، حيث فقدت مصر مكانتها في المنطقة العربية، وتوشك إسرائيل على أن تكون مركز التفاعلات الاقليمية في المنطقة. ومع ذلك، لا تحرج إسرائيل من اعتبار مصر – رغم كل ذلك – عدواً لها، لكن المشكلة في مصر هي تقارب السلطة من إسرائيل، حيث لا تجرؤ السلطة عن التطبيع الشعبي مع إسرائيل، إذ لا يزال الشعب المصري يكره إسرائيل ويعتبرها المسؤولة عن جميع مشاكله لأنها تريد لمصر كل الشر وتسعى بالفعل إلى ذلك.

وسائل العلاج

علاج هذه الأمراض لا يتوقع أن يكون سريعاً، إنما المطلوب أن يكون متزنناً وقائماً على إدراك صحيح بالواقع. فعبادة السلطة من طرف الحاكم، سببه السلطة المطلقة وامتيازتها المطلقة، والمطلوب من النخب العاقلة الرشيدة أن تقلل من “عبادة” الحاكم للسلطة وأن توجه السلطة إلى خدمة الوطن، وأعتقد أن نجاح المقاومة ضد إسرائيل سيسهل هذه النقلة. أيضاً، المطلوب من النخب أيضاً أن تصلح الرعية في نفس الوقت الذى تطبق فيه برنامج إصلاح الحاكم.

في هذه الحالة، يُختار للحكم أفضل العناصر للأمة في وسط بيئة قانونية تقدر الكفاءات وتنصرف عن التفاهات والسفهاء.

يترتب على ذلك، حل جميع عقد الحاكم، فيعود الحاكم بالانتماء إلى شعب أباً، وقد عاد إليه عقله وفضائله ويعترف بالانتماء لهذا الشعب، فتزداد جرعة الوطنية لدية دفاعاً عن الوطن وليس دفاعاً عن كرسي السلطة الذي يمكنه هذا الشعب منه. أيضاً، يترتب على ذلك اعتزاز الحاكم باستقلال القرار الذي يخدم الوطن فقط.

وفي المراحل الأولى لعمل هذا البرنامج الاصلاحي، نتوقع أن يخلص الحاكم في خدمة الوطن، ولكن لا يقدره شعبه. فهذا جزء من المخاطر التجربة. وعلى سبيل المثال، فإن رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل – الذي كسب الحرب العالمية الثانية ووقف مع الشعب البريطاني فى أحلك لحظاته – لم يختاره الشعب البريطاني في الانتخابات التي اعقبت الحرب، لكن تشرشل العظيم لم يكفّر بشعبه لمجرد أنه حجب عنه بكرسي الحكم، ولم يتهمه بالجحود، كما هي عادة الحكام العرب.

من الأمثل الأخرى الرئيس الفرنسي الراحل، شارل ديغول، الذي قاد المقاومة الفرنسية ضد الألمان، ولكنه لم يكسب الانتخابات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك لم يقلل ذلك من عظمته في التاريخ الفرنسي. وعندما انتخب للمرة الأولى رئيساً لفرنسا وأنشاء الجمهورية الرابعة العام 1958، لم يتردد ديغول بالاستقالة عندما لم يحصل علي التاييد الشعبي، في استفتاء العام 1962، وهو الذي أخرج فرنسا من ورطة الجزائر واعترف بالثورة فيها، والتي قادت إلى استقلال الجزائر في يوليو/تموز 1962، بعد أن فقد الجزائريون 1.5 مليون من الأنفس عبر الفترة الفاصلة بين اندلاع الثورة في نوفمبر/تشرين الثاني 1954 والاستقلال في يوليو/تموز 1962.

الخلاصة، نريد للحاكم العربي أن يكون كالحاكم الأجنبي الذي يعتبر السلطة مُلكاً لكل الشعب وليست “مزرعة خاصة” يحقق بها مصالحه ومصالح المتسلقين من رجاله، كما نريد له أن يستمد شرعيته من الشعب بعد اصلاحه عبر انتخابات حرة؛ فإذا خدم وطنه ولم ينجح في الانتخابات، أن لا يعتبر الحاكم العربي عقوبة له، كما أنه إذا نجح في الانتخابات أن لا يعتبر ذلك النجاح مكافأة له على اخلاصه للشعب والوطن.

مصدر الصورة: العربي الجديد.

إقرأ أيضاً: أمراض الرعية وعلاجها

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر