يان فان زيبروك*
الخطاب “العظيم” لفلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، كان واحداً من اهم الخطب المهمة التي حذر فيها الولايات المتحدة، لمرة واحدة واخيرة، وحلفائها من الإقدام على حرب عالمية ثالثة. في احدى عبارات الخطاب، أشار إلى نظام الدفاع الصاروخي المنتشر حول روسيا، وإلى انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية، للعام 2002. كما اشار الرئيس بوتين الى ان الولايات المتحدة منحت نفسها الحق في ضرب أية دولة يشتبه في ان لها علاقة بالارهاب، والاسلحة الذرية واسلحة الدمار الشامل، وخاصة ما لا يذكره بوتين.. السلاحين البكتريولوجي والكيمياوي!
في هذا المجال، من الضروري مراجعة بعض الاحداث التاريخية وابرزها 11 سبتمبر/ايلول 2001. كانت الولايات المتحدة تستعد للحرب على أفغانستان حيث تم تمرير العديد من القوانين، من دون ان تحرك الصحافة الاوروبية ساكناً، وابرزها “القانون الوطني 1 و2” اللذين اعطيا صلاحيات واسعة للشرطة وقوات الامن بالقبض على أي شخص يشتبه في ارتباطه بأعمال ارهابية، وزجه في السجون السرية، وغيرها من الامور.
إذا كان نطاق تطبيق هذه القوانين ضمن الولايات المتحدة، يمكن أن نقول إنها سياسة أمريكية داخلية لا تتعلق ببلدان أخرى، ولكن هذه الخطوة ستكون سبباً في تطوير “المجتمع الفاشي”. ان تلك القوانين قد اعطت الحق فى ضرب أية دولة لها “روابط مشبوهة” بالارهاب، أو الاسلحة النووية، علماً ان مفهوم “الارهاب”، لدى القادة الامريكيين، يتطور بمرور الزمن ويتم استعماله بحسب المصالح. هذه خطوة جعلت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بل ممثلي الدول الأوروبية الذين يريدون أن يكونوا أمريكيين أكثر من الأمريكيين أنفسهم، “تقفز” الى مكان خطير للغاية وهو الهجوم بالأسلحة البكتريولوجية والكيميائية.
بناء على ذلك، عاد الرئيس الامريكي الأسبق، جورج بوش، وحكومته من جديد الى المفاوضات بشأن “اتفاقية الأسلحة البيولوجية” التي وضعت في العام 1972 كأول معاهدة متعددة الأطراف لنزع السلاح هدفها حظر إنتاج فئة كاملة من “الأسلحة النووية البكتريولوجية”، مما يعني بأن الولايات المتحدة قد قررت الدخول، مجدداً، في حقل الاختبارات الخاصة بتلك الأسلحة.
بناء على ما سبق، من الضروري العودة الى الوراء من اجل استشراف المستقبل. لقد بدأ تاريخ “الجمرة الخبيثة”، في شكلها “العدواني”، ابان الحرب العالمية الثانية. فخلال احتلالهم لمنشوريا، اختبر اليابانيون انواعاً مختلفة من الأسلحة البكتريولوجية والكيميائية على السجناء الصينيين، حيث شملت التجارب امراضاً متعددة كالملاريا والتيفوس والجمرة الخبيثة التي قد توقع آلافاً من الضحايا الابرياء. هذه التجارب، دعت قوات الحلفاء الى الاعتقاد بأن الألمان كانوا قد بدؤا أيضاً تجربة اسلحة تحتوي على مثل هذ المواد لا سيما بعد القصف الأول للعاصمة البريطانية، لندن، من قبل ألمانيا النازية، حيث نشرت العديد من الصحف اليومية قصصاً عن استخدم الألمان للأسلحة البكتريولوجية.
في العام 1940، دفع الدكتور الكسندر فليمينغ، الذي عُرف من خلال ابحاثه عن مادة البنسلسن، الحلفاء، بما فيهم بريطانيا وكندا، للشروع في انتاج هذا النوع من الأسلحة. لسخرية القدر، ان احد أعظم الأطباء الذين حصلوا على جائزة نوبل لاكتشافه البنسلين سيكون هو نفسه الداعم الأكثر وأحد أكبر جماعات الضغط. لقد بدأ الدكتور فليمينغ، فعلاً، بجمع التبرعات اللازمة للقيام بأبحاثه لا سيما من خلال رجال الاعمال؛ على سبيل المثال، تلقى فليمينغ دعم ممثل الجالية اليهودية في كندا للبدء بأبحاثه.
في العام 1942، كانت التجربة الانجليزية الأولى في جزيرة غروينارد، وهي جزيرة بالقرب من الجانب الغربي لاسكتلندا. هذه التجارب الفاشلة، تماماً، جعلت هذه الجزيرة أرضاً غير صالحة للسكن، بما فيها الحيوانات والنباتات. غير ان رغبة فليمينغ، في قتل ما بين 3 و4 ملايين الماني، قد ادت الى وفاته في حادث تحطم طائرة. من خلال مجريات التاريخ، يمكن التأكد بأن هتلر لم يكن يريد أبداً استخدام هذا النوع من الأسلحة، اذ كان هو نفسه ضحية لغاز الخردل، اذ لم يثبت أي دليل على تطويره لهذا النوع من السلاح.
في 18 سبتمبر/ايلول 2001، تم ارسال مظاريف تحتوي على مادة “الجمرة الخبيثة” إلى “اي.بي.سي.نيوز”، و”سي.بي.اس.نيوز”، و”نيويورك بوست”، و”ان.بي.سي” فضلاً عن اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، “داشل” و”ليهي”. لعدة أشهر، شعرت الدول الغربية بالقلق إزاء هذا الشكل الجديد من الهجمات الارهابية، الكيميائية والبكتريولوجية. هذه الراسائل أُرفقت بعبارة “الموت لاميركا، الموت في اسرائيل – الله اكبر”. غني عن القول انه، وبعد 11 سبتمبر/ايلول، تم القبض على المشتبه بهم بالفعل. ولكن بعد عدة أشهر، لم تحرك وسائل الإعلام ساكناً، ولا حتى اللجان “الزائفة” التي كلفت بالتحقيق في الهجمات والتي، وبرأيي الشخصي، لم تقم بأي تحقيق جدي حول انهيار البرج الثالث ومن يقف وراءه، اذ ان ذلك لم يعد مهماً لا سيما بعد التخطيط للحرب على كل من أفغانستان والعراق.
واصل محققو مكتب التحقيقات الفدرالي تحقيقاتهم، في العام 2008، حيث تم القبض على الجاني وهو الدكتور بروس إيفينس، انتحر في 3 أغسطس/آب من العام 2008، والذي اعتبر شخصاً “مختل عقلياً” ويعاني من “الاكتئاب”. غير أن محاميه، في ذلك الوقت، أشار إلى أن موكله كان يتعرض للمضايقات من قبل السلطات القضائية، وأن هذا “الضغط” كان من شأنه أن يدفعه إلى النهاية.
اثبتت التحقيقات ان الدكتور إيفينس كان احد “الذئاب المنفرة”. في الواقع، كان القليل من الناس مهتمون بعمله وخاصة أبحاثه في مختبر “P4” قبالة فورت ديتريك، وهو قسم خاص بالجيش الأمريكي، يعنى بإجراء الدراسات حول الأسلحة البكتريولوجية والكيميائية. ان الاستنتاج، من كل ما سبق، يشير الى ان مسؤولي أو رؤساء الدكتور إيفينس هم متورطون ايضاً بما قام به لا سيما وان الإفراج عن مثل هذه الكمية من “الجمرة الخبيثة” يعتبر امراً حساساً لا يستطيع القيام به شخص بمفرده بحيث لا يمكن له تهريب هذه الكمية لوحده من دون ان يكتشفه احد.
ضمن هذه السلسلة من الرسائل الملوثة والتي ارسلت عن طريق الصدفة، لم يكن استهداف عضوي مجلس الشيوخ عن طريق الصدفة خصوصاً انهما كانا الوحيدين اللذين وقفا ضد اقرار القوانين التي اقرت في تلك الحقبة. وبعد محاولة الاغتيال تلك، عادا وصوتا لصالح اقراها.
في مايو/ايار من العام 2001، تم تعيين جون بولتون، سفير الولايات المتحدة في مجلس الامن حينها، من قبل الرئيس بوش الابن بمنصب داخل وزارة الخارجية ضمن لجنة مختصة بشؤون نزع الأسلحة. بولتون كان من الدائرة الضيقة لـ “المحافظين الجدد” وأحد أشرس “الصقور” في الإدارة الأمريكية حيث دفع بقوة الى غزو العراق، اضافة الى انه واحد من ابرز منظري “الحرب الوقائية”، وأحد المتطرفين اليمينيين، سيما وانه كان قريباً جداً لنائب الرئيس ديك تشيني، وهو من كلف ايضاً بملف ايران وكوريا النووين في حينها.
في ديسمبر/كانون الأول 2001، بدأت التسؤلات حول بروتوكول “اتفاقية الأسلحة البيولوجية”، وهو أحد البروتوكولات القليلة التي اعتمدتها القوى العظمى في العام 1972. وفي يونيو/حزيران من العام 2001، وضعت حواجز أمام تنفيذه، لا سيما من جانب الجانب الأمريكي وبعض القطاعات الخاصة، علماً أن رفضاً واحداً من جانب البلدان الـ 56 الموقعة يمكن أن يضع حدا لهذا البروتوكول.
في ديسمبر/كانون الثاني من العام 2001، سحب جون بولتون دولته من المشروع حيث تم ذلك بشكل رسمي في العام 2002. خلُص المسؤولون الأمريكيون إلى أن النص المقترح من شأنه أن يعرض للخطر البحوث المشروعة في علم الأحياء، وان المشروع لن يمنع الإرهابيين من الحصول على هذه المواد الخطرة.هذا حدث يعتبر هاماً كونه يرسل إشارة واضحة وهو رغبة الولايات المتحدة في استئناف، منذ العام 2002، التجارب على الحروب البكتريولوجية والكيميائية. لقد كانت رسائل “الجمرة الخبيثة” كافية لإضفاء الشرعية على هذا الحدث الخطير في تاريخ التسلح العسكري، اذ حذر الفقيه الدولي، فرانسيس أنطوني بويل، الذي كان مسؤولاً عن صياغة مسودة قانون الأسلحة البكتريولوجية لعام 1989 وقانون اتفاقية الأسلحة البيولوجية الأمريكي لعام 1972، الأمريكيين والعالم من هذا التطور الخطير في كتابه “الحرب البيولوجية والإرهاب”.
منذ ذلك الحين، اتحدت الحكومات الأمريكية والغربية ضد مشروع إيران النووي السلمي والترسانة النووية لكوريا الشمالية، لكنها فشلت في الإشارة إلى أن أول الدول المنسحبة من اتفاقية “نزع السلاح النووية” كانت الولايات المتحدة ذاتها.
هنا يطرح السؤال التالي: ماذا عن البلدان التي لم تصدق على بروتوكول العام 1972، بما في ذلك إسرائيل، التي استحوذت على جميع انواع الأسلحة البكتريولوجية في جنوب أفريقيا أثناء الفصل العنصري؟ ومن دون أن ننسى بعض البلدان الأفريقية، بما فيها السنغال، يمكننا أن نعرف بأن المختبرات العسكرية الكبيرة موجودة في أفريقيا من اجل مواصلة البحث في الأسلحة البكتريولوجية.
*باحث في مركز “سيتا”
المراجع:
http://bit.ly/2DbTtcZ
http://bit.ly/2oSzThY
http://bit.ly/2tzE7zR
http://bbc.in/1FOe7L5
http://bbc.in/2HgFPrz
http://nyti.ms/2oUoFJA
http://nyti.ms/2D8x7JD
http://bit.ly/2FoN5kB
http://bit.ly/2DccrQQ
http://bit.ly/2G5ORIA
http://bit.ly/2oSAwYS
http://bit.ly/2FmRNn2
http://bit.ly/2Fx6iEj
http://bit.ly/2oYPThv
Complete report of Canadian television on the first anthrax test in French:
http://bit.ly/2FnjOLu
مصدر الصور: سبوتنيك – عربي 21.