هاني الظليفي*

لطالما ركزت الدراسات السياسية حول مفهوم الحركات الشعوبية التقليدية على سياسات المعارضة، مثل الحركات الاحتجاجية وحملات الأحزاب الصغيرة. لكن نتائج الانتخابات الأخيرة في كل من تركيا وإيطاليا وهنغاريا وبولندا وفنزويلا وغيرها أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأحزاب الشعوبية لم تعد كما كانت في السابق، بل أحرزت مكتسبات سياسية هائلة لا تقتصر على مجرد تحقيق الانتصارات الانتخابية للفوز بالسلطة فحسب، بل وقد أظهرت أيضاً مرونة في وصول الحكم وممارسته عملياً. كما لم يعد من الممكن الاقتصار بالقول على اعتبار الشعبوية مجرد عرض من أعراض ضعف المؤسسات: فالشعبويون اليوم يستلفتون النظر ويجدر  تقديرهم كبناة للمؤسسات.

لقد جرت العادة عند تحليل النزعة الشعوبية أن تم تصورها على أنها إيديولوجية أو استراتيجية تنظيمية أو شكل من أشكال التعبئة أو الخطاب – في سياق حركات الاحتجاج والأحزاب الصغيرة. أضف إلى أن الحكومات الشعوبية نادراً ما كانت تستحوذ على اهتمام كبير. وإذا كان الأمر كذلك، فإن المناقشة التي تدور حولها تميل إلى أن تكون مبنية على أنواع من النظرة المثالية أو على استقراء الاتجاهات التي يتم ملاحظتها داخل دوائر المعارضة في الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا وأمريكا.

الآن، وبعد أن أصبح بإمكاننا رؤية الشعبويين في السلطة في عدد متزايد من البلدان، تغدو الحاجة ملحة إلى إعادة النظر في طبيعة الشعبوية المناوئة للمؤسسات، إذ كثيراً ما استخدم التعبيران، “الشعوبية” و”معاداة المؤسسات”، كمرادفين حتى في سياق بلدان أمريكا اللاتينية التي كثيراً ما يقوم الرؤساء فيها بحملة على أساس معارضتهم للمؤسسة.

تبدو العلاقة بين المفهومين أكثر جلاءاً في أوروبا والولايات المتحدة، حيث كانت القوى الشعبوية هامشية ومعارضة في ما مضى. أما في الوقت الراهن، فمن إيطاليا إلى المجر، أو من بولندا إلى الولايات المتحدة، نرى الآن كيف يقوم الشعبويون بحصد الانتصارات الانتخابية وتحقيق الوصول الى سدة إدارة الحكومة وترجمة أفكارهم إلى سياسات.

في حين أن إزالة صفة معاداة النخبوية من تعريف الشعبوية من شأنه أن يحرم التعريف الكثير من قيمته التحليلية، وعليه فإننا نحتاج إلى أخذ بعض التحذيرات بجدية أكبر من الماضي. اولاً، وبما أن العناصر الشعبوية هي في العادة جزء من حزمة أيديولوجية أكبر، فإن الرفض المتباين لجميع النخب هو بالواقع أمر نادر الحدوث. وثانياً، يمكن أن يكون مبدأ “تبجيل” الشعب، وهو ما يعتبر غالباً السمة المميزة للشعبويين، يتزامن أيضاً مع وجود  الشكوك العميقة فيما يتعلق بجدارة الشعب مثاله. وهنا نستذكر تساؤلاً تهكمياً طرحه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، علناً عن مدى غباء شعب ولاية “أيوا” الأمريكية.

يجدر بنا أيضا ملاحظة أن الطابع السلبي، العابر، والممزق، والمتمرد للشعوبية هو نتاج حدث تاريخي، أكثر من كونه نتيجة لجوهر الشعبوية. فبعد الحرب العالمية الثانية، واجه القادة الشعوبيون جمهوراً انتقائياً ومحتضراً إلى حد كبير في معظم أرجاء العالم المتقدم. فلم ترقَ موهبة أولئك القادة في أغلب دول العالم الديمقراطي، أو قدرتهم التنظيمية، أو انضباطهم الداخلي إلى مستوى التحديات التي يلزم الوفاء بها. وبالتالي، لم يتمكن هؤلاء القادة من الوصول إلى ما هو أبعد من إنجاز التعطيل المؤقت لآلية الرعاية الاجتماعية والديمقراطيات الليبرالية.

أما اليوم، فالمواطنون الذين يعارضون أجندة الديمقراطية الليبرالية السائدة حول الاندماج الاقتصادي والسياسي، وبالأخص حول الهجرة، الذي بات الموضوع الأكثر شعبية هذه الأيام وبالتحديد في أوروبا وأمريكا، أو حول الطريقة التي يجب أن تعالج بها المخاوف من الأقليات كالمهاجرين المسلمين في أوروبا والمكسيكيين في الولايات المتحدة الأمريكية في وسائل الإعلام، هؤلاء المواطنين باتوا يشكلون قاعدة دعم كبيرة بما يكفي لجعل المشروع الإستراتيجي الشعبوي الطامح للوصول إلى الحكم مشروعاً قابلاً للحياة. حتى أن قابلية نجاح المشروع باتت تجتذب نوعية من الناس طالما كانت بعيدة عن مجال تأثير الشعبوية حتى الآن، وهم: المانحون، ومديرو الحملات، والمحامون، وبشكل عام البيروقراطيون المطلعون في الحكومة الذين يعرفون حقاً النظام الليبرالي على حقيقته، وإلى أي مدى كان مدعوماً بالالتزامات والموارد الفعلية، وببساطة مدى عمل أو ضحالة التوافق بين أعضاء النخبة غير الرسمية.

يلاحظ أيضا أن سلطة الشعبويين، بقدر ما تكون ديمقراطية، تظل هشة بسبب قلة خبرتهم أو عدم رغبتهم في تجميع المصالح الاجتماعية الجزئية أو كليهما معاً، وبسبب معارضتهم لممارسات الحكم القائمة من قبل. لكن الموانع التي تقيد الجهات الفاعلة السياسية الأخرى من استخدام الأساليب المعيارية للاحتفاظ بالسلطة الحكومية لا تنطبق على الشعبويين، وبالتالي يمكن أن يكونوا مرنين بشكل مفاجئ في الحكم.

من الطبيعي أن يحتاج الشعبويون إلى إحداث التغيير في الحكومة جملة واحدة. ففي المقام الأول، يحتاجون إلى إعادة تعريف خصمهم المعارض بحيث يتم استبعاد الحكومة الفعلية والأغلبية البرلمانية من تعريفهم للخصم السياسي فتراهم يلجأون إلى بدائل كثيرة؛ فمرة هم الجهات الفاعلة الدولية، وأخرى الدول الأجنبية، أو النخب الاجتماعية والثقافية، وأحيانا يتناول الخطاب الشعبوي الماسونية، اليهود والصهاينة، النخب التجارية، والليبراليين الجدد، الدولة العميقة والموازية، البيروقراطية الأوروبية، إلخ.

فالخيارات وافرة ولا يوجد نقص في العناصر الفاعلة القوية التي يمكن أن يقدمها رئيس وزراء ما أو رئيس قومي كبش فداء كهدف للهجوم. وبما أن السياسي الشعبوي، في الكفاح ضد مثل هؤلاء المستهدفين، يحتاج إلى كل الدعم الذي يمكنه الحصول عليه من شرائح الشعب، فإن بالإمكان عندئذ أن يطالب بتعزيز الجوانب السلطوية والعقابية في الحكم وهو يحصل عند ذلك على ما يريد  لا محالة.

كما أن الموقف الثابت للأحزاب الشعوبية يعني أن مؤيديهم سيتغيرون. ومن المعتاد، على سبيل المثال، قياس المواقف الشعوبية من خلال الأحكام السلبية المتعلقة بالسياسيين. لكن في البلدان التي يحكمها الشعبويون، من المرجح أن يوافق معارضو الشعبويين على مثل هذه التصريحات. وعليه يحتاج الباحثون إلى أدوات قياس حساسة لكيفية تعريف المؤسسة الشعبوية لأعدائها من أجل فهم سبب استمرار الناس في دعم مثل هذه الحكومات.

توضح مجريات الأحداث الهنغارية والبولندية أن الحكم الشعبوي الفعَّال والمستقر نسبياً يتطلب التغيير المتكرر لقواعد محددة في السياسة والأعمال التجارية وخلق مجال غير متكافئ من خلال إعادة توزيع الموارد بعناية. فكلا النظامين لهما عناصر قمعية، لكنهما لا يسجنان المنتقدين من مواطنيهم الذين ينتقدون سياساتهم، ولا يلغون حرية التعبير في البلاد أو ينسفون الهياكل الرسمية للحرية الليبرالية، بل إنهم يحافظون على تراثهم الشعبوي عن طريق استخدام خطاب حماسي لحشد الشعب ضد فصائل النخبة “الخارجية”، وكلما أمكن، من خلال إضعاف الآليات التي يمكن أن تقيد الأغلبية البرلمانية وتضعف قدراتها، وهذا يتضح جلياً في حال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. لكن هذا الخطاب الشعبوي يكون متوافقاً مع سياسات مالية مسؤولة وتدابير فعالة في مجال فرض القانون والنظام.

من المهم أيضا أن نعترف بأنه في حين أن عداء المؤسسة الشعبوية للديمقراطية الدستورية وتقسيم السلطة لا يمكن إنكاره، فإن عدائيتها تجاه التعددية الحزبية أقل وضوحاً. بالتأكيد، هناك حالات كثيرة يتحدث فيها الشعبويون في الحكومة كما لو كانوا متطابقين مع الشعب، لكنهم في كثير من الأحيان يعترفون بوجودهم في فضاء سياسي مجزء بشكل شرعي.

على سبيل المثال، فاز حزب “فيدسز” الهنغاري بزعامة فكتور أوربان أو حزب العدالة والتنمية في تركيا بزعامة اردوغان وPAIS في الإكوادور اعتماداً على قوتهما من خلال المنافسة الحزبية العادلة، وعلى الرغم من ذلك فقد استثمروا جميعاً طاقة كبيرة لجعل هذه المنافسة أقل نزاهة، ليغدوا كل منهم مرتاحاً لممارسات وطقوس المنافسة الانتخابية.

إن حقيقة وجود أمثلة من الشعوبيين الذين يعملون على إصلاح الدول بطريقة نظامية تلقي بظلال الشك على تلك المقاربات في الأدبيات التي تؤكد على الطابع المناهض للمؤسسية وغير المؤسسية للشعوبية. وعليه لم يعد من الممكن اعتبار الشعبوية مجرد عرض من أعراض خلل المؤسسات، بل يتعين على الشعبويين أن يكونوا موضع تقدير كبناة مؤسسات.

*باحث سياسي أردني

مصدر الصورة: الاقتصادية.