د. أنطوان شاربنتييه*
احتفلت فرنسا، في 11 نوفمبر/تشرين الأول 2018، بالذكرى المئوية لإنتصارها على ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. ودعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الشعبين الفرنسي والألماني، وقادة العالم الذين حضروا هذه المناسبة، إلى أن يتذكروا المآسي التي خلفتها الحرب العالمية الأولى لتجنب تكررها لاحقاً. لكن إذا نظرنا ملياً، نرى أن الحروب ما تزال قائمة والقوى نفسها التي حاربت خلال الحرب العالمية الأولى، وتحديداً الغربية منها، ما زالت تقوم بالحروب على أراضٍ أخرى، كما هو الحال منذ عقود في منطقة الشرق الأوسط، تحت ذريعة “المبادئ الإنسانية والأخلاقية” التي يبشرون بها ولا يطبقونها.
تعتبر الحرب العالمية الأولى من أعنف الحروب التي عرفها العالم، فقد قامت لأسباب ما زال الكثير منها متواجد حتى أيامنا هذه، كالإصطفافين القومي والعنصري، ورغبة الأوروبيين بتقاسم الغنائم بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، والنزاعات الناجمة عن المصالح الإقتصادية، وانهيار ميزان القوى في أوروبا. لكن أحد أهم الأسباب يكمن في “الغرور والكبرياء وحالة الأنا” لبعض القادة والملوك الأوروبيين. من هنا، يجب التنويه إلى أن الحرب العالمية الأولى ما تزال قائمة، بوجوه وطرق عديدة، بإسم الوطنية أو نشر الديموقراطية، غير أننا نرى وبوضوح أن الشعوب وحدها هي من تدفع الأثمان الباهظة في نهاية المطاف.
ودعا الرئيس الفرنسي أيضاً قادة البلدان المجتمعين في باريس، ومنهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو، للإحتفال بتأسيس “منتدى السلام”. وهذا شيء غير منطقي ومتناقض ويعطي فكرة عامة عما ستكون عليه نتيجة هذا المنتدى إن كان هناك من نتيجة. فكيف يدعو الرئيس الفرنسي رؤساء تلطخت أياديهم بدماء الأبرياء، دون أن يكفروا عن ذنوبهم على الأقل، إلى منتدى للسلام؟ ناهيك على أنه وفي الوقت الذي يفتتح فيه الرئيس ماكرون “منتدى السلام” تشارك القوات الفرنسية بعدة حروب حول العالم، كما تعقد الدولة الفرنسية صفقات سلاح مع عدة دول، خصوصاً في الشرق الأوسط. أما عن المبادرة بحد ذاتها فهي جيدة لكن لسوء الحظ لن يكون لها نتيجة فعالة مثلها كمثل الأمم المتحدة التي فشلت بإحلال العدل والسلام العالميين، كإخفاقها في حل الملف اليمني، حيث ما تزال الكارثة الإنسانية فيه والتي تهدد يوميا مئات الأطفال، الذي يعد أكبر برهان على الفشل.
في خطابه الباريسي أيضاً، فرّق الرئيس ماكرون بين الوطنية (حب الوطن) والنزاعات القومية، غير أنه على ماكرون نفسه، إضافة إلى القادة الأوروبيين، أن يعوا بأن أكثرية الأوروبيين يخلطون ما بين الوطنية وبين القومية العنصرية وبروز التطرف هو نتاج سياسات عوجاء مورست في البلدان الأوروبية كل على حدا أو ضمن الإتحاد الأوروبي كله. إن نهضة اليمين المتطرف في أوروبا، في هذا الوقت بالتحديد، جاء كردة فعل على تلك السياسات التي بدأت تهدد المسارين السياسي والأمني لأوروبا، وربما يبدأ بعض “أعداؤها” بإستغلال هذه الورقة وجعلها مصدر “إزعاج” لها.
إن التناقض السياسي في خطاب الرئيس ماكرون يكمن في دعوته إلى تأسيس منتدى السلام وبالتزامن مع الدعوة إلى إنشاء “جيش أوروبي”. فهل إنشاء الجيوش هو شرط لإحلال السلام؟ يكفي التمعن بالتاريخ المعاصر للشرق الأوسط لإيجاد رد على هذا السؤال. إنصافاً للحق، يجب وضع تصريحات الرئيس الفرنسي، حول إنشاء الجيش الأوروبي، في سياق تأزم العلاقات بينه وبين نظيره الأمريكي على الرغم من أن الإثنان ينتميان، إذا أمكنني القول، إلى المحور السياسي والإقتصادي نفسه.
يبدو من الواضح أن الرئيس ماكرون، الذي يرغب في اللعب بملعب الكبار ولو أن هذا شيء طبيعي بالنسبة لرئيس دولة كبيرة، يحاول الإستفادة من خسارة وضعف الرئيس ترامب السياسي بعد الإنتخابات النصفية التي تفقدته قسماً من هيمنته، كما يحاول أيضاً الإستفادة من ضعف المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، وخسارتها للإنتخابات مؤخراً وإعلانها قرب اعتزالها للحياة السياسية، وبالتالي لقيادة الإتحاد الأوروبي.
من هذا المنطلق، يمكن أن نفهم لماذا طالب الرئيس ماكرون بإنشاء جيش دفاع أوروبي، على غرار قوات حلف “الناتو”. هذا الأمر، أزعج الرئيس ترامب كثيراً كون ماكرون يريد حماية أوروبية ذاتية لا حماية من الشرق، أي روسيا والصين، ولا الغرب، أي الولايات المتحدة الحليف الأكبر لباريس. غير أن هناك احتمالاً يبقى قائماً اساسه توجيه الرئيس الفرنسي كلامه للداخل، فرنسا وأوروبا، كأنه يريد القول “معي يمكن أن تصبح أوروبا قوة عظمى تضاهي القوى الكبرى”، الثلاثة التي ذكرتها آنفاً.
إلا أنه بالنظر لواقعية الأمور، نرى أن حالة أوروبا في الوقت الحاضر لا تسمح لها أن تدافع عن نفسها، لا في وجه روسيا ولا في وجه غيرها من القوى العالمية الأخرى، دون مساعدة الولايات المتحدة (خصوصاً عندما نحلل التداخل الأميركي في أوروبا على العديد من الصعد، العسكرية والسياسية والإقتصادية، بشيء من التفصيل)، ناهيك عن أن عدداً من دول أوروبا، بالإضافة إلى فرنسا نفسها، هي عضو في الحلف الأطلسي الخاضع كلياً لإرادة ومصالح واشنطن في وقت تعجز فيه تلك الدول عن دفع مستحقاتها إلى الحلف بسبب ضعف اقتصاداتها، إذ يستغل الرئيس ترامب هذا الموضوع، وهم على علم تام بذلك، كـ “ورقة ضغط”.
من هنا، يمكن أن نرى بوضوح التخوف الأوروبي المستقبلي، فالحرب التي قامت عام 1914، بين ألمانيا وفرنسا، لا تزال أسبابها قائمة، إذ عليهم العمل على منع وقوعها كونها تشكل إحدى أكبر علل أوروبا الحالية. بالمبدأ، تصالحت الشعوب الأوروبية بعضها مع بعض (التي كانت رافضة تماماً للحرب العالمية الأولى)، ولكن يبقى السؤال الحقيقي: هل تصالحت الحكومات؟
*كاتب ومحلل فرنسي – لبناني
مصدر الصورة: مونتي كارلو.