إعداد: يارا انبيعة
من يراقب الأحداث الدولية اليوم، يستطيع أن يقرأ بين السطور التنافس الأمريكي – الروسي بشكل واضح، على الرغم من الأحاديث المعلنة بشأن “الشراكة” على الملفات الدولية، حيث عاد القلق المتبادل سمة لا يمكن إغفالها.
ومع بدء صعود “النجم” الروسي إلى العالمية مجدداً، في العديد من الأمور، يبدو بأن الكرملين قد أخذ قراره بـ “مواجهة المارد” الأمريكي، وبالتالي أصبحت ساحات العالم مفتوحة أمام تسجيل النقاط في المرمى المقابل متى سنحت الفرصة لتحقيق ذلك.
الشباك الروسية
في مطلع العام 2018، صدرت تصريحات، لم تلق آذاناً صاغية بما فيه الكفاية، عن الأدميرال كورت تيد، قائد القيادة الجنوبية للقوات المسلحة الأمريكية، يشير فيها أن روسيا تسعى إلى تقويض نفوذ بلاده في أمريكا اللاتينية حيث قال “دور روسيا المتنامي في المنطقة يثير فينا القلق بشكل خاص، نظراً لقدراتها الإستطلاعية والسبرانية”، وذلك ضمن جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي (علماً أن الأدميرال تيد هو المسؤول في البنتاغون عن شؤون 45 بلداً وإقليما في أمريكا الوسطى والجنوبية فضلاً عن منطقة البحر الكاريبي)، مضيفاً أن موسكو تحاول التأثير على البيئة المعلوماتية في امريكا اللاتينية، وتستخدم لهذا الغرض خدمتين للأخبار باللغة الإسبانية، في إشارة إلى شبكة “روسيا اليوم” ووكالة “سبوتنيك” الإخباريتين.
كما اعتبر تيد أن وصول موسكو إلى الموانئ، في كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا، يعزز تواجدها المستمر و”الضار بما في ذلك جمع روسيا للمعلومات الإستخبارية في نصف الكرة الأرضية” الآخر؛ وبحسب كلام تيد، فإن وجود علاقة قوية مع هذه الدول الثلاث يسمح لروسيا بأن تملك منصة إقليمية تستهدف من خلالها مصالح الولايات المتحدة وشركائها، داعياً إلى إبلاغهم بهذا التوجه المزعوم.
يعلم الكثير من المتابعين بأن الروس، ومن قبلهم السوفيات، لم يتوانوا يوماً عن “مد ذراعهم” إلى أقرب خاصرة رخوة من الولايات المتحدة الأمريكية، المنافس الأول لهم في العالم، حالهم في ذلك حال التدخلات الأمريكية المباشرة في دول شرق أوروبا القريبة من روسيا الإتحادية وأزمة أوكرانيا الأخيرة.
إن هذا الموضوع ليس وليد الأعوام تلك، بل يعود تاريخه إلى زمن نيكيتا خروتشوف، زعيم الإتحاد السوفياتي من العام 1953 حتى العام 1964. ولعل أبرز ما يذكره الناس “أزمة الصواريخ الكوبية” أو كما تسمى في روسيا “ازمة الكاريبي” العام 1962، حيث احتدمت المواجهة وتفاقمت الأزمة حتى كادت تؤدي إلى حرب نووية عالمية كانت ستفتك بكلأ من الطرفين مما جعل خطورتها تعادل أزمة حصار برلين.
كوبا مجدداً!
يثير احتمال نشر روسيا قواعد عسكرية في كوبا، قلقا دفيناً مزمنا لدى الغرب، الذي ما زالت تؤرقه أزمة الصواريخ التي أشرنا إليها أعلاه، حيث تخشى الدول الغربية أن يكون نشر قواعد عسكرية روسية في كوبا، بمثابة رد من موسكو على تهديدات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بإنسحاب بلاده من معاهدة حظر الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، مشيرة إلى أن التوسع المحتمل للنفوذ العسكري الروسي في تلك المنطقة يثير القلق.
على صعيد آخر فإن الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الكوبي، ميغيل دياز كانيل، لموسكو مؤخراً، وعقده أول اجتماع مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين وعدد من السياسيين الروس رفيعي المستوى، أثارت مخاوف الغرب وقلقه في آن. كما أن الإعلان عن أن الرئيس بوتين قد ناقش التعاون العسكري بين البلدين مع الضيف الكوبي، دفع العديد ممن الباحثين إلى الإعتقاد بأن موسكو قد تعيد فتح مركز التجسس الإلكتروني في لورديس – كوبا، الذي أغلق قبل 16 عاماً، علاوة على بناء قواعد اضافية لمراقبة أنشطة الولايات المتحدة في منطقة الكاريبي.
ماذا عن فنزويلا؟
ذكرت صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية، استناداً إلى مصادر مطلعة، أن موسكو تعتزم زرع وجود عسكري طويل الأمد لها في القارة اللاتينية عبر إنشاء قاعدة جوية في فنزويلا، حيث أوضحت أن القيادة الروسية اتخذت قراراً بنشر وحدات من القوات الجوية الإستراتيجية في إحدى جزر بحر الكاريبي التابعة لفنزويلا، والتي تحتضن قاعدة جوية بحرية ومطاراً عسكريا، وذلك بعد زيارة الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، إلى موسكو، في 5 ديسمبر/كانون الأول 2018.
كما بينت الصحيفة أن الحديث يدور حول جزيرة “أورتشيلا” الصغيرة، الواقعة على بعد 200 كلم شمال شرق العاصمة الفنزويلية كاراكاس، التي زارها منذ 10 سنوات خبراء عسكريون روس وقيادة القوات الروسية المسلحة.
ففي سبتمبر/أيلول 2008، هبطت طائرات استراتيجية روسية حاملة للصواريخ من طراز “تو – 160” ولأول مرة في مطار مايكيتيا قرب كاراكاس، لكن الرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو تشافيز، أشار إلى أن نشر مثل هذه القاذفات في مطار مدني ليس بالخيار الأفضل، فيما تحدث للعسكريين الروس عن فكرته لمرابطة “تو – 160” في الجزيرة، وهو ما اقترحه رسمياً خلال زيارته إلى روسيا في العام ذاته عند لقائه مع الرئيس الروسي، دميتري مدفيديف حينها.
وفي العام 2009، قال قائد قوات الطيران الإستراتيجي الروسية، اللواء اناطوليجيخاريف خلال زيارته إلى القاعدة في الجزيرة المذكورة، إن استخدام المطار في اورتشيلا للمرابطة المؤقتة للطائرات الإستراتيجية الروسية “أمر مناسب”، لكنه أشار إلى أن تنفيذ هذه المبادرة يتطلب قراراً سياسياً وهو ما امتنع عنه الرئيس مدفيديف آنذاك.
أما الآن، فالظروف باتت مختلفة عما كانت عليه في تلك الفترة خصوصاً مع إعلان الولايات المتحدة، رسمياً، نيتها النسحاب من معاهدة نزع الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى الموقعة مع روسيا، إضافة إلى عدم رغبتها في تمديد سريان اتفاق الحد من القوات الإستراتيجية الهجومية.
وبالتزامن مع ذلك، أرسلت روسيا، ديسمبر/كانون الأول 2018، وحدة من قواتها الجوية بقيادة طائرتين من نوع “تو – 160” للمشاركة في تمرين مشترك مع فنزويلا وترتيب المراقبة الجوية فوق البحر الكاريبي، إضافة إلى قيام العسكريين الروس بعمليات استطلاع فيها بهدف إعداد الجزيرة لإستضافة القاعدة الروسية، الأمر الذي يؤكده أن هذا الوفد ترأسه القائد الحالي للطيران الإستراتيجي الروسي، اللواء سيرغي كوبيلاش.
وأثارت هذه التطورات قلقاً بالغاً وغضباً لدى الولايات المتحدة، التي وضعت دائماً منطقة بحر الكاريبي في دائرة مصالحها الإستراتيجية، ومن غير المفاجئ في هذا السياق أنها وجهت انتقادات شديدة اللهجة إلى موسكو وكاركاس إثر وصول طائرتي “تو – 160” إلى فنزويلا.
“هستيريا” أمريكية
يصف وزير خارجية الأمريكي، مايك بومبيو، وصول أربع طائرات روسية إلى فنزويلا للمشاركة في المناورات على أنه “هدر للأموال”، إضافة إلى كونه نوعاً من “الإبتزاز الإعلامي” لفنزويلا التي تعاني من مشاكل اقتصادية جراء الحصار الأمريكي، ليرد الكرملين نفسه على بومبيو بأن نصف موازنة الدفاع الأمريكية قادرة على إطعام القارة الإفريقية، مذكراً بومبيو بأن فنزويلا سابقاً وحالياً لم تنل شيئاً من المال الأمريكي وبأن الأمريكي هو من ينفق بلا حساب و يبدد أموال الشعب الأمريكي بلا طائل، ولم يقدم شيء لحلفائه سوى فواتير الدفع.
هذه الهستيريا الأمريكية عبرت عنها الكثير من وسائل الإعلام الغربي، حيث وصفت شبكة “سكاي نيوز” الإخبارية زيارة القاذفتين الروسيتيين إلى فنزويلا بأنها مناورات روسية مع “دولة مارقة”.
وبحسب التوقعات فإن وصول “البجعة البيضاء” إلى كاراكس ليس سوى رسالة صغيرة لما يمكن أن تواجهه الإدارة الأمريكية في حال الخروج من اتفاقية الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، علماً أن الرد الروسي المتوقع، بحسب مراقبين، قد يكون عبر الغواصات وصواريخ “بولافا” فائقة التطور، فضلاً عن الكثير من الخيارات التي قد تصل إلى إنتاج صواريخ متوسطة المدى مثل “إس.إس 20” بمواصفات جديدة توافق التطور القائم حالياً، ولكن يبقى الثابت الوحيد بأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قرر المواجهة والتصعيد لإرغام الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وإدارته للنزول من فوق الشجرة.
لكن ما يلفت الإنتباه أنه خلال استقبال وزير الدفاع الفنزويلي للعسكريين الروس تلقى منهم هدية صغيرة عبارة عن دمية للبجعة البيضاء، وهو ما يعيد للأذهان حديث روسيا مع صربيا سابقاً حين قالوا لها “انصبوا صواريخ إس 300 من خشب ولن يتجرأ أحد على الإقتراب من حدودكم”. فقد تكون هذه الدمية مثال لتلك الصواريخ الخشبية وربما لا، ولكن من المؤكد أن لهذه الدمية تداعيات مهمة على المدى البعيد.
ختاماً، يبدو أن الرئيس الفنزويلي متجة إلى “زج” روسيا في القارة اللاتينية خصوصاً في مواجهته غير المتكافئة مع واشنطن، التي تشن عليه “حرب النفط”، وترهق البلاد، من جراء عقوباتها الإقتصادية، بأزمة معيشية خانقة تريد من خلالها الضغط على الشعب من أجل الثورة وقلب الحكم، إضافة إلى محاصرته بأنظمة مواليه لها، كما حدث في البرازيل مؤخراً.
فهل سيقوم الجانب الروسي بتحقيق هذا التواجد العسكري هناك؟ وهل سيحقق هذا الوجود (إذا ما حصل فعلياً) نوعاً من أنواع التوازن؟ وهل سيستطيع الروسي وهو في بداية ظهوره مجدداً على الساحة الدولية من تفعيل هذا التواجد في ظروف دولية صعبة تفرض عليه سواء من الناحيتين الأقتصادية، كالعقوبات الأمريكية والأوروبية، أو السياسية، كالأزمة مع كل من أوكرانيا وبريطانيا؟
مصدر الأخبار: وكالات.
مصدر الصور: النهار اللبنانية – روسيا اليوم.