إبراهيم ناصر*
يُلاحظ في السنوات الأخيرة الماضية بأن هناك إهتمام روسي كبير بالقارة الإفريقية، إذ يعود هذا الإهتمام إلى بواعث عدة منها: سعي موسكو إلى حجز موقعها في النظام العالمي الجديد البادىء في التشكل، وسعيها إلى كسر العزلة الدبلوماسية والإقتصادية المفروضة عليها من قبل الغرب، بجانب درايتها للمكانة التي تحتلها القارة السمراء في السياسة الدولية، جعلتها تبذل قصارى جهودها من أجل توسع نفوذها فيها، عطفاً إلى دوافع أخرى.
ومنذ العام 2015، تسعى موسكو إلى تعزيز تواجدها في الجزيرة العالمية بشكل عام، وفي القارة السمراء بالأخص، إذ يلاحظ بأن التواجد الروسي بقدر ما يرتكز على مرتكزات عسكرية في افريقيا، إلا أن هناك أدوات إقتصادية، في شكل شركات طاقة وتعدين، تنشط في دول القارة المختلفة، وذلك أجل إستغلال الثروات الطبيعية التي تزخر بها الدول الأفريقية، حيث تقوم شركة “لوك أويل” بإنتاج النفط في دول غرب إفريقيا، وخاصة في نيجيريا والكاميرون ودول خليج غينيا. ويقدر الحجم الإجمالي لاستثماراتها بأكثر من مليار دولار.
وبجانب التوسع الإقتصادي الروسي، يلاحظ بأن هناك مساعي دبلوماسية تبذلها موسكو لإيجاد حلول لأزمات دول القارة؛ على سبيل المثال، تقوم موسكو بالتوسط بين فرقاء الأزمة الجارية في جمهورية أفريقيا الوسطى، بالشراكة مع الخرطوم، إستطاعة جهود الوساطة التي تبذلها، أن تجمع فرقاء أفريقيا الوسطى في العاصمة السودانية الخرطوم، وتوقعهم لإتفاق سلام يضع حداً للحرب الأهلية الدائرة هناك.
هذه التحركات السياسية والإقتصادية والدبلوماسية الروسية في القارة الإفريقية، وخصوصاً في دول الفرانكفونية الإفريقية، أثارت انزعاج فرنسا التي لا ترغب هي الأخرى في التخلي عن مستعمراتها السابقة، حيث أن أكثر ما يثير حفيظة باريس تواجد عدد من العسكريين الروس في بانغي، عاصمة أفريقيا الوسطى، والتي بدأت فعليا بالتساؤل، بحسب لوفيغارو، عن طموحات موسكو في المستعمرة الفرنسية القديمة، وفي أفريقيا كلها.
وحسب ما تواترته وسائل الإعلام، نشرت موسكو رسمياً 175 مدرباً في أفريقيا الوسطى، بينهم 5 عسكريين و170 مدنياً لتدريب القوات المسلحة في هذه الدولة الأفريقية، وهم في الغالب مرتزقة يعملون لمصلحة شركات خاصة، ووفقاً لصحيفة لوفيغارو مطلع العام 2017.
وفي سياق التعاون العسكري بين موسكو وبانغي، إلتقى مؤخراً رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، بوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في سوتشي وهناك اقترح لافروف على ضيفه قبول هدية روسية تتضمن 5200 كلاشينكوف و840 رشاشاً و270 قاذفة صواريخ، وهذه الخطوة يمكن قراءتها في سياق سعي الروس إلى الدخول في سوق السلاح الإفريقي من خلال تقديم الهبات العسكرية للدول القارة.
وحسب ما رشح في الإعلام ايضاً، أن لروسيا محاولات للتواجد عسكريا في جيبوتي، بجوار القواعد فرنسية وأميركية وصينية، لكن باءت بالفشل بسبب الفيتو الأميركي، لذلك تسعى إلى تعزيز تواجدها في شرق القارة، حيث نسجت علاقات قوية مع السودان، وفي العام المنصرم وقعت اتفاقيات دفاعية مع دول إفريقية عديدة كتنزانيا وبورندي وبوتسوانا، كما وقعت روسيا، في العام 2015، 19 اتفاقية دفاعية مع دول القارة
ومنذ العام 2016، أصبحت أفريقيا من أولويات الدبلوماسية الروسية، حيث زارها نائب وزير الخارجية المكلف بالقارة، ميخائيل بوغدانوف، أكثر من 50 مرة.
النفوذ الروسي والقوى الأوروبية الأخرى
تجدر الإشارة إلى أن التمدد الروسي، بكل أشكاله ليس على حساب فرنسا فحسب، بل على جميع القوى الغربية التقليدية، إذ نرى تغلغلاً روسياً في دول تقليدياً تقع تحت النفوذ البريطاني، كالسودان، أو الإيطالي كليبيا، ولذلك سربت مجلة “التايمز” البريطانية خبر مشاركة مرتزقة روس في قمع المظاهرات السودانية، بالرغم من أن التواجد العسكري الروسي ليس بهذا القدر، ناهيك على أنه لم يحصل أي إنهيارات في المؤسسة الأمنية السودانية، وبالتالي يمكن إستقراء هذا الخبر في إطار التعبير عن إنزعاج إنجليزي من حكومة الخرطوم الساعية للإحتماء بالروس.
الموقف الأمريكي من التمدد الروسي في القارة
في مشاركته لندوة سياسية بالعاصمة الهندية نيودلهي، قال مدير الإستخبارات المركزية “سي.آي.إيه الأسبق، ديفيد باتريوس، بأن التمدد الروسي في الشرق الأوسط وإفريقيا، يتيح لقادة البنتاغون فرص وضع جيو – سياسي عالمي جديد.
وعليه، يمكننا القول إنه ما دام يخدم توسع النفوذ الروسي في القارة الإفريقية الإستراتيجية الدولية الأمريكية الجديدة، فسيتغاضى قادة البنتاغون الطرف عن التمدد الروسي هناك ولو كان على حساب حلفاء أمريكا الأوروبيين، كفرنسا، وبذلك يحلو لأمريكا أن تتواجد في القارة الإفريقية بذريعة حماية مصالحها وأمنها القومي.
تداعيات التمدد الروسي على واقع الدول الإفريقية
يوحي التنافس الدولي على القارة السمراء، بتأثيرات مباشرة وغير مباشرة على واقع الدول الإفريقية، وعليه يمكننا قراءة هذه التأثيرات على دول القارة على نحو الصعد الأتية:
- على الصعيد الأمني: بدأت القوى الدولية بتكثيف وجودها العسكري في القارة الإفريقية، وهذا التواجد الكثيف، سيجعل من القارة ساحة لتصفية الحسابات بين الدول المتصارعة عالمياً، ما سيؤثر بصورة مباشرة على إستقرار دول القارة. بجانب ذلك، قد يتسبب هذا التدافع الدولي إلى إنقسام دول القارة الى محاور، وإنقسامها الى محاور قد يزيد من حالة سباق التسلح الجارية بين دول القارة، وبذلك يؤدي الى إهدار موارد دول القارة المالية الشحيحة في التسلح.
- على الصعيد الإقتصادي: بجانب إهدار الإمكانيات المالية في غير موضعها، والذي من المؤكد سيؤثر على التنمية في دول القارة، أيضا ستقوم بعض الدول الغربية بقطع دعمها الإقتصادي إلى الدول الإفريقية، ما سيؤدي إلى تضرر الأوضاع الإقتصادية في دول القارة. بجانب ذلك، شرَّعت الولايات المتحدة مؤخراً قانون “مكافحة أعداء أمريكا”، والمعروف اختصاراً بإسم “كاتسا”، الذي يقضي بفرض عقوبات على الدول التي تقوم باستيراد أسلحة من موسكو. هذا القانون سيكون مسلطاً على رقاب الدول الساعية لنسج علاقات مع موسكو، وخصوصاً الدول الساعية لتطوير العلاقات العسكرية. وبالتالي، العقوبات الأمريكية، التي من المتوقع أن تفرضها واشنطن على الدول المتقربة من موسكو، سيكون لها تأثير مباشر على واقع الأوضاع الإقتصادية فيها، على سبيل المثال الجزائر التي يعتمد جيشها على السلاح الروسي.
- على الصعيد السياسي: بالتأكيد التنافس الروسي – الغربي سينتج حالة من الإصطفافات السياسية في القارة السمراء، وبالتالي ستقوم بعض الدول بدعم مشاريع سياسية لصالح روسيا أو الغرب في المحافل الدولية، وحالة الإستقطاب المتوقعة قد تقلل من فرص المناورة السياسية لدول القارة، وقد يعرض دول القارة الى عزلة سياسية.
بالمجمل وكما لا حظنا أعلاه، إن التمدد الروسي الجديد في القارة الإفريقية، على حساب القوى الأوروبية التقليدية، سيكون له تأثيراته المباشرة على واقع تلك الدول، بجانب إعطائه للقوى الدولية والإقليمية مبررات التواجد في الساحة الإفريقية، ما سيؤثر عليها في العديد من النواحي.
*باحث في مركز أنقرة لدراسة الأزمات والسياسات – “أنكاسام”
مصدر الصور: يوتيوب – أخبار ليبيا.