ياقوت دندشي*

يتندّر القاصي والداني حول ما ستؤول إليه الأمور حيال التوتر الحاصل نتيجة التحولات المستجدة في الملف النووي الإيراني.. الولايات المتحدة وبقيادة الرئيس دونالد ترامب انسحبت من الإتفاق النووي الإيراني بشكل أحاديّ، فاتحةً الباب على مصراعيه أمام التنبؤات بخصوص هذا الشأن.

في المقابل، أعلنت إيران أنها ستعتبر نفسها تباعاً في حِلٍّ من بنود الإتفاق، في حال لم تفعل الدول الموقعة عليه شيئاً لإنقاذه.

تصعيدٌ يخشى المجتمع الدولي أن يقود إلى حربٍ غير مضمونة النتائج، خاصةً أنه لم يقف عند هذا الحد، بل تعدّاه إلى مرحلة الإستفزاز عبر رسائل متبادلة هدفها التأكيد على جهوزية الجميع لأية مواجهة محتملة.

فبعد أيام على احتجاز المملكة المتحدة ناقلة نفط إيرانية بتهمة أنها كانت تحمل نفطاً إلى سوريا، دخلت إيران مرحلة اللعب على وتر مضيق هرمز واحتجزت ناقلة نفط بريطانية، وأرجعت السبب في ذلك إلى عدم امتثال طاقم السفينة لنداءات التحذير، وتجاوزهم اللوائح الدولية المسموح بها.

الرد الأمريكي جاء سريعاً بإطلاق عملية “الحارس”، وقوامُها 500 جندي من جنسيات مختلفة من الحلفاء في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، في مهمة يقضي ظاهرها بحماية الملاحة البحرية عند مضيق هرمز وباب المندب وخليج عمان، أما باطنها فيهدف إلى طمأنة الحلفاء في الخليج بأن الأمريكيين جاهزون لدعمهم فيما لو تطوّرت الأحداث بإتجاه التصعيد.

وعلى الرغم من هذا المنحى العدائي، عكست الرسائل السياسية عدم الرغبة في زيادة التوتر، والميل نحو الحوار للخروج من الأزمة بأسرع وقتٍ ممكن. فالرئيس ترامب، الذي يقف على أبواب انتخابات رئاسية في العام 2020، يسعى إلى العمل على تحقيق إنجازات برّاقة في الملفات الدولية الساخنة أملاً في رفع أسهمه وتعبيد طريقه لولاية ثانية، ولذلك آخرُ ما قد يرغب به هو خوض مواجهة عسكرية غير محسومة النتائج، ولا يمكن ضبط أو التكهّن بمدّتها.

حتى وزير الخارجية البريطاني، جيريمي هنت، أكد عدم الرغبة في التصعيد ضد إيران وضرورة إيجاد مخرجٍ مناسب من الأزمة، لكن الأخيرة على ما يبدو لم تختر احتجاز ناقلة نفط بريطانية عشوائياً، إنما لا شك أن القادة الإيرانيين استغلوا فترة الضعف البريطانية والتخبط الداخلي في ظل شغور منصب رئاسة، الوزراء عقب استقالة تيريزا ماي، لتذكير واشنطن بأن طهران خصمٌ قوي ولن تجلس على طاولة الحوار إلا بعد الإستجابة إلى طلباتها برفع العقوبات الإقتصادية عنها. هذا البند بالتحديد ترفضه أمريكا معتبرةً أنه التكتيك الأكثر جدوى على المدى البعيد في إخضاع الدول التي تخرج عن سيطرتها وتهدد السلم الدولي.

هذا حسب الأخبار الواردة من هنا وهناك من أبطال هذا الملف الشائك..

أما في العمق، فلا بد من رؤيةٍ أوسع وأشمل للإطار الجيوبوليتيكي للمنطقة، للوقوف على أطماع ومصالح أبرز الأطراف المعنية.

قبل كل شيء، بات من المسلّمات أن سياسات البيت الأبيض في الشرق الأوسط تنطلق من تأمين مصلحة وأمن إسرائيل. لذا، فهي تصرّ على ضرورة إخضاع إيران ومنعها من امتلاك أسلحة دمار شامل، علماً أن الصواريخ البالستية الإيرانية كفيلة وحدها بقضّ مضجع تل أبيب وحلفائها، هذا من جهة. من جهةٍ ثانية، تستفيد الولايات المتحدة من النفخ في رماد الخلافات الإيرانية – الخليجية، خدمة لتحويل دول الخليج من مناهضة إسرائيل إلى معاداة إيران أولاً، ولتوظيف ذلك في تمويل صفقات التسلح الخليجية بمئات المليارات ثانياً، دون إغفال أن ذلك يقابله تسليح للقوات الإسرائلية بأحدث التكنولوجيا العسكرية، في سبيل إبقاء العرب حتى الحلفاء منهم في مركز متخلفٍ عن مدلّلتها إسرائيل.

وفي الغالب، أية حرب قد تنشب بين أطراف هذا النزاع ستكون نتيجتها “خاسر – خاسر”، إلا إن تمّ تحوير النتائج وتزيين الأهداف خدمةً للدعاية الإيجابية. فعلى سبيل المثال، يمكن القول إن أمريكا خسرت معظم الحروب التي خاضتها، حتى الآن، في أفغانستان والعراق وفيتنام وغيرها، ولكن لو أنها حدّدت الهدف من الحرب على العراق، مثلاً بالإطاحة بالنظام، فستكون عندئذ قد ربحت الرهان.

وعلى هذا المقياس، إذا قادت أمريكا حرباً ضد إيران لمنعها من إنتاج سلاحها النووي، فهي في الشق التقني والعلمي والتكنولوجي والعسكري قادرةٌ بلا أدنى شك على الفوز بها، بل هي قادرة على الفوز حتى على القوة الروسية التي يرى فيها الكثيرون “النِد” الذي يبحثون عنه لـ “الإستكبار” الأمريكي. لكنّ حرباً كهذه ستكون مصيريةً ليس فقط على إيران وحلفائها، بل حتى على خصومها، ذلك أن ضربَ إيران سيعرّض منشآت وموانئ البترول الخليجية للإستهداف الانتقامي، ناهيك عن إمكانية ضرب المطارات وإصابة اقتصاد البلدان الحليفة لواشنطن في الشرق الأوسط في مقتل نتيجة الخسارة في مجال السياحة والمصارف أيضاً، في وقتٍ تسعى فيه واشنطن إلى تمرير خطة “السلام الاقتصادي” التي تتجلى بها “صفقة القرن” مروراً بإضعاف “محور الممانعة” على مدى السنوات الماضية، ووصولاً لإنهاء القضية الفلسطينية، وهو سبب آخر يضاف إلى أسباب إعادة انتخاب الرئيس ترامب المحتملة.

إن “السلام الإقتصادي”، الذي تدعو إليه واشنطن، يقودنا أيضاً إلى الإزدهار الإقتصادي الذي تعمل الصين على تحقيقه ضمن خطة “طريق الحرير” الجديدة للتجارة الدولية والتي تحتاج للسلام في الشرق الأوسط كقاعدة للإزدهار، حيث تمرّ بإيران وسوريا ولبنان والسعودية وتركيا، الأمر الذي يستدعي أيضاً ضرورة إعادة إعمار سوريا والإستفادة من موقعها الجغرافي، ما يعني بكلمات أخرى ضرورة تحقيق الأمن والإستقرار.

وعليه، فإن فزّاعة الحرب التي يلوح بها الرئيس ترامب، وداعموه ضد إيران، يستحسن أن تنشبَ طالما أنها خيار سيقترن بنتائج وتداعياتٍ خارجة عن السيطرة. ولذلك، فإن دول الخليج بدورها، وإن كانت أكثر مَن يُلهب فتيل هذه المعركة، إلى جانب الكيان الإسرائيلي، فإنها تدرك جيداً أن خيار الحرب يستحسن أن يبقى غير مطروح.

من جانب آخر، برز التوتر مع تركيا على خلفية شرائها منظومة الصواريخ الروسية “إس – 400″، ومُضيّها في استخراج النفط من المياه الإقليمية لقبرص الشمالية، رغم التحذيرات الأوروبية والأمريكية من فرض عقوبات اقتصادية عليها. وهذه المستجدات تفضي إلى الحاجة الملحة إلى اللجوء إلى الدبلوماسية كوننا بتنا أمام خطر جاثم بفتح حرب على عدة جبهات، ليس في مصلحة أحد الانسياق وراءها.

الجدير بالذكر أنه في الداخل الإيراني، تحظى سياسة قوة الردع النووي التي تسعى السلطات لبنائها، بمباركة شعبية، ذلك أنه بعد ما يقرب من 3 عقود من الصبر على الضائقة بسبب العقوبات الإقتصادية المفروضة على البلاد، لن يقبل بإذلاله بنزع برنامجه النووي دون ثمنٍ مناسب..

أما التناقض حيال لعبة التصعيد من جهة والتنفيس من جهة أخرى، فيصبُّ في خانة إبقاء إيران تحت “رحمة” المجتمع الدولي، الأمر الذي يدفعها إلى الإنشغال ببناء قوة الردع الخاصة بها بما فيها السلاح النووي، حتى لو أثقلت فاتورتُه الإقتصادية كاهل السلطة والشعب على حدٍ سواء. وهنا يبرز نجاح التكتيك الغربي في دفع سياسة طهران الخارجية إلى الإنكماش لصالح الشؤون الداخلية، وهو ما يظهر على الساحة السورية نسبياً، وأكثر منه مؤخراً على الساحة اليمنية.

والأمر المضحك أن التنازل في الملف النووي الإيراني، إن حصل، لن يكون في صالح المتحكمين الغربيين، كي لا تنتهي مسرحية عضِّ الأصابع، وتَجفّ آبار مردودها!

*إعلامية لبنانية

مصدر الصور: middle-east-online – radio nawa.