إبراهيم ناصر*
من البُشريات التي تحملها “ثورة ديسمبر” لأهل السودان أن بلدهم موعود بإلانفتاح على العالم الخارجي وإنتهاء العزلة الدولية والإقليمية المفروضة عليه من قبل القوى الكبرى. وزوال المسببات والعوائق بفضل هذه الثورة، تمنح السودان فرصة تاريخية تجعله جاهزاً لإحداث تغيير جذري في مجال علاقات الخارجية سيما الغربية والأوروبية على وجه التحديد.
ومع وضوح ملامح المرحلة الإنتقالية، بعد “ثورة ديسمبر”، بدأت تتوافد الوفود الرسمية من دول لها ثقل كبير في مجريات الأحداث الدولية إلى الخرطوم لأجل مباركة التغيير الذي حصل فضلاً عن دعم مساعي السودان في الإندماج إلى الأسرة الدولية من جديد بعد غياب طويل.
وتٌعد زيارة السيد هايكو ماس، وزير خارجية ألمانيا الأسبوع الماضي، أولى خطوات نحو ترميم علاقات السودان الخارجية ودمجه مع الأسرة الدولية، إذ وعد الوزير ماس بأنه سيرفد مساعي رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتلت تصريح للمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، قالت فيه “بأن ألمانيا ستكون إلى جانب السودان كشريك موثوق عندما يتعلق الأمر بالسلام والتنمية والأمن الداخلي.”
وبموازاة التحركات الألمانية، رشح في الإعلام المحلي والدولي مغازلات فرنسية لحكام الخرطوم الجديد من ضمنها توجيه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، دعوة لرئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، لزيارة باريس، حسب موقع العين الإخباري الإماراتي.
وفي ظل التسابق الأوروبي على سودان ما بعد حكم الرئيس السابق، عمر البشير، توجب علينا أن نقدم رؤية جديدة للعلاقات السودانية – الأوروبية بغية فهم إدارة ملفات السياسة الخارجية لـ “سودان الثورة” وديناميات الإتحاد الأوروبي حتى يبني علاقات متينة تتيح لهذا البلد هامش مناورة في ظل نظام دولي متقلب ومتصدع الأركان.
الإتحاد الأوروبي كفكرة
الإتحاد الأوروبي هو تشكيلة دولية للدول الأوروبية تضم 28 دولة وأخرهم كانت كرواتيا، التي انضمت في 1 يوليو/تموز 2013، وتأسس بناء على اتفاقية معروفة بإسم معاهدة ماستريخت، الموقعة في العام 1992. ولكن العديد من أفكاره كانت موجودة منذ خمسينات القرن الماضي، وتمحورت حول الأهداف والغايات التالية:
- توحيد وتقاسم المصالح لدول القارة الأوروبية
تتطور هيكلية الإتحاد الأوروبي بصورة مستمرة لا يوجد لها سابقة تاريخية من قبل. وتعتبر المعاهدات الموقعة بين الدول الأعضاء مصدر التشريع الرئيسي له، فضلاً عن أنه تم تشكيل آلية ومفوضية ترسم سياسات الإتحاد الخارجية والأمنية. ولكن نلاحظ مؤخراً بأن هناك تعارض بين دول الإتحاد الكبرى، على سبيل المثال الصراع الفرنسي – الإيطالي على الساحة الليبية والذي يعد خير مثال لذلك.
وبناءَ على ذلك، يمكن القول بأن الجسم الأوروبي يعاني من تصدعات بسبب التعارض في المصالح الخارجية. لذلك، لا بد من أن تقوم الجهة الراسمة للسياسة الخارجية السودانية على عدم إعتبار الإتحاد الأوروبي كياناً موحد الرؤى والمصالح حيال أي دولة خارجه. وبالتالي، لا بد من نسج علاقات مع كل دولة من الدول الأعضاء للإتحاد على حدة.
- حماية الدول الأوروبية من التغول الألماني
كما هو معلوم، سعت ألمانيا الهتلرية إلى ابتلاع شبة الجزيرة الأوروبية والإستيلاء على مواردها الطبيعية قبل الحرب العالمية الثانية. وخاضت حروب ضد كل شعوب القارة من أجل تذويبها في العرق الألماني الآري. بتعبير آخر، سعت ألمانيا النازية إلى “ألمنة” القارة بأكملها، وهذا ما دفع قوى دولية عديدة، آنذاك، إلى تشكيل تحالف من أجل تخليص الأوروبيين من هذا الخطر، وبفضل الدعم الأمريكي حينها تم القضاء على الحكم النازي.
ومن أجل إبعاد هذا الخطر وإلى الأبد، وضع إستراتيجيون ومفكرون وسياسيون، أمثال روبير شومان (Robert Schuma)، خططاً توحد الدول الأوروبية حول مصالح وكيانات تخضع الألمان تحت مظلتها. وبالفعل، تمكنت هذه الخطط في وضع حد للتهديد الألماني سياسياً وأمنياً. ولكن بعد أن جمعت ألمانيا قواها، إستطاعت بناء إقتصاد صناعي قوي يعد الآن الرافعة الرئيسية للإتحاد الأوروبي.
ومن خلال ماكينتها الصناعية، سيطرت برلين على “القارة العجوز”، وهذا الأمر تسبب في إنزعاج وتزمت بعض الدول الأعضاء داخل الإتحاد، إذ يرى العديد من المراقبين بأن خروج بريطانيا من الإتحاد، من خلال “البريكست”، سيقوي فرص الهيمنة الإقتصادية الألمانية على القارة.
وفي ظل تصاعد التيارات الشعبية اليمنية في كل دول القارة الأوروبية وفي ألمانيا وفرنسا على وجه التحديد، ربما يحملنا إلى إستشراف تصاعد الخلافات بين دول الإتحاد الأوروبي سياسياً وإقتصادياً. وبالتالي، يجدر لنا أن نلفت نظر حكومة السودان الإنتقالية إلى تكرر طرح نسج علاقات مع دول الإتحاد بشكل ثنائي.
- دعم الولايات المتحدة لفكرة التحالفات الإقليمية
بالتأكيد، إن ثمرة تكوين الإتحاد الأوروبي كانت بجهود أمريكية صرفة من خلال تقديمها برامج وخطط تنموية مرحلية وذلك لغرض مجابهة “الخطر الأحمر” آنذاك. ولكن بعد إنتفاء هذا التهديد، تراجع إهتمام أمريكا عن فكرة دعمها للتحالفات الإقليمية. وعليه، يمكننا القول بأن محاربة الإدارة الأمريكية الحالية فكرة التكتلات الدولية والإقليمية ليست وليدة مخيلات رئيسها، دونالد ترامب، إنما نابعة من داخل العقل المخطط لرؤى والسياسات الأمريكية الخارجية.
وبالتالي، إن تراجع دعم واشنطن للكتل الإقليمية سيؤدي بالمجمل إلى تصدعات غير مباشرة في دول الإتحاد، وربما يدفع بعض الدول إلى التفكير بالإنسحاب منه، وإنسحاب بريطانيا ما هي بداية التفكك الكبير للإتحاد الأوروبي.
هنا، يجدر بنا ذكر، على سبيل المثال لا الحصر، بعض الأسباب التي حملت الولايات المتحدة الى التخلي عن دعم فكرة الإتحادات والتكتلات الدولية والإقليمية، والتي منها:
- إعتبار واشنطن الكتل الدولية والإقليمية تهديداً لمصالحها خصوصاً بعد أن صارت منافساً لها في الساحات الدولية المختلفة لا سيما في القارة الإفريقية والشرق الاوسط.
- عدم جدوى التحالفات الدولية والإقليمية في مواجهة التهديدات الأمنية والإستعانة بفاعلين محليين وإقليميين في مواجهة خطر الإرهاب الدولي، فتنسيقها مع الكرد محلياً وروسيا إقليمياً في مواجهة تهديد تنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا والعراق يدعم هذه الفرضية.
- ضعف تماسك الإتحادات والتكتلات الإقليمية التي تدعمها منذ أن تأسست، على سبيل المثال التناقضات التي تشهدها الأسرة الأوروبية.
- إعترافها بتراجع تأثير نفوذها في مجريات السياسة الدولية.
- فشلها في التوفيق ما بين أولويات حلفائها ومصالحها الدولية.
وبالإستناد إلى كل ما ذُكر أعلاه، يمكن القول بأن عدم إهتمام الولايات المتحدة بتماسك أوروبا سينتج إنسحاب بعض دول الأعضاء؛ وبالتالي، سينهار الإتحاد الاوروبي وهذا ما يدفعنا إلى تكرار توصيتنا القائلة بأن على قادة الخرطوم الجدد أن لا يعتبروا الإتحاد كتلة موحدة مصالحها ذات رؤية مشتركة.
وأخيراً، في ظل نظام دولي تعددت فيه أدوار اللاعبين وإختلفت في رؤى المخططين، يجب على ساسة الخرطوم الجديدة معرفة ديناميات السياسة الدولية حتى يعجلوا من دمج السودان في الأسرة الدولية، التي عزل منها لمدة تزيد عن ثلاثة عقود. وفي إطار العلاقات مع الإتحاد الأوروبي، الذي يمر بمرحلة حساسة بسبب التصدعات الداخلية وتراجع القيم الليبرالية وتصاعد الشعبوية فيه، على السودان العمل لفتح آفاق جديدة مع أوروبا من دون إغفال مسألة إمكانية تفكك الإتحاد وضرورة الربط بين الخرطوم ودوله كل على حدة.
*كاتب وباحث سوداني
مصدر الصور: العرب – جريدة البيان.