إعداد: مركز سيتا

أثار بناء سد النهضة الإثيوبي، المنتظر بدء ملئه في صيف 2020 وتشغيله عام 2023 أزمة سياسية بين دول حوض النيل، خاصة بين القاهرة وأديس أبابا، لكن هذه الأزمة التي قامت على مقاربة اقتصادية تخفي الجوانب الأخطر، كالتأثيرات البيئية الكارثية جراء تعديل حركة مياه نهر النيل بالسدود والحد من انسيابه الطبيعي بشكل جذري، بما يهدد بنيته البيئية ومكوناته البيولوجية، باعتباره من المعالم الطبيعية الأبرز.

وتضع هذه المتغيرات معظم دول حوض النيل ومجتمعاتها في اختبار صعب لإيجاد الحلول والبدائل وخصوصاً مصر، حيث ستكون بحيرة ناصر والأراضي الزراعية على ضفاف النهر والدلتا، عرضة لمخاطر كبيرة مستقبلاً، بسبب عملية ملء خزان سد النهضة وبالتالي نقص تدفق المياه في النهر. ويأتي ذلك في وقت تحتاج فيه مصر حالياً إلى نحو 80 مليار متر مكعب من المياه سنوياً أي أن هناك نقصاً في الاحتياجات المائية بمقدار 20 مليار متر مكعب سنوياً.

حقوق كاملة

أقرت إتفاقية 1929، المبرمة ما بين مصر وبريطانيا نيابة عن عددٍ من دول حوض النيل، بحقوق القاهرة الكاملة في مياه النيل ومنحتها حق الإعتراض على مشاريع الري القائمة على النهر وروافده بدول المنبع والتي من شأنها أن تؤثر على حصتها من المياه.

وفي العام 1959، وقعت كل من مصر والسودان اتفاقاً آخر يكمل الإتفاقية السابقة، حيث أعطيت مصر بموجبه حصة تقدر بـ 55.5 مليار متر مكعب سنوياً مقابل 18.5 مليار متر مكعب للسودان، بينما لم تتم إستشارة إثيوبيا في ذلك. من هذا الباب، ترفض أديس أبابا الإعتراف، المباشر أو غير المباشر، بأية معاهدة سابقة لتحديد حصص مياه النيل، كما تصر على أن الـ 40 مليار متر مكعب من مياه “سد النهضة”، التي تطلبها مصر سنوياً، ستعرقل قدرتها على ملء السد وإنتاج الكهرباء وتنفيذ مشاريعها التنموية.

وفي العام 1999، شكلت الدول الثلاث ما عُرف بـ “مبادرة حوض النيل”، وتهدف هذه الاتفاقية إلى تطوير التعاون وتقاسم المنافع الإجتماعية والإقتصادية وتعزيز السلام والأمن. وفي 23 مارس/آذار 2015، وقعت كل من مصر وإثيوبيا والسودان في الخرطوم وثيقة إعلان المبادئ حول “سد النهضة”، لكنها لم تحل الإشكالات القائمة حول السد ومدة ملئه.

“سد كاروما”

قدمت شركة صينية مشروعاً إلى حكومة أوغندا لبناء سد عملاق على نهر النيل بقيمة تصل إلى 1.4 مليار دولار في خطوة من شأنها زيادة إنتاج البلاد من الطاقة بواقع 40%، وأن التوصل إلى اتفاق نهائي والبدء بالعمل قد يتم بحلول نيسان/أبريل 2020. الخطة تستهدف تطوير محطة “أيغو” الكهرومائية، الواقعة على نهر النيل، بين بحيرتي “كيوغا” و”ألبرت”، بحيث تصبح أكبر حجماً وتوليداً للطاقة من نظيرتها “كاروما”، التي تطورها الصين أيضاً، والتي تعد الأكبر في البلاد حالياً.

في هذا الوقت، إقتربت شركة تابعة لمجموعة “باور شاينا كونستركشن”، المملوكة لحكومة الصين، من إتمام عمليات تشييد “سد كاروما” على نهر النيل في أوغندا، ومن المقرر أن يكتمل بناؤه للطاقة الكهرومائية أوائل العام 2020 بواسطة شركة “سينوهيدرو الصينية”، التابعة لـ “باور تشاينا”، ليصبح أكبر مشروع للطاقة في أوغندا، التي تعتبر واحدة من الدول الست التي وقعت اتفاقية الإطار التعاوني لدول حوض النيل لعام 2010 والتي تسمح لدول الحوض الموجودة في المنبع بتطوير مشاريع على طول النهر دون موافقة مصر.

تعاون مشترك

في العام 2018، أعلنت الحكومة المصرية عن اتفاق لإنشاء 5 سدود في أوغندا، وتم تدشين مشروع بناء السدود بسعة لا تزيد عن 10 آلاف متر مكعب للخمسة سدود، كما يطلق عليهم “خزانات الأدوية”، بمنحة مصرية قيمتها 9 ملايين دولار. أتى ذلك ضمن إطار التعاون بين البلدين، نظراً للمخاطر التي تعرضت لها مقاطعة كسيسي على مدار 20 عاماً من جراء موجات الفيضانات الكثيفة المتتابعة.

من هنا، أكد وزير الري المصري، محمد عبد العاطي، على حرص القاهرة على استمرار التعاون الفني بين وزارتي الري في البلدين، معلناً عن بدء الإعداد للمرحلة الثانية من هذا المشروع الهام، وكذلك بدء تنفيذ أعمال مشروع إنشاء 5 سدود خاصة بحصاد مياه الأمطار بمناطق متفرقة بأوغندا تضاف إلى ما تم تنفيذه بالفعل من مشروعات الآبار لضمان توفير مياه شرب نظيفة للمواطنين الأوغنديين.

من جانبه، أشاد وزير المياه والبيئة الأوغندي، سام شيبتوريس، بروح التعاون التي تربط بين مصر وبلاده وبخاصة في مجالات الري ودرء مخاطر الفيضانات.

“إنقلاب” أوغندي

ربط سياسيون ومختصون مصريون الزيارة المفاجئة لرئيس جهاز المخابرات المصرية، اللواء عباس كامل، لدولة جنوب السودان بقرار البرلمان الأوغندي تفعيل اتفاقية عنتيبي، التي تتزعمها إثيوبيا لإعادة توزيع حصص مياه النيل على دول المنبع والمصب

وأكد المختصون أن البرلمان الأوغندي طلب، قبل أيام من حكومته، تفعيل الإنضمام للاتفاقية التي سبق أن وقعت عليها أوغندا بالأحرف الأولى، لتنضم بذلك إلى دول حوض النيل الأخرى التي فعَّلت الإتفاقية بشكل رسمي. هذا الأمر يمثل “ضربة موجعة” للنظام المصري، برئاسة عبد الفتاح السيسي الذي يرأس الدورة الحالية للإتحاد الأفريقي، كما أنه يدعم موقف إثيوبيا التي تطالب بإعادة النظر في اتفاقية حوض النيل، الموقعة في العام 1929.

في هذا السياق يقول السفير د. عبدالله الأشعل “إن التحركات المصرية فيما يتعلق بملف مياه النيل دائماً تأتي متأخرة وبعد فوات الآن، خاصة أن مصر كان لديها العديد من الفرص لإفشال اتفاقية عنتيبي، أو على الأقل تحييد الدول المشاركة فيها، بإجراءات اقتصادية وسياسية مع هذه الدول، كانت كفيلة بعدم إقدام أوغندا على هذه الخطوة بعد أكثر من عشر سنوات على إطلاق إثيوبيا للاتفاقية.”

يضيف السفير الأشعل “إن اتفاقية عنتيبي تنتزع من مصر حقها الثابت في مياه النيل، التي تقدر بـ 55 مليار متر مكعب سنوياً، كما تمنح الإتفاقية الحق لدول المنبع بإنشاء أية مشروعات على مجري النيل دون الرجوع لدول المصب، مثلما فعلت إثيوبيا في بناء سد النهضة. فالدول الأفريقية المشاركة في حوض النيل، حققت خلال السنوات الماضية معدلات نمو اقتصادي كبيرة، وبدأت تبحث عن الإستفادة المثلى من المقومات الطبيعية التي تتمتع بها، وأهمها مياه النيل؛ وبالتالي، إن البحث عن مصالحها سيكون هو الغالب، خاصة في ظل ضعف الدور المصري الواضح بأفريقيا، على المستويين السياسي والإقتصادي.”

أصابع غربية

يرى البعض أن واشنطن قد تستخدم أوراق الضغط التي تمتلكها بهدف دفع الأطراف الثلاثة لتقديم تنازلات مقبولة من أجل التوصل لإتفاق يرضي الجميع. ويتوقع هؤلاء أن تستمر واشنطن في الضغط على الأطراف المعنية بهدف الإبقاء على مسار التفاوض السلمي وعدم اللجوء إلى لغة القوة أو التهديد، كما يشير مراقبون آخرون إلى إمكانية أن تدفع واشنطن بإتجاه اللجوء إلى مؤسسات تحكيم دولية بهدف التوصل إلى حل سلمي أخير للأزمة في حالة عدم التوافق على قضايا ملء وتشغيل السد، وتلافي الأضرار والمخاطر التي قد تنجم عن بنائه بالنسبة لدولتي المصب.

ومن بين الخيارات المتاحة، إعلان كل من مصر والسودان الإنسحاب من الإتفاق الإطاري، وهو الإعلان الذي يعطي المشروعية لإثيوبيا لبناء السد، ومن بين الخيارات المتاحة أمام الجانب المصري أيضاً اللجوء إلى إتفاقية عنتيبي، وهي اتفاقية إطارية موقعة بين بعض دول حوض نهر النيل في أوغندا العام 2010 بين كل من إثيوبيا وكينيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا، وانضمت إليها بورندي في العام 2011، لكنها لم تدخل بعد حيز التنفيذ الفعلي بعد.

وتنص الإتفاقية في أحد بنودها على مبدأ الإنتفاع العادل والمنصف والمعقول من موارد مياه المنظومة المائية لنهر النيل، مع الأخذ في الإعتبار المخاوف حول حماية الموارد المائية. كما تنص الاتفاقية على أن لدول حوض النيل والمنشآت ذات الصلة حق التمتع بالحماية التي تمنحها مبادئ وقواعد القانون الدولي المطبقة في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، ولا سيما قواعد القانون الإنساني الدولي.

غير أن لجوء مصر لهذا الخيار سوف يسقط حقها في المطالبة بالحصة التاريخية التي تحصل عليها من مياه نهر النيل، بالإضافة إلى حص السودان، ما دفع بالدوليتن بالإحجام عن التوقيع على هذه الإتفاقية الإطارية لدول حوض نهر النيل، “إتفاقية عنتيبي – 2010”.

أخيراً، يبدو أن مشاريع السدود وخزانات توليد الطاقة وغيرها لكل دول حوض النيل معدة سلفاً من قبل الدول الكبرى، إلا أن عثرة التمويل للدول الأم سيجعلها ترضخ في النهاية لتمويل الغرب، لكن تبقى المعضلة الأكبر بين مصر وأثيوبيا، التي تستقوي بكل من إسرائيل والولايات المتحدة للوقوف في صفها، بينما إنقلاب أوغندا على مصر من شأنه تقوية موقف أثيوبيا في مشروع “سد النهضة”. أما النتيجة الأساسية فهي محاولة “تطويق” مصر مائياً والضغط عليه لكونها لا تزال مصدر قلق بالنسبة إلى إسرائيل من إعادة تموضعها في الخندق المقابل، خصوصاً مع رفض المصريين التطبيع الواقعي معها إلى حد الآن.

إن الضغط المائي، ناهيك عن الإقتصادي، سيشكل نوعاً جديداً من سياسة “التجويع” تجاه القاهرة، لا سيما وأنها تعتمد على مياه النيل في العديد من القطاعات، وأهمها الزراعي والطاقوي. فإبقاء مصر تحت السيطرة، هي سياسة لإخضاعها و”ترويضها” بشكل يمكن الإستفادة منها دون إعطائها فرصة للتقدم، بل حتى للنمو.

مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.

مصدر الصور: نيل بوست – شبكة رصد الإخبارية.

موضوع ذو صلة:  باحث مصري: سد النهضة قد يفجر العلاقات الثلاثية