محمد فوزي*

شهدت ولاية البحر الأحمر السودانية إندلاع أحداث عنف دموية للمرة الثالثة منذ تولي الحكومة الحالية زمام الأمور؛ وذلك لأسباب قبلية، حسبما أُعلن، حيث أشارت تقارير إلى أن المواجهات كانت بين قبيلتي بني عامر والنوبة، وهي الأسباب التي أدت إلى تسجيل مدينة بورتسودان، عاصمة الولاية وموقع الميناء الرئيسي للبلاد، أعمال حرق وإطلاق رصاص وعنف أدت إلى شل الحياة في هذه المدينة بعدما عجزت الشرطة عن السيطرة على الوضع، وهو ما أفضى إلى حالات قتل تجاوزت الثلاثين حالة وإصابات تجاوزت المئة، وهي الأحداث التي أدت في مجملها إلى بروز وصعود نظرية المؤامرة في محاولة لتفسير الوضع.

وفي السياق ذاته، أثارت الأحداث تساؤلات مرتبطة بطبيعة العلاقات بين مكونيْ مجلس السيادة المدني والعسكري، وكذلك مدى قدرة الحكومة الإنتقالية على النجاح في وضع أسس يمكن البناء عليها لمعالجة كل الإشكاليات والأزمات التي تعاني منها السودان، بما يضمن الإستمرار بفاعلية في مسار التحول الديمقراطي، وذلك في ضوء تفشي وباء “كورونا”، بجانب الأزمة الإقتصادية الطاحنة وأزمات انعدام الأمن والإستقرار، فضلاً عن الأزمات السياسية المرتبطة بالمرحلة الإنتقالية في السودان حيث حالة التوجس بين مكوني مجلس السيادة المدني والعسكري، من جهة، ومحاولات الإسلاميين و”فلول” النظام السابق العودة إلى المشهد والانقضاض عليه، من جهة أخرى.

تخبرنا متابعة أحداث العنف التي شهدتها الولاية، وما صرح به أبناء المدينة، في متابعات إخبارية، أن الأجهزة الأمنية في الولاية تتحمل مسؤولية تجدد الصراع القبلي ونموه، وذلك عبر تراخيها، الذي وصِف بالمتعمد، وتقاعسها عن استخدام القوة اللازمة؛ لإخماد الفتنة.

وفي السياق ذاته، وفي الوقت الذي كانت فيه الأوضاع في المدينة السودانية تتجه نحو الأسوأ، وأعمال العنف تتصاعد، غابت الحكومة المركزية السودانية، حيث لم تتعاط الحكومة المركزية مع الأوضاع إلا بعد ثلاثة أيام من اندلاع الأزمة، حيث أصدر مكتب رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، بياناً حمَل مجموعة قرارات حاولت الحكومة من خلالها معالجة الأزمات الخاصة بولايات الشرق، حيث نصت القرارات على تكوين لجنة رباعية من مجلس الأمن والدفاع، تتولى الوضع في كسلا، التي رفضت المكونات القبلية فيها الوالي الجديد عليها، فضلاً عن تعزيز الوجود الأمني في ولاية البحر الأحمر بإرسال قوات من الإحتياط المركزي، والتأمين على قرار والي الولاية بفرض حظر التجول. وبناءً عليه، وصلت تعزيزات عسكرية مكونة من كتائب من القوات المسلحة للسيطرة على الأوضاع.

وكما أشرنا، فقد أعادت أحداث ولاية البحر الأحمر “نظرية المؤامرة” إلى الواجهة مرة أخرى، وذلك من خلال توجهين بالنظر إلى الأحداث الأخيرة:

1. توجه يرى أن هذه الأحداث وغيرها من الإضطرابات الأمنية التي تشهدها البلاد، هي في حقيقتها مفتعلة وتستهدف إفشال حكومة الثورة، ويذهب أنصار هذا الرأي إلى أن هنالك حالة توجس كبيرة بين مكوني مجلس السيادة السوداني والعسكري، وأن المكون العسكري يرى في نفسه الأحقية بإعتلاء هرم السلطة والسيطرة عليها في ظل حالة انعدام الأمن والإستقرار التي تشهدها البلاد، فضلاً عن الأزمات الخانقة الأخرى؛ وبالتالي، فإن هنالك مسوغاً قانونياً وسياسياً لدى المكون العسكري للإنقضاض على السلطة؛ بحجة منع البلاد من الإنزلاق نحو الفوضى. وبالتالي، يرى أنصار هذا التوجه، في فهم الأحداث، أن المكون العسكري بهذه الطريقة سيتحول من خانة المتهم، الإتهامات التي تطال المكون العسكري كمجزرة فض الإعتصام، إلى خانة المنقذ.

والحاصل هنا، أنه بعيداً عن الإسقاط على الحوادث الأخيرة، بما فيها أحداث ولاية البحر الأحمر، هنالك معطيات كثيرة في المشهد السوداني، فضلاً عما تخبرنا به المقاربة التاريخية في دول العالم الثالث عن طبيعة العلاقات المدنية – العسكرية، والتي تشير إلى أن هنالك حالة توجس بين مكوني مجلس السيادة، وهذه الحالة أقرب إلى الترصد.

ويمكن القول: إن هذه الحالة بدأت تظهر على الملأ وتعبر عن حالة التصدع التي تشهدها العلاقة بين الطرفين إبان لقاء رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وذلك في ظل عدم رضا بعض الدوائر السياسية في البلاد عن اللقاء، فضلاً عن إعتبارهم خطوة البرهان غير دستورية.

وفي السياق ذاته، اعتبر البعض أن خطوة رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، بطلب تدخل الأمم المتحدة لبناء وحفظ السلام عبر البند السادس، ما هي إلا محاولة لقطع الطريق أمام أية محاولات من فلول النظام السابق أو من المكوّن العسكري للإنقضاض على الحكم أو محاولة الإستئثار به.

2. كان هنالك توجه آخر في النظر إلى الأحداث الأخيرة ولكنه، كذلك، لا يخرج عن نظرية المؤامرة، حيث وضع أصحاب هذا التوجه الأحداث الأخيرة في إطار تزايد الأجندات الخارجية الطامعة في موانئ البحر الأحمر، حيث أياد خارجية تعبث بإقليم الشرق الاستراتيجي للسودان، كما صرح فائز السليك المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء. ويعتقد أنصار هذا الرأي أن مساعي الإستيلاء على موانئ بورتسودان لم تنته بإلغاء عقد “الشركة الفلبينية”، بل بدأت للتو بتجدد أحداث بورتسودان واحتجاجات كسلا والقضارف على تعيين ولاة جدد من قبيلة بني عامر.

إذاً، فبعيداً عن الوقوف على تفسير واضح وحاسم للأحداث الأخيرة،وهو أمر صعب بطبيعة الحال، إلا أن الأحداث وما ترتب عليها من تداعيات وردود أفعال تحمل في طياتها دلالات وإشارات مهمة، خصوصاً وجود حالة من الهشاشة والتربص تشهدها العلاقة بين مكوني الحكم وكذلك الفاعلين السياسيين الآخرين في المشهد السوداني، وهو أمر بطبيعة الحال لا يصب في مصلحة السودان أو المطالب العادلة لثورة ديسمبر/كانون الأول، ويمكن القول إن تجاوز أزمات الدولة والمجتمع في السودان واتخاذ خطوات جيدة في مساعي التحول الديموقراطي، مرهون بوجود توافقات وطنية واسعة.

هذه التوافقات تقوم على قاعدة رئيسية هي الإعلاء من مصالح الدولة الوطنية السودانية وأهداف ثورة ديسمبر/كانون الأول، وتضمن حل إشكاليات العلاقة بين مكونات الحكم والفاعلين المختلفين، كما تضع استراتيجيات توافقية لمعالجة قضايا السلام، والأزمة الاقتصادية، وتفكيك منظومة النظام السابق وبقاياه، وإصلاح المنظومة الأمنية، وملف العدالة الإنتقالية، وبطبيعة الحال قضية شطب إسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، والملف الخارجي عموماً، بما يضمن تبني سياسة خارجية وطنية تنأى عن المحاور والتجاذبات الإقليمية والدولية.

*باحث مصري

المصدر: النهار العربي.

مصدر الصورة: موقع حفريات.

موضوع ذا صلة: تحديات التحول الديمقراطي في السودان