الشعب ناقم على الطبقة السياسيّة مثلما هو خائب من الثورة. والشعب مصدوم من لبنان الاستقلال مثلما كان مغتاظاً من لبنان الانتداب. والشعب متعَب في “لبنان الكبير” مثلما هو متوجّس من العودة إلى لبنان الصغير. والشعب رافض الدولة المركزيّة وتائه بين اللامركزيّة والفدراليّة. إذا كانت هذه التجاذبات المتلاطمة تَعكس عمق الأزمة اللبنانيّة المتراكمة، فإنّها تَكشِف نوعيّة الحلول التي تُراود ذهن الشعب، خياراً أو اضطراراً، ليُنقذ وجودَه الحرَ والحضاريّ في لبنان. حين يُصبح التعايش مرتبطاً بحركة الزمن لا بنبضات القلب، تصبح الحياةُ أولويّة اللبنانيّين.
حتّى زمن قريب، ظنَّ اللبنانيّون أنَّ الإنقاذ يكون بحكمٍ قويٍّ، بحكومةٍ قادرةٍ، برئيسٍ جديدٍ، بتعديلِ قانونِ الانتخابات، باستراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ، بمكافحة الفساد، بتعييناتٍ إداريّةٍ صالحة. أما اليوم، فيَجْنَحون نحو الحلول الجذريّة التي تُعيد النظر ببُنيةِ الدولة. فَقدوا ثقتَهم بالتسوياتِ والتنازلاتِ وهيئاتِ الحوار؛ ولا أدري إذا كان تغييرُ النظامِ يَكفيهم بَعد. فالتحولاتُ الفكريّةُ والدينيّةُ والسياسيّةُ والاجتماعيّةُ التي طرأت على المجتمعِ اللبناني وتَجذَّرت فيه ليست عابرةً ومرتبِطةً بعواملَ ظرفيّةٍ داخليّةً كانت أو خارجيّة. لقد أمسَت تحوّلاتٍ ثابتةً يَصعَب قَلبها إلا بعد أجيال.
لذا، وبعيداً عن ضغط السلاح، لا بد من التفكير بشكل لبنان الجديد قبل أن تسبُق الأرض التفكير. حالياً، ولكي لا نغشّ أنفسنا، لا نعيش في ظلّ أيّ دستورٍ لبنانيّ: لا هو دستور جمهوريّة الانتداب، ولا دستور جُمهوريّة الاستقلال، لا دستور جمهوريّةِ الطائف، ولا حتى دستور الطوائف. لبنان وطنٌ عارٍ، مكوّناته ارتدت أثواب أوطانٍ أخرى. والمفارقة الحزينة أنّ اللبنانيّين اعتادوا الحياة الاجتماعيّة معاً قبل التفكير بهوِيّة الوطن ودستور الدولة. ولـمّا انتسبوا إلى الدولة ذاتِها بدأوا يتفرّقون ويتناسَوْن الأيام الحلوة، فدفعت الشراكة العفويّة ثمن العقائد المستوردة.
من يَعتقدون أن النظام جيّدٌ وتطبيقه سيّئٌ يستنتجون بأنّنا لسنا أهلاً له طالما لم نحسن تطبيقه طوال عقود. ومن يعتقدون أنّ النظامَ سيِّئٌ بحدِ ذاته يبرّرون البحث عن آخر. لكنّ البديل عن النظام السياسيّ، هذه المرّة، ليس نظاماً سياسيّاً آخر، بل هو صيغة جغرافيّة أخرى للشراكة المسيحيّة -الإسلاميّة. صيغة تقوم على احترام الخصوصيّات لا على توسيع الصلاحيّات. فالنظام السياسي اللبناني لم يتعطَّل بسبب بنوده الدستوريّة، بل بسبب انهيار الصيغة بقيمها الميثاقيّة تحت طعنات مشاريع مذهبيّة لا تنسجم مطلقاً مع “لبنان الكبير” أرضاً وشعباً وتراثاً.
لقد فشلت الديمقراطيّة أمام الطوائف، وفشلت الطوائف أمام الطائفيّة، وفشلت الصيغة أمام التعدديّة. وها هي التعدديّة تواجه العدديّة، والتجربة اللبنانيّة تصارع التطرّف الدينيّ، والسلام يتحدّى السلاح. بات لبنان أمام خيارٍ واحد: سقوط المشاريع المذهبيّة أو سقوط وحدة لبنان. فلماذا نرفض استلامَ مذكّرة أخذ العلم ما دمنا بالأمر عالمين، وبالواقع كافرين، وبالتغيير حالمين؟
في الزمن العاديّ، زمن الدولة، زمن السلام عليكم لا السلاح عليكم، كانت التراتبيّة الوطنيّة هي التالية: الإنسان فالكيان فالصيغة فالطائفة. اليوم، في زمن القلق على الوجود الذاتي، صارت التراتبيّة كالتالي: الإنسان فالطائفة فالكيان فالصيغة. أبناء “لبنان الكبير” حريصون على الشراكة الوطنيّة العادلة، لكنهم يرفضون الخلل ناخر الشراكة المسيحيّة – الإسلاميّة منذ عقودٍ والذي تفاقم مع مشروعِ حزب الله وسلوكه التوسعيّ على حساب جميع المكوّنات الأخرى. والاستباحة الوطنيّة الكبرى، أنّ الشرعيّة، للمرّة الأولى في لبنان، تتحالف مع مشروعٍ غير شرعيٍّ وتغطّيه وتبرّره. ورغم مناشدة رأس الطائفة المارونيّة، البطريرك بشارة الراعي، والمكوّنات اللبنانيّة الأُخرى والمجتمعين العربيّ والدوليّ، ورغم ظهور عوارض الانهيار العامّ، لا تزال الشرعيّة لصيقة حزب الله ومنفِّذة رغباته حتّى على حساب مصير العهد وأركانه.
أبناء “لبنان الكبير” يرفضون مشروع حزب الله جملةً وتفصيلاً إذ بعد أربعين سنةً على انطلاقه اتّضح مدى الضرر الذي ألحقه بلبنان الدولة والنظام والصيغة والميثاق والاقتصاد. أبناء “لبنان الكبير” يرفضون أن يبقى مصيرهم مرتبطاً بمصير سلاح حزب الله الذي لا مكان له طليقاً في دولةٍ موحدة. أبناء “لبنان الكبير” يرفضون أن يظلّ لبنان الكبير المركزي، أرضاً وشعباً، مادة تجاذبٍ بين مشاريع إقليميةٍ بسبب ولاء بعضِ المكونات لدولٍ غريبة. أبناء “لبنان الكبير” يتمنّون، بالمقابل، أن يلتقوا و”أبناء حزب الله” حول مشروعٍ وطني، وأن يبنوا معاً دولة الإنسان الحر والمقاوم بشراكةٍ كاملةٍ ومساواةٍ تامّة، وأن ينشروا معاً ثقافة البحث عن أصدقاء لا ثقافة التنقيب عن أعداء. ما عاد لنا سوى أعداء.
خلاف هذا المنطق الوحدوي، ندفع بلبنان الكبير إلى السقوط الحتمي من دون ضمان ولادة آخر مستقلٍّ ومستقر. فأي طموحٍ دستوريٍّ، أبعد من اللامركزيّة والحياد، يؤدّي إلى التقسيم المباشر. وأي طموحٍ دستوريٍّ للسيطرة على لبنان المركزيّ يؤدّي أيضاً إلى التقسيم المباشر. وأي حالةٍ انفصاليّةٍ بقوّة السلاح تؤدّي كذلك إلى التقسيم المباشر. وأي احتيالٍ على التعدديّة من خلال قانون انتخاباتٍ جائحٍ يؤدّي أوّلاً إلى التقسيم المباشر. عموم طوائف لبنان أعادت النظر بسقوف طموحاتها الدستوريّة: من الدروز الّذين غبنوا في الجمهوريّة، إلى السنّة الّذين فرحوا بـــ”اتفاقِ الطائف”، إلى المسيحيّين الّذين تقبّلوا التنازلات. وإذا كانت إعادة النظرِ بهذه السقوف كلَّفتنا حروباً وألوف الضحايا وجلبت علينا الاحتلالات، عسى أن يعيد المكوّن الشيعيّ ـــ وتحديداً الثنائيّ الشيعيّ ـــ النظر بسقف طموحاته سلميّاً.
حان الوقت لكي نميّز جميعاً الفارق بين الطموحات والأوهام. لا مجال لأيّ مكوّنٍ أن يعيد تأسيس لبنان على قياسه، ولا مجال للبنان أن يستمر موحداً من دون أن يكون على قياس جميع مكوّناته. مأساةٌ أن نعيش معاً مرّةً واحدةً، كأنّ لبنان وجد صدفةً، فيما هو قبل جميع دول الشرق وباقٍ مهما كان شكله، وكم من شكلٍ أَخذ عبر التاريخ.
*وزير سابق.
المصدر: جريدة النهار.
مصدر الصورة: أرشيف سيتا.
موضوع ذا صلة: لبنان أين.. لا إلى أين؟