ستذكر فترة رئاسة دونالد ترامب بإعتبارها وقتاً يتسم بالإضطراب بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي، حيث كان الرئيس الجمهوري منتقداً شرساً لوجوده وهيكله، وأصدر العديد من البيانات التي غالباً ما بدت أنها تشكك في مستقبل التحالف. وعلى الرغم من أن هزيمة الرئيس ترامب في الإنتخابات الرئاسية، نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تلقاها قادة أوروبا وحلف شمال الأطلسي على حد سواء بإرتياح بسبب تسليطه الضوء على بعض المشاكل الرئيسية مع المنظمة العسكرية المتعددة الجنسيات التي ناضلت بلا شك من أجل هوية أو مهمة فريدة في فترة ما بعد الحرب الباردة.

وفي الواقع، كانت له إنتقادات شديدة في السنوات الأخيرة حتى من أعضاء الإتحاد الأوروبي الغربيين الأكثر أهمية؛ فقد وصف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حلف الناتو بأنه “ميت دماغياً” منتقداً إفتقاره إلى التماسك بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة. وفي محاولة لمعالجة نقاط الضعف الملحوظة في التماسك والوحدة، كُلف الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، بكتابة تقرير مع خبراء في الدفاع والأمن والاستراتيجية لإستشراف مستقبله، وتقديم توصيات حول كيفية تفاعله بشكل إستباقي مع المستجدات والتحديات الأمنية المشتركة. وقد صدر هذا التقرير في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2020، وناقش ما جاء به مركز “كارنيغي” أوروبا، ومقره بروكسل عبر ندوة بالإنترنت تاريخ 3 ديسمبر/كانون الأول 2020، شارك فيها خبراء منهم أحد الذين شاركوا في إعداد التقرير وهو توماس دي ميزير، عضو البرلمان الألماني ووزير الدفاع الألماني السابق من 2011 إلى 2013، والثاني ويس ميتشل، نائب رئيس مركز تحليل السياسة الأوروبية وشغل سابقاً منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأوروبية من 2017 إلى 2019، وشاركت في الندوة أيضاً ألكسندرا دي هوب شيفر، مديرة الأبحاث والأمن عبر الأطلسي، وآنا ويسلاندر، مديرة المجلس الأطلسي لشمال أوروبا. وترأست الندوة مديرة مركز “كارنيغي” أوروبا، روزا بلفور.

إفتتح الندوة الأمين العام لحلف الناتو، تحدث خلالها عن الحاجة المستمرة لجعل حلف الناتو “أكثر قوة”، وأن لجنة الخبراء المكونة من 10 أفراد، والتي أعدت تقرير الناتو 2030 تمثل “تنوع التحالف”، وأنه سيمثل “مساهمة قيمة” لمستقبله، اعترافاً منه بأن “البيئة الأمنية قد تغيرت بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية”، وأنها سوف تواصل القيام بذلك.

وبالنسبة إلى مستقبل الحلف، ذكر ستولتنبرغ أن حلف الناتو لديه حالياً ثلاث أولويات رئيسية، هي البقاء قوة عسكرية قوية، وتعزيز دوره السياسي، وتوسيع نطاق مهامه عالمياً. ولكي يحدث هذا، أكد أن “المرونة ستكون خط الدفاع الأول” للتحالف، وعلى الرغم من أن المنظمة “ستظل تحالفاً إقليمياً”، فإنه من المؤكد أن صعود الصين سيكون له “آثار على توازن القوى” العالمي، وأن التعاون الذي يرعاه الناتو سيكون مهماً في معالجة هذا الأمر.

بعده تحدث توماس دي ميزير عن عملية كتابة التقرير وتوصياته مفتتحاً حديثه بالإشارة إلى “العملية الفريدة” التي تم فيها إستكمال التقرير من دون عقد إجتماعات وجهاً لوجه بسبب الجائحة. ومع ذلك، فقد نسب الفضل إلى المجموعة الجيدة للغاية من زملائه الخبراء الذين كانوا “يتمتعون بالمعرفة والخبرة” في جعله ممكناً.

وسلط الضوء على الأهمية السياسية للتقرير، وأن واضعي التقرير كانوا مدركين للتوصل إلى توازن بين إيجابيات وسلبيات مستقبل الناتو، مع قلقهم من أن التقرير “السلبي جداً” قد “يثبط عزيمة الجميع”، ويثبت صحة إنتقادات الرئيس ماكرون السابقة. وأوضح أن التركيز الرئيسي للتقرير إنصب على “تعزيز الذراع السياسية لحلف شمال الأطلسي”، وهو الأمر الذي نوه عن أنه “يفتقر” إلى الإنجازات على صعيد التعاون العسكري.

وفي تفسير لبعض توصيات التقرير، ذكر ميزير أن فريق الخبراء توصل إلى ضرورة وجود “ثقافة جديدة للمشاورات والمناقشات”، وأن ذلك يتطلب “إرادة سياسية” من حكومات أوروبا، فضلاً عن جعل التفاعلات بين الناتو والإتحاد الأوروبي أكثر “مصداقية”.

وكان المتحدث التالي هو ويس ميتشل، وهو أيضاً مؤلف مشارك في إعداد التقرير، والذي أوضح أن “تحديد الأولويات” كان عنصراً حاسماً في التقرير، حيث كان “واضحا” لمن صاغوه من الخبراء أن أهم التطورات الأمنية لحلف الناتو في المستقبل ستكون في “منافسته الاستراتيجية مع الصين وروسيا”، وأشار إلى أن هذا التحدي يختلف عن التحديات التي واجهها التحالف سابقاً، بالنظر إلى أنه ليس مجرد تنافس مادي، ولكنه أيضاً “تنافس إيديولوجي”. وبرر ميتشل دور الناتو في هذا العصر من المنافسات الجديدة، بأن الحلف هو “المنظمة أو المنصة الوحيدة التي يمكن أن تكون المكان الرئيسي لتنظيم دول الغرب للمنافسة مع منافسين إستبداديين عدوانيين”.

وأكد أيضاً على ضرورة وجود “إرادة سياسية” لحدوث هذه التغييرات، وأن مهمة تفعيل ذلك تقع على عاتق السياسيين. وفي ضوء ذلك، وصف “الهدف النهائي” للتقرير بأنه يقدم توصيات “معقولة سياسياً وعملياً”، وأن هناك “تفاؤلاً له ما يبرره” بأن حلف الناتو سيستمر في لعب دور كبير في تكيف الغرب مع التهديدات الأمنية.

بعد ذلك تحدثت ألكسندرا دي هوب شيفر، معلقة على الحاجة إلى “التماسك السياسي” الذي تم تحديده في التقرير، ورأت أنه يمثل إختباراً للدول الأعضاء في الناتو. وكجزء من هذا، أشارت إلى الحاجة إلى “معالجة مسألة تركيا” بجدية أكبر، و”عدم التردد في معالجة الأسئلة الصعبة” في المستقبل المتعلقة بتماسكها السياسي.

وكانت المتحدثة الأخيرة التي قدمت ملاحظاتها في هذا الصدد هي آنا ويسلاندر، حيث تطرقت إلى حاجة الناتو إلى التكيف مع “حالة تحول القوى الراهنة” في الإدارة إلى روسيا والصين من خلال “نهج عالمي”. ولاحظت أنه لا يزال من الصحيح إفتراض أن روسيا ستكون “التهديد العسكري الرئيسي” لحلف شمال الأطلسي في العام 2030، وأن التهديد الأمني الذي ستشكله الصين سيكون “مختلفاً تماماً” في المستقبل عن الوضع الحالي، وقد يكون أيضاً هذا التهديد “أكثر خطورة” لأنه يمثل “تحدياً للنظام الدولي” من دولة ذات تملك أجندة عالمية، وهدفها الوحيد أن تكون رائدة على مستوى العالم بحلول العام 2050.

من هنا، تحولت الندوة بعد ذلك إلى أسئلة موجهة من الجمهور عبر الإنترنت، ركزت في معظمها على الصين والتحديات والآثار المستقبلية لتحالف الناتو في العام 2030. ورداً على إستفسار حول كيفية قيام الحلف بتشكيل إستراتيجية متماسكة لمواجهة بكين في الوقت الذي يتعامل فيه أعضاؤه مع التهديد الذي تمثله الأخيرة بمستويات متفاوتة من الأهمية والخطورة، علق توماس دي ميزير على أن فكرة تشكيل “مجلس حول الصين” قد تم طرحها كأداة لتركيز المناقشات على تحديد ملامح السياسة الخارجية تجاه الصين، ولكن نظراً لأن الناتو يظل “تحالفاً عبر الأطلسي” في المقام الأول، فلن يكون بمقدوره أن يؤدي دور “شرطي العالم”.

ومن جانبه أشار ويس ميتشل، إلى أن التهديدات المنبثقة من الصين قد “نوقشت مطولاً”، ولكن السبب الرئيسي لعدم لعبها دوراً وحيزاً أكبر في التقرير الذي أعده خبراء الدفاع والأمن بالحلف هو أن الناتو يحتاج أولاً إلى “التشاور مع أعضائه بشأن الصين” قبل أن يتمكن من “إجراء مشاورات بناءة معها”، وأن منظمة حلف شمال الأطلسي في الوقت الحالي فقط تعتبر في المرحلة المبكرة جداً من فهم خطورة التهديد الأمني الذي تمثله بكين. ومع ذلك، فقد جادل أيضاً بأن هناك بالفعل تقارباً حول عدد من “الأبعاد الرئيسية لتحدي الصين ومواجهتها” بين أعضاء الناتو، وأن الإتفاقيات الخاصة بالسياسات المقترحة تجاه الصين قد تم تسريع وتيرتها، تفاديًا للإجراءات الدبلوماسية لبكين، لتسترها على خطورة تفشي جائحة فيروس “كورونا”.

وأضافت دي هوب شيفر إلى ذلك موضحة أن الدرس الرئيسي المستفاد من جائحة الفيروس التاجي كان إدراك الدول الأوروبية بشأن “إعتمادها المفرط” على الصين، لكن الناتو “لا يزال منقسماً في تصنيف الصين كتهديد عسكري، وخاصة الدول الأوروبية”، وأن الحكومات الأوروبية لا تزال تنظر إلى الصين من خلال “منظور إقتصادي فحسب”، وهو الأمر الذي لطالما أدى إلى تفاقم الخلافات مع الولايات المتحدة.

وحينما تعلق الأمر بحاجة أعضاء الناتو إلى درء التدخلات الصينية، التي يحتمل أن تكون خطيرة في بنيتهم التحتية الوطنية، أكدت ويسلاندر أنه من “المستبعد” تأميم أو “إقصاء” الشركات الصينية العاملة في أوروبا لأنها ليست “الطريقة الأوروبية” عند التعامل مع مثل هذه القضايا؛ وبالتالي، فإن “آليات فحص الإستثمارات الأجنبية” الجديدة التي يتم تنفيذها الآن ستكون “مفيدة جداً” في زيادة قوة البنية التحتية الأوروبية.

وفي ختام الندوة، خلصت بلفور إلى أن التقرير الذي أصدره الناتو حول رؤيته لعام 2030 يعمل على إظهار “قيمة الخبرات التي يملكها الحلف”، وأن نتائجه وتوصياته قوية لأنها “قابلة للتكيف مع أرض الواقع”. وكتب ستيفن إيرلانغر في صحيفة نيويورك تايمز، أن التقرير “يوصي بإجراء تغييرات مهمة” لمواجهة التحديات الأمنية الجديدة من روسيا والصين، بالإضافة إلى إصلاح شامل “لتعزيز تماسك التحالف، ولتحسين التنسيق مع الحلفاء الديمقراطيين في جميع أنحاء العالم”، كما “يحث على إنشاء مراكز تحليلية أكثر قدرة على دراسة التقنيات التخريبية والناشئة، بحيث يمكن للتحالف تعزيز أمنه وردعه ضد الحرب الإلكترونية والهجينة، خارج ساحة المعركة التقليدية.”

المصدر: مركز الخليج للدراسات الإستراتيجية.

مصدر الصور: روسيا اليوم – الحرة.

موضوع ذا صلة: فرنسا.. “شرطي الناتو”