إعداد: مركز سيتا
منذ وصوله إلى البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني 2017، حرص الرئيس الأميركي دونالد ترامب على مراجعة أو إلغاء كل ما يرى أنه “إتفاق سيء” للغاية، بمعنى أنه لا يخدم مصالح بلاده الاقتصادية والديبلوماسية بقدر ما تنفعُ الحلفاء أو الخصوم، متهماً سلفه، باراك أوباما، بإبرام إتفاقات “كارثية”، ومعتبراً نفسه “رجل الصفقات” لا سيما أنه قادم من مجال العقار والأعمال.
تهاون أمريكي
اعتبر الرئيس ترامب إن الاتفاقيات التي كانت قائمة أضرت كثيراً بالولايات المتحدة، وسمحت باستفادة الخصوم؛ برأيه، ما كانت الصين لتقوى إقتصادياً لولا تساهل سابقيه في البيت الأبيض متهماً إياهم بـ “التقصير”. لكن نهجه، إبان عهد رئاسته، لا يقتصر على الولايات المتحدة، إذ يرى خبراء أن ساسة اليمين يسعون إلى إنشاء “نظام سياسي جديد” في عدد من الدول الغربية، وأهم ما يتطلعون إليه هو الحد من العولمة ومناوءة الهجرة وإنكار حقيقة الإحتباس الحراري وزيادة الشعور القومي.
في هذا الخصوص، نشرت مجلة “فورين بوليسي” مقالاً لأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، ستيفين والت، تناول تقييماً لسياسة الرئيس ترامب الخارجية، تساءل فيه: “هل ارتفعت قوة أمريكا ومكانتها وتأثيرها العالمي في عهده؟ أم أن تعامل ترامب مع السياسة الخارجية يعيد للذهن كازينوهاته المفلسة أو شركة ترامب شاتل أو جامعة ترامب أو غيرها من المشاريع التجارية الفاشلة؟”
لقد اعتقد الرئيس السابق أن العالم كان يستغل أمريكا؛ بالمقابل، خرج بعقلية جديدة تتحدث عن أن الحلفاء ستدفعون الثمن الكامل مقابل حماية أمريكا وسيواجهو الخصوم ويُهزمون، وستسعى أمريكا إلى تحقيق مصلحتها الذاتية مع القليل من الاهتمام بالمجاملات الدبلوماسية. أيضاً، إعتقده أنه كان سيمنع الصين من “سرقة” الوظائف الأمريكية ويُخرج أمريكا من “الصفقات السيئة” مثل “إتفاقية باريس للمناخ” والاتفاق النووي مع إيران، مصوراً نفسه على أنه “مفاوض محترف”، حيث وعد بالتوصل إلى صفقات تجارية جديدة “جميلة” من شأنها أن تعيد التصنيع في أمريكا وتستهل حقبة جديدة من الازدهار.
لذا، فإن أمريكا لن تلعب دور “المغفل” بعد الآن، فهي ستخرج “من مهمات بناء الدول” وتشن حملة على الهجرة، وإعادة بناء المؤسسة الدفاعية الضعيفة، وإجبار المكسيك على دفع ثمن جدار على الحدود الجنوبية.
سياسات مكلفة
على الرغم من إدعاء الرئيس ترامب تحقيق بعض النجاحات في السياسة الخارجية، إلا أن سجله العام غير كفوء. لقد بات أعداء أمريكا اليوم أكثر خطورة مما كانوا عليه العام 2016، وهي أضحت أضعف وأكثر “مرضاً وإنقساماً”، وعلاقاتها مع العديد من دول الحلفاء أسوأ مما كانت عليه، وأية تطلعات إلى القيادة الأخلاقية التي ربما كان الأمريكيون يحتفظون بها قد “تلطخت” بشكل كبير.
في التفاصيل، تفاوضت إدارة الرئيس السابق على إتفاقية تجارية جديدة مع كوريا الجنوبية ونسخة محدثة من اتفاقية “نافتا”، التي تجمعها مع المكسيك وكندا، غير أن أي تحسن لم يتحقق جراء ذلك، وهذا على الصعيد الإقتصادي. أما على الصعيد العسكري، كان هناك تلميح متكرر لإمكانية الخروج من معاهدة حلف شمال الأطلسي – الناتو (حيث توقع جون بولتون، مستشار الرئيس السابق للأمن القومي، ذلك إذا ما فاز بولاية ثانية)، حيث شجع الرئيس السابق الجهود الأوروبية لتحمل المزيد من المسؤولية عن دفاعهم. أما على الصعيد الأمني، فلربما قد أقنع بعض الجالسين على السياج بالموافقة على طلبات بلاده بعدم استخدام شركة “هواوي” الصينية لإنشاء بنيتهم التحتية الرقمية. وفيما يخص الصراع العربي – الإسرائيلي، يرى بعض المراقبين أن لإدارته “الفضل” في إقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، على الرغم من أن هذه الخطوات لم تفعل شيئاً يذكر لدفع قضية السلام أو العدالة في الشرق الأوسط.
غير أن فشله في معالجة جائحة “كورونا” كانت “الشعرة التي قصمت ظهر البعير”، فالصين سيطرت على الوباء وأعادت فتح اقتصادها، بينما تواجه أمريكا عشرات الآلاف من الإصابات الجديدة يومياً ولا تزال في حالة إغلاق جزئي.
أيضاً، لقد كان من الخطأ مغادرة “إتفاقية باريس للمناخ”، التي كانت على الأقل خطوة أولى مفيدة نحو معالجة أكبر خطر طويل الأجل تواجهه البشرية. أيضاً، يرى بعض الإقتصاديين أنه أخطأ بالإنسحاب من “إتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ” مع محاولته الموازنة مع الصين في الوقت نفسه.
كذلك الأمر، إنسحب الرئيس ترامب من اتفاقية “الأجواء المفتوحة”، التي تتيح للدول الأعضاء الموقعة عليها بإجراء طلعات مراقبة جوية في أجواء بعضها البعض، وعزا هذه الخطوة إلى عدم التزام موسكو بتعهداتها، فيما قال وزير خارجيته، مايك بومبيو، إن واشنطن قد تعيد النظر في قرارها إذا تم تصحيح الأخطاء، كما وقع ترامب، وثيقة الانسحاب من المعاهدة الدولية لتجارة الأسلحة التقليدية التي تقيد بيع أسلحة لجهات متورطة في جرائم حرب، وفي العام نفسه، انسحبت واشنطن من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى مع روسيا.
تلا ذلك، انسحابه من الإتفاق النووي مع إيران، الذي أعطى بعضاً من الحرية لطهران حيث إستمرت، بحسب رأيه، في أنشطتها المزعزعة للإستقرار بالشرق الأوسط من دون أن تغير “سلوكها العدائي”. يضاف إلى ذلك العديد من الإنسحابات أهمها مجلس حقوق الإنسان حيث عزا السبب إلى إنحيازه ضد إسرائيل، معاهدة الصداقة بين أميركا وإيران التي أبرمت في عهد حكم الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة – اليونسكو متهمة إياها بالإنحياز للفلسطينيين، وأنهى مشاركة بلاده في الميثاق العالمي للهجرة كونها تتعارض مع سيادة البلاد ومبادئ الهجرة التي إنتهجتها إدارته، وآخر الانسحابات كان من معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى مع روسيا، أو ما تُعرف بإسم “معاهدة ستارت – 3″، بزعم أن بها العديد من النواقص.
رجل الإصلاح
يدرك الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، أن سلفه ترك له “إرثاً ثقيلاً”، وهو سيسعى إلى إعادة إحياء الكثير من تلك الاتفاقيات مجدداً بهدف إستعادة مركز الولايات المتحدة القيادي في العالم، بعدما تسببت سياسات سلفه بـ “عزلها”، وهو ما ترك فراغاً استغله “خصوم” بلاده.
همة بايدن للتخلص من هذا الإرث لن تكون سهلة بل قد تكون شبه مستحيلة في بعض القضايا، فالإصلاح سيتطلب جهداً ووقتاً في ظرف دولي بالغ التعقيد. من هنا بدأت الإدارة الجديدة بتمديد العمل بمعاهدة “نيو ستارت”، الخاصة بمنع انتشار الأسلحة النووية، مع روسيا.
وقال البيت الأبيض إن الرئيسين الأمريكي والروسي، فلاديمير بوتين، تحدثا هاتفياً لأول مرة منذ تولي بايدن منصبه، وناقشا مسألة تجديد معاهدة “نيو ستارت”، التي يشكل تمديدها أول تقدم دبلوماسي بارز منذ سنوات بين البلدين، خصوصاً وأن العلاقات الثنائية قد تراجعت إلى أدنى مستوى لها منذ نهاية الحرب الباردة بسبب خلافات متواصلة حول ملفات دولية عدة.
فلقد أعلن الكرملين إن الدولتين اتفقتا على تمديد المعاهدة، التي أُبرمت عام 2010، هي المعاهدة التي تقيد عدد الرؤوس النووية الاستراتيجية والصواريخ والقاذفات التي يمكن لروسيا والولايات المتحدة نشرها. وتحدد هذه المعاهدة، التي تعد آخر اتفاقية من هذا النوع بين الخصمين السابقين في الحرب الباردة، سقف كل من ترسانتي القوتين النوويتين بـ 1550 رأس نووي، في خفض نسبته 30% تقريباً عن الحد السابق الذي وضع العام 2002. وتحدد كذلك عدد قاذفات القنابل والقاذفات الثقيلة بـ 800، وهذا يكفي لتدمير الأرض مرات عدة.
أيضاً، سيكون من السهل جداً العودة إلى إتفاقية للمناخ لكون الأوروبيين أنفسهم مصرين على أن إشراك واشنطن فيها لكونها تعتبر من أكبر الدول الصناعية في العالم وصاحبة أكبر سجل في تلويث الهواء.
لكن الأمر سيكون صعباً بما يتعلق بالعودة المنشودة للاتفاق النووي مع إيران، خصوصاً وأن الأخير لا تزال تصر على الإتفاق الأول وعدم التفاوض على مسائل خارجه عنه، كترسانتها من الصواريخ البالستية.
أخيراً، إن محاولة إدارة عالم معقد في خضم مثل هذه الفوضى كان من شأنه أن ينهك بسمارك أو لينكولن أو روزفلت، فلقد كان الرئيس ترامب بعيداً كل البعد عن هؤلاء الاستراتيجيين الدهاة الأذكياء ومن نواح عديدة. أما بالنسبة إلى إدارة الرئيس الجديد، فالأخبار السيئة تكمن في أن أمامها قدراً هائلاً من أعمال الإصلاح والتصليح التي يتعين عليها القيام بها، لكن هذا لن يكون عائقاً أمامهم إذا ما توفرت الإرادة الحقيقة لتحقيق وأداء هذه المهام الصعبة.
من هنا، يبدو أن على الرئيس بايدن وإدارته إعادة صياغة العديد من المفاهيم كي تبقى بلاده على قمة الهرم في النظام العالمي، مع أن هناك شك في ذلك، من خلال إعتماد سياسات ما ومنها التقليدية، مثل تقوية حلف شمال الطلسي ومواجهة روسيا وإحتواء الصين وإتفاقية المناخ، أو المستجدة، التي ألغاها الرئيس ترامب والتي قد لا تصب في مصلحة بلاده كالضغط على الدول بعدم تبني أنظمة “هواوي” الصينية من أجل الحفاظ على سوق الشركات المحلية، والمتغيرة، بمعنى التي لم تعد تصلح للعودة إليها مثل الإتفاق النووي الإيراني حيث لأن العودة إلى 5 سنوات من اليوم يعتبر أمر شبه مستحيل خصوصاً أن طهران باتت أقوى إقليمياً مما كانت عليه.
من خلال الوقائع، تدرك طهران هذا الأمر جيداً على الرغم من أن تصريحاتها الدائمة هي العودة إلى الإتفاق الأول. لهذا السبب، عادت إلى زيادة أجهزة الطرد المركزي، واللجوء إلى رفع نسبة التخصيب لـ 20% وذلك من أجل تقوية موقفها في أية عملية تفاوضية جديدة، خصوصاً أيضاً أن الأوروبيين قد يقفون بموقف وسط بين الطرفين، أي لا عودة إلى الإتفاق القديم ومع إتفاق جديد عادل، فالمهم عندهم أن يكون هناك إتفاق وأن تُفتح أسواق إيران “العذراء” أمام شركاتهم.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: العربي الجديد – الحرة.
موضوع ذا صلة: تداعيات إنسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الأسلحة النووية