مقدمة

تتعزز أهمية بحر الصين الجنوبي من خلال عدة عناصر تعمل على إضفاء مزيد من القيمة الاستراتيجية له، ولا سيما تلك التي تتعلق بحقيقة كونه أقصر الطرق التي تصل بين المحيطين الهادئ والهندي، فضلاً عن كونه يمتاز بوجود أكثر خطوط الملاحة ازدحاماً بحركة السفن في العالم، إذ أن نصف ناقلات النفط العالمية يمر عبر هذا البحر، وأغلبية هذه الناقلات تحمل المواد الأولية كالنفط الآتي من الخليج العربي إلى دول جنوب شرق آسيا. مما جعل هذا البحر يحظى باهتمام الدول الكبرى كما هي الحال مع الصين التي ترى ضرورة حماية هذا البحر من أية قوة أخرى، إقليمية أكانت أم دولية، يمكن أن تتسبب في تعطيل حركة الملاحة فيه، لارتباط ذلك بإمكان الضرر باقتصادها واقتصاد المنطقة عموماً، مذكراً بأن في كل عام، تمر عبر بحر الصين الجنوبي بضائع تجارية تقدر قيمتها بـ 3,5 تريليونات دولار، وتصل نسبة مشاركة واشنطن فيها إلى ما يقارب 2,1 تريليون دولار.

ما هو بحر الصين الجنوبي؟

بحر الصين الجنوبي جزء من غرب المحيط الهادي أكبر محيط على وجه الأرض، يقع شرق الصين وفيتنام وكمبوديا وغرب الفلبين وجنوب تايوان، رغم أن تايوان نفسها يمكن اعتبارها جزءاً من البحر أو جزيرة فيه. تبلغ مساحة البحر حوالي 3,500,000 كلم، ومنه تمر حوالي ثلث تجارة العالم، أو ما قيمته 5,3 تريليون دولار سنوياً. حصة الولايات المتحدة من هذه التجارة حوالي 1,2 تريليون دولار. وتشترك دول في سواحل البحر منها فيتنام والصين وتايوان أو جمهورية الصين الشعبية، وكمبوديا وبروناي وماليزيا وإندونيسيا وميانمار، وكلها لها مصالح فيه تتعلق بأمرين هما التسميك (صيد السمك) وحقول النفط والغاز المقدرة تحت قعر البحر.

أعلنت الصين أن حدودها الاقتصادية القطعية في البحر تمتد إلى 200 ميل، أو ما يعادل 300 كلم، ومثل هذا التحديد لا يتناسب مع مقتضيات القانون الدولي الذي أقرته الأمم المتحدة والقاضي بأن المياه الاقتصادية للدولة تمتد إلى 200 كيلم عن الشواطئ البرية.

ولكي تغلف الصين حدودها الاقتصادية القطعية عملت على استغلال بعض الصخور البارزة في البحر والشعاب المرجانية لإقامة جزر صناعية وتملكها واعتبارها بعد ذلك أراضي صينية تتمتع بحدود بحرية كبقية الجغرافيا العالمية. وأقامت الصين على الجزر الاصطناعية منشآت عسكرية بحرية منها وجوية، وتحتفظ بعدد قليل من الجنود عليها، أهم هذه الجزر سبراتلي وبراسيل، ويعتبر جرف سكاربره أهم تجمع شعب مرجانية، وهو أقرب إلى الفلبين من الصين، إنه يبعد عن الفلبين حوالي 160 كلم بينما يبتعد عن الصين حوالي 800 كلم.

خلفية عن قضية بحر الصين الجنوبي

أثارت مطالبات الصين الكاسحة بالسيادة على البحر، ومقدار البحر 11 مليار برميل من النفط غير المستغل و190 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، استعداء المطالبين المتنافسين بروناي وإندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايوان وفيتنام في وقت مبكر من السبعينيات، بدأت الدول في المطالبة بجزر ومناطق مختلفة في بحر الصين الجنوبي، مثل جزر سبراتلي، التي تمتلك موارد طبيعية غنية ومناطق صيد.

وبموجب القانون الدولي، لا تستطيع الجيوش الأجنبية القيام بأنشطة جمع المعلومات الاستخبارية، مثل الرحلات الاستطلاعية في منطقتها الاقتصادية الخالصة. ووفقاً للولايات المتحدة، يجب أن تتمتع الدول المطالبة، بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار – UNCLOS، بحرية الملاحة عبر المناطق الاقتصادية الخالصة في البحر وليست مطالبة بإخطار المطالبين بالأنشطة العسكرية. وفي يوليو/تموز 2016، أصدرت محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي حكمها بشأن دعوى رفعتها الفلبين ضد الصين بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وحكمت لصالح الفلبين في كل تهمة تقريباً، في حين أن الصين هي من الدول الموقعة على المعاهدة، التي أنشأت المحكمة، فإنها ترفض قبول سلطة المحكمة.

في السنوات الأخيرة، أظهرت صور الأقمار الصناعية جهود الصين المتزايدة لاستعادة الأراضي في بحر الصين الجنوبي من خلال زيادة حجم الجزر فعلياً أو إنشاء جزر جديدة تماماً، بالإضافة إلى تكديس الرمال على الشعاب المرجانية الموجودة، كما أنشأت الصين موانئ ومنشآت عسكرية ومهابط طائرات خاصة في جزر باراسيل وسبراتلي، حيث يوجد بها 27 بؤرة استيطانية على التوالي، عسكرة الصين جزيرة وودي من خلال نشر طائرات مقاتلة وصواريخ كروز ونظام رادار.

ولحماية مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية في المنطقة، تحدت الولايات المتحدة مطالبات الصين الجازمة بالأراضي وجهود استصلاح الأراضي من خلال إجراء FONOPs وتعزيز الدعم لشركاء جنوب شرق آسيا، واستجابة أيضاً لوجود الصين الحازم في الأراضي المتنازع عليها، باعت اليابان سفناً ومعدات عسكرية إلى الفلبين وفيتنام من أجل تحسين قدراتهما الأمنية البحرية وردع العدوان الصيني.

وأعربت الولايات المتحدة، التي تحافظ على مصالح مهمة في ضمان حرية الملاحة وتأمين خطوط الاتصال البحرية – SLOC، عن دعمها لاتفاق بشأن مدونة سلوك ملزمة وتدابير أخرى لبناء الثقة، تهدد مزاعم الصين السفن البحرية والساحلية، وهي ممرات بحرية مهمة تسهل التجارة وحركة القوات البحرية.

للولايات المتحدة دور في منع التصعيد العسكري الناتج عن النزاع الإقليمي، يمكن لمعاهدة الدفاع بين واشنطن ومانيلا أن تجر الولايات المتحدة إلى صراع محتمل بين الصين والفلبين حول احتياطيات الغاز الطبيعي الكبيرة أو مناطق الصيد المربحة في الأراضي المتنازع عليها، قد يؤدي فشل قادة الصين وجنوب شرق آسيا في حل النزاعات بالوسائل الدبلوماسية أيضاً إلى تقويض القوانين الدولية التي تحكم النزاعات البحرية وتشجيع تكديس الأسلحة المزعزع للاستقرار.

تطمح الصين إلى إنهاء مرحلة القطب الواحد على مستويين، الاقتصادي والعسكري؛ على المستوى الاقتصادي، تحقق الصين نجاحاً أسرع وأوسع من العسكري، الآن هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وقريباً ستكون الاقتصاد رقم واحد، وستحل الولايات المتحدة في المرتبة الثانية. لكن على المستوى العسكري، لا تزال الصين بعيدة عن مستوى الولايات المتحدة، وحتى أنها تصنف على أنها أقل دولة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن في الرؤوس النووية.

تحاول الصين تطوير قدراتها العسكرية والأمنية وإنما بسرية تامة، المعنى أن دوائر الاستخبارات العالمية لا تعرف بالضبط ماذا لدى الصين من قوة ردع، ولا تعلم جيداً عن التطورات العلمية والتقنية التي أحرزتها، ولهذا تخشى هذه الدوائر المفاجآت. ومن المعروف أن الصين تملك جيشاً ضخماً يقدر بأكثر من 2 مليون جندي يقبضون على آلاف الدبابات والطائرات المقاتلة، وقوة بحرية تقدر بحوالي 700 قطعة.

يجمع الخبراء كما تجمع أوساط الاستخبارات الغربية أن الصين أنجزت خطوات كبيرة وواسعة نحو تطوير قدراتها النووية وكذلك في مجال الأسلحة التقليدية، لكنها لم تطور من الأسلحة ما يضاهي الدبابات والطائرات الأمريكية. وفي المجال الصاروخي طورت الصين صاروخاً عابراً للقارات يبلغ مداه حوالي 10 آلاف كلم وقادر على إصابة أي هدف في الولايات المتحدة، هذا الصاروخ متعدد الرؤوس النووية، ويضرب عدة أهداف في آن واحد، مشكلة الصين فيما يتعلق بالمجال النووي أن عدد الرؤوس النووية لديها قليل جداً، وفق التقديرات، بالمقارنة مع ما تملكه روسيا والولايات المتحدة.

فرضت الولايات المتحدة على الصين تحديات تسليحية كثيرة كما فرضت على روسيا، أمريكا تسلح الفضاء، وتقيم دروعاً صاروخية في عدد من دول العالم بهدف محاصرة مناطق المنافسة على الساحة الدولية. الصين تشكل المنافس الأقوى والأكثر صمتاً، بينما تشكل روسيا المنافس الثاني على الرغم من قدراتها النووية الهائلة.

هل من صدام بين الصين والولايات المتحدة؟

من المعروف أن الدول النووية لا تدخل في حروب بينية، وتكتفي عادة بحروب بالوكالة، الدول النووية تمتلك الردع المتبادل وكل دولة نووية مصابة بالرعب من الدول النووية الأخرى، ولهذا ليس من المتوقع أن تحشد الصين أو أمريكا قدرتها النووية استعداداً للمواجهة، إنما تبقى المخاوف قائمة، والانتباه مهم جداً حتى لا تؤدي استفزازات الولايات المتحدة فوق بحر الصين وعلى مياهه إلى صدام غير مخطط له فتنزلق الدولتان في مواجهة خاسرة لهما، تنبع مخاوف الصدام بين البلدين من الاعتبارات التالية:

أولاً، من الوارد جداً ودائماً أن تقوم الصين بالرد على استفزازات أمريكا فتحرك بعض قطعها البحرية وبعض طائراتها للتصدي قد يتطور إلى ما لا يحمد عقباه.
ثانياً، من المحتمل أن تستخف الصين بالفلبين فتعمل على محاصرة مختلف نشاطاتها في بحر الصين أو منعها تماماً، هذا سيقود الفلبين إلى الاستنجاد بالولايات المتحدة على أرضية الاتفاقيات الموقعة بينهما. عندها ستكون أمريكا أمام خيارين؛ إما أن تقف إلى جانب الفلبين وتتخذ إجراءات ضد الصين، أو تتجاهل الأمر فتفقد صدقيتها أمام أصدقائها في شرق آسيا ومختلف بقاع الأرض، وفي الغالب ستقف أمريكا مع حليفها بطريقة لا ترفع من منسوب التوتر إلى درجة حرب شاملة.
ثالثاً، ما ينطبق على الفلبين ينطبق إلى درجة أقل على فيتنام المهددة أيضاً من قبل الاستحواذ الصيني على البحر.

ما حجة الصين؟

حجة الصين في الاستحواذ على بحر الصين الجنوبي أنه طالما تركزت نشاطاتها التقليدية في البحر بدون منازع تجوب أرجائه بما تراه مناسباً، أي أنه جزء من الحياة الثقافية والاجتماعية والتاريخية لها. ومن الصعب القبول بحجة كهذه بخاصة أنه لا توجد للصين جزر منتشرة في البحر ومأهولة بالسكان حتى على النتوءات الصخرية التي تحاول استغلالها للتبرير.

ترفض دول شرق آسيا حجة الصين وتقول إن بحر الصين الجنوبي مياه دولية وتنطبق القوانين الدولية عليها كما غيرها من المياه، وبناء على ذلك لجأت الفلبين إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، وقررت المحكمة أن ادعاءات الصين باطلة، وأن للفلبين حقاً قانونياً مؤكداً للنشاط في البحر سواء في صيد السمك أو تحريك قطع عسكرية. ولكن الصين رفضت قرار المحكمة فور صدوره، وأكدت أنها لن تحترمه، قرار المحكمة يشكل انتكاسة للصين، وهو سيضعف موقفها الدبلوماسي على المستوى العالمي، لكن لا يوجد قوة تنفذ القرار، القوانين الدولية لا تنفذ إلا إذا كانت لصالح الأقوياء أو يؤيدها الأقوياء، ليس من المتوقع أن تتحرك الفلبين لتنفيذ القرار لأنها هي الطرف الأضعف.

بحر الصين الجنوبي وإدارة بايدن

أبحرت سفينة حربية تابعة للبحرية الأمريكية عبر جزر تطالب بها الصين في بحر الصين الجنوبي في ثاني إبحار من هذا النوع خلال عدة أسابيع، حيث عززت إدارة الرئيس بايدن الوجود العسكري الأمريكي في المياه المتنازع عليها. فيما يسمى بعملية حرية الملاحة، كانت مدمرة الصواريخ الموجهة USS Russell تبحر على بعد 12 ميلاً بحرياً من جزر سبراتلي في الجزء الجنوبي من الممر المائي الذي تبلغ مساحته 1.3 مليون ميل مربع، والذي تدعي الصين جميعاً أنه أراضيها السيادية.

وتأتي عمليات البحرية الأمريكية بعد أن وصف الرئيس بايدن الصين بأنها أخطر منافس للولايات المتحدة وحدد خططاً لمواجهة هجوم بكين على حقوق الإنسان والملكية الفكرية والحوكمة العالمية، وقال بايدن أيضاً إن واشنطن في منافسة شديدة مع الصين. ومنذ توليه منصبه في 20 يناير/كانون الثاني 2021، أعادت إدارة بايدن تأكيد التزامها تجاه حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في المنطقة، وعلى وجه التحديد السماح للفلبين واليابان بمعرفة أن جزرهما التي تطالب بها الصين أيضاً مشمولة بمعاهدات الدفاع المشترك التي تُلزم واشنطن بالدفاع عنها، وتزعم الصين أن العمليات البحرية الأمريكية في بحر الصين الجنوبي تؤجج التوترات وتنتهك سيادتها.

وفي نفس السياق، ذكر تقرير على الموقع الإنجليزي الرسمي لجيش التحرير الشعبي الصيني أن القوات البحرية والجوية لجيش التحرير الشعبي تتبعت المدمرة الأمريكية وحذرتها، وقال التقرير إن السفينة الحربية التي انتهكت الأراضي الصينية انتهكت بشكل خطير سيادة الصين وأمنها، وقوضت بشكل خطير السلام والاستقرار الإقليميين.

تنتقد الصين بانتظام النشاط العسكري الأمريكي في المنطقة، قائلة إن مثل هذه الأعمال لا تفضي إلى السلام والاستقرار في المنطقة، تجري البحرية الأمريكية بانتظام ما تسميه عمليات حرية الملاحة على متن السفن بالقرب من بعض الجزر التي تحتلها الصين، وتؤكد حرية الوصول إلى الممرات المائية الدولية، وفقاً لحكم لاهاي لعام 2016، جددت قيادة المحيط الهادئ الأمريكية تعهدها بمواصلة العمليات في المنطقة، حيث حافظت على تحالفات عسكرية طويلة الأمد مع جيران الصين.

خاتمة

الصين ليست معنية بخوض حروب واستنزاف طاقاتها وقدراتها العلمية والتقنية بخاصة أن خسائرها المادية والمعنوية في حرب تشارك فيها الولايات المتحدة ستكون هائلة، كما أن الولايات المتحدة ليست معنية بحرب حتى لو كانت بالوكالة، الشعب الأمريكي ملّ الحروب، وهو يريد أن يشعر بالاستقرار والهدوء والتفرغ لإصلاح البيت الداخلي، وإذا كانت الدولتان الكبيرتان غير معنيتين بالحروب فإن الدول الأقل حجماً وقوة ليست معنية أيضاً، سنسمع تهديدات في وسائل الإعلام صادرة عن كل الأطراف، لكن طاولة الحوار ستكون مستقر الجميع في النهاية.

فالسيناريو المتوقع لقضية بحر الصين الجنوبي في ظل إدارة الرئيس بايدن هو سيناريو الواقع القائم، أي استمرار الحال على ما هي عليه بين دول هذا البحر من خلال تمسّك كلّ منها بالنطاقات البحرية التي تهمين عليها، مع استمرار المساعي الدبلوماسية لإقناع الصين بالرضوخ لمبادئ القانون الدولي.

المصدر: المركز العربي الديمقراطي.

مصدر الصور: موقع 24 الإماراتي – الحرة.

موضوع ذا صلة: بحر الصين الجنوبي.. حلبة صراع لن تنتهي

د. إسلام عيادي

أستاذ مساعد في الجامعة العربية الأمريكية – باحثة في الشؤون الصينية