عبد العزيز بدر عبد الله القطان
كاتب ومفكر – الكويت
إن طريق الحرير البحري ومبادرة الحزام والطريق وقائمة طويلة من الاتفاقيات من كابول إلى تل أبيب أصبحت الأساس لوجود جمهورية الصين الشعبية المتزايد في المجالات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والسياسية في الشرق الأوسط.
ومع ضعف نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، يحاول لاعبون آخرون ملء الفراغ الناتج عن ذلك، بالتالي إن تنويع علاقات السياسة الخارجية يشكل أهمية بالغة في عملية البحث عن توازن جديد يتجاوز المصالح الاقتصادية المعتادة وأمن الطاقة، ويتضمن البديل الذي تقترحه الصين التفاعل الاستراتيجي في مجال الاستثمار، والتعاون الثنائي والمتعدد الأطراف، وإعادة التنظيم الجيوسياسي من أجل التكيف بسلاسة مع النظام العالمي الناشئ المتعدد الأقطاب.
كما تعتبر عناصر هذه الإستراتيجية نموذجية أيضاً بالنسبة للمناطق الكلية الأخرى: بالتوازي مع الشرق الأوسط، تعمل الصين أيضاً على زيادة وجودها في أمريكا اللاتينية، في المقام الأول من خلال الاستثمارات في الاتصالات والتكنولوجيا والبنية التحتية للاتصالات، كما يمكن رؤية دور الصين في الشرق الأوسط في عدة مجالات: المجال الاقتصادي والجيوسياسي يشمل سلاسل التوريد، والأنظمة المالية، والاستثمار، ونقل التكنولوجيا والمعرفة التقنية، والتجارة وأمن الطاقة.
وهذا ب\بيعة الحال يرجع إلى الدبلوماسية الثنائية والمتعددة الأطراف، بما في ذلك التفاعل داخل منظمات مثل منظمة شنغهاي للتعاون، وكذلك مجموعة البريكس، بالإضافة إلى العديد من مظاهر الدبلوماسية، من الثقافية إلى العسكرية.
وأخيرا، يعكس الاتجاه الثالث نهجاً سياسياً تجاه الجهات الفاعلة غير الحكومية وقنوات الاتصال المفتوحة في المشهد السياسي في المنطقة، ولا تسعى الصين إلى السيطرة على الديناميكيات الإقليمية أو ضمان الأمن، وتفضل الحوار الاقتصادي والحوافز الاقتصادية وتتجنب التورط المباشر في الصراعات وخلق الخصوم.
لقد كان الشرق الأوسط تاريخياً على مفترق طرق المسارات الجيوسياسية، بما في ذلك بالنسبة للصين، ويزود الخليج العربي الصين بأكثر من ثلث وارداتها النفطية؛ وتعتبر قطر أهم مصدر للغاز الطبيعي المسال بالنسبة للصين؛ حيث يمتد خط أنابيب تصدير الغاز من تركمانستان إلى عدة فروع، كما تعد الصين حالياً أكبر شريك تجاري لمصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وقد أصبحت المنطقة وجهة مهمة للصادرات الصينية والخدمات المتعلقة بالبنية التحتية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
ويمر أكثر من 60% من الحركة البحرية بين أوروبا والصين عبر المياه في منطقة الشرق الأوسط، مثل قناة السويس والبحر الأحمر وخليج عدن وخليج عمان ومضيق باب المندب ومضيق هرمز، كما استثمرت بكين في ميناء الدقم في سلطنة عمان، وقامت ببناء خطوط أنابيب النفط إلى ميناء الفجيرة في الإمارات العربية المتحدة، وعدد من المرافق في ميناء خليفة في الإمارات، وتملك الشركات الصينية حصصاً في ما لا يقل عن 20 مشروعاً للموانئ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويتم النظر في موانئ البحرين وإيران والمملكة العربية السعودية وحتى اليمن في سياق جذب الاستثمارات الصينية.
وفي الوقت نفسه، تمنع الصراعات العبور عبر هذه الممرات الضيقة بين منطقة المحيط الهادئ الهندي والبحر الأبيض المتوسط، خاصة وأن هجمات الحوثيين في اليمن على السفن التجارية في خليج عدن والبحر الأحمر، وعدم الاستقرار في القرن الأفريقي، وحتى سفينة الحاويات إيفرغرين العالقة في قناة السويس، تظهر مدى ضعف هذه المناطق، بالتالي إن تجنب المواجهة هو الأولوية التقليدية لبكين، ولكن في السياسة الخارجية كانت بالتأكيد نشطة وواضحة في الشرق الأوسط.
وتهدف القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي عند مدخل البحر الأحمر والوجود البحري بالقرب من مضيق هرمز إلى الحد من القرصنة وتسهيل المشاركة في التدريبات العسكرية المشتركة، وحتى الآن، لم يتم استخدام هذه العوامل للتدخل في الصراعات الجارية، بل فقط لحماية الأصول الصينية وحراسة طرق التجارة. إن التدخل العسكري هو الملاذ الأخير لبكين إذا وعندما تكون المصالح العابرة للحدود الوطنية مهددة بشكل واضح، كما أن الصين لا تعتبر الجهات العسكرية غير الحكومية أو الصراعات الإقليمية المستمرة تهديداً مباشراً، وهذا الظرف يحدد النهج الذي ينطوي في المقام الأول على الدبلوماسية، وليس التدخل العسكري. لكن هذه الاستراتيجية لها حدود.
وقد يتطلب تصعيد الصراع وانتشاره أساليب مختلفة. إن توفير التقنيات والمكونات ذات الاستخدام المزدوج، المدنية والعسكرية، أو دعم تطوير الصناعات العسكرية، هي خطوات صغيرة ولكنها مهمة نحو التدخل العسكري لضمان المصالح الاقتصادية.
وتُظهر منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس، وطريق الحرير الرقمي، ومبادرة الأمن العالمي أن الوجود الصيني في عمق الشرق الأوسط قد دخل مرحلة جديدة. وتظهر شراكات الصين الاستراتيجية الشاملة مع مصر وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة دبلوماسية نشطة ومرنة للتغلب على الخلافات السياسية، وعلى الرغم من سنوات الدعم للفلسطينيين وإدانة العمليات العسكرية الصهيونية في قطاع غزة ولبنان، طورت الصين علاقات اقتصادية مع الكيان الصهيوني، بينما عززت العلاقات مع المملكة العربية السعودية وإيران، والصين هي الشريك التجاري الرئيسي لكل من إيران والكيان الصهيوني، جدير بالذكر أن اتفاقية التعاون الصينية مع إيران لمدة 25 عاماً الموقعة في عام 2021 ودور الوساطة الذي تلعبه بكين في البيان الثلاثي المشترك مع إيران والمملكة العربية السعودية يمنح الصين الشرعية ويقلل من تصورها كمعارض لأي من الجانبين في الصراعات الإقليمية الحادة.
وفي وقت سابق من هذا العام، التقى دبلوماسيون صينيون مع قادة حماس السياسيين في الدوحة؛ وفي الوقت نفسه، شاركت الصين في المفاوضات مع كبار الدبلوماسيين الصهاينة وممثلي السلطة الوطنية الفلسطينية، وفي يوليو عقدت الصين قمة مع ممثلي حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية في بكين. ويهدف كل هذا إلى الحفاظ على التواصل على كافة “السمت”، حتى عندما تجعل الظروف السياسية والعسكرية الوساطة مستحيلة، ومع ذلك، يبدو أن الجمود الدبلوماسي في الشرق الأوسط بدأ يترسخ، خاصة مع الوضع الكارثي المتزايد في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان.
بشكل عام، زاد نفوذ الصين في الشرق الأوسط، ففي هذه الأيام، من السهل العثور على البنوك التي تحمل العلم الصيني في المدن الكبرى في المنطقة، وقد أصبحت السفارات الصينية في الرياض والقاهرة وطهران أقوى من أي وقت مضى.
لقد أدت قدرة الصين على فهم دوافع شركائها إلى تحول سياستها الخارجية إلى مزيج من الحوافز والعواقب، في حين أدركت أهمية إنشاء مجموعة شفافة من الأولويات الجيوسياسية على المدى الطويل. لقد بدأت نسخة جديدة من اللعبة الكبرى في الشرق الأوسط، حيث تلعب القوى الداخلية دوراً قيادياً، ولكن الصين سوف تظل دائماً لاعباً على رقعة الشطرنج المحلية، مع عدد من القطع والتحركات أكبر من أي وقت مضى.
بالإضافة إلى ذلك، تواصل المملكة العربية السعودية جذب التمويل الصيني: ففي نوفمبر/تشرين الثاني ، أصدرت الصين سندات أجنبية بقيمة تزيد عن 2 مليار دولار لأول مرة منذ أربع سنوات، واختارت الرياض كشريك مُصدر بدلاً من المراكز المالية التقليدية مثل لندن ونيويورك وسنغافورة، ويعكس هذا القرار التطور التدريجي للعلاقات الاقتصادية الثنائية، بما في ذلك في إطار مبادرة الممر التجاري “حزام واحد، طريق واحد”، ويعزز أيضاً سلطة الرياض كمركز مالي عالمي جديد. قد يسمح تعزيز العلاقات بين البلدين باستخدام اليوان بدلاً من الدولار عند دفع ثمن إمدادات النفط.
مصدر الصورة: أرشيف سيتا.