شادي القعسماني*

منذ عدة أعوام، لم تشهد تركيا مثل هذه الأزمة الداخلية والخارجية، ربما يعود السبب إلى تدخلاتها في سوريا، على خلفية أطماع مسبقة التبلور في العقل التركي الحاكم وفائض التراكمات السياسية في لعب دور المشغِّل لأهواء الدول المعادية لدمشق، هذا من جهة

ومن جهة أخرى، يعود السبب إلى طريقة تعاطي أنقرة مع دول الجوار والمحيط إبتداءً من الدول الأقرب، وصولاً إلى ليبيا، التي تعاني تفككاً ناتجاً عن تدخلات خارجية وفقدان الوعي الذاتي الدافع إلى الإنتظام العام.

لم يتوانَ النظام في تركيا عن زجّ المزيد من القوات العسكرية إلى الشمال السوري، وإيجاد معابر جديدة للدخول إلى إدلب وأريافها، الخاضعة لسيطرة التنظيمات الإرهابية، ولم يتبين بعد كل الأسباب إلى هذا الدخول. ولكن يمكن الإشارة إلى عدة نقاط أبرزها التالي:

– شكَّل تسارع انهيار التنظيمات الإرهابية، في أرياف حلب، أمراً ضاغطاً جديداً؛ فبعد فشل الإلتزام التركي، ضمن جولات “أستانا” و”إسطنبول”، لوقف دعم هذه المجموعات وتصنيفها وإلزامها بوقف القتال والإعتداء على المدنيين في حلب، اندفع الجيش السوري بقوة لتحرير عشرات القرى والمساحات الزراعية الهامة.

– بدا واضحاً في الداخل التركي، ومنذ الإنتخابات الأخيرة، أن الهوة تكبر بين حزب الرئيس، رجب طيب أردوغان، والمعارضة، التي بدأت تتشكل. فقبل عامين من الإنتخابات الجديدة 2023، تمكنت هذه القوى من انتزاع مدن كبيرة ووازنة. وبالتالي، سعى النظام إلى موجة جديدة من عملية كم الأفواه، وإقفال الصحف المعارضة، التي بدأت انتقاداتها على خلفية الإستمرار في التدخل العسكري في شمال سوريا رغم انكفاء دول كثيرة في دعم هذه المجموعات المقاتلة. هذه القوى التركية أبدت نشاطاً جدياً للخروج من “العباءة الأردوغانية” نحو تشكل قوى سياسية جديدة، إذ يعتبر ذلك انكشافاً داخلياً تركياً لما تقوم به حكومة الرئيس أردوغان.

– فشل تركيا في الضغط على الإتحاد الأوروبي دفعها إلى فتح ملف ليبيا لمعاودة الضغط من بوابة جديدة، هذا من جهة، وتأمين خروج آلاف المقاتلين المصريين الموالين للفكر الإخواني، من جهة ثانية، مما يعني أن تركيا فشلت في خلق حزام موالٍ لها على الأراضي السورية، وربما يعود أحد أسباب دخول الجيش التركي إلى منع فرار المسلحين إلى داخلها على اعتبار أنها ملاذ عقائدي آمن.

– أبرز أوراق التوت التركية المتساقطة كان دخولها على خط الإشتباك المباشر في إدلب من خلال زج عشرات المدرعات إلى الأرياف، واستحداث نقاط جديدة، رغم تكرار الموقف الروسي وعلى لسان وزير الخارجية، سيرغي لافروف، في كثير من الأروقة الدولية وإتهام الجانب التركي، وبشكل علني، أنه يسهل دخول السلاح ويحرِّض على استمرار القتال ضد الجيش السوري. ولم يكن آخر موقف دخول الطائرات الروسية بشكل مباشر في إنذار الأرتال التركية وقصف محيطها، مما يعني أن روسيا لن تتراجع عن هدف مشترك وضعته مع الدولة السورية وهو إخراج القوات العسكرية غير الشرعية من الشمال السوري دون استثناء وصولاً إلى القوات الأمريكية عبر احتكاك دورية روسية بالقوات الأمريكية.

– إن تزامن الدخول التركي في الشمال مع غارات للعدو الإسرائيلي على محيط دمشق كشف حجم التنسيق بين الإعتدائين وضعف القرار التركي وارتباطه بأطماع الرئيس أردوغان الإحتلالية والإستماتة في الإحتفاظ بإدلب، قابله امتناع حلف الناتو عن تبني موقف مساند لـ “التهور التركي”، إذا كل ما ترغب به الدول الأوروبية هو منع إعادة مواطنيها من “الإنغماسين”، المتواجدين في شمال سوريا والساحل الليبي إليها؛ بالتالي، هي توظف هذا الدخول في تحديد وجهة هذه العودة، بل تفضل بقائهم بدائرة القتل في إدلب.

– يهدف الدخول التركي المباشر إلى إرغام الحليف الروسي للجلوس إلى طاولة مفاوضات جديدة حول إدلب يكون لتركيا فيها دور عبر إملاء القرارات وليس الإلتزام بما يقرر، لكن يبدو أن الرهان بات فاشلاً بعد إصرار الجيش السوري، ومعه الطيران الروسي، في دك طرق الإمداد ومخازن الأسلحة ومعاقل الفصائل في إدلب وأريافها وإصابة الأرتال التركية ومحاصرة نقاط تمركزها. عسكرياً، تدرك روسيا خطورة الهجمات على قاعدة “حميميم”، إضافة إلى الأسلحة النوعية التي تم تزويد التنظيمات الإرهابية بها والتي تشكل خطراً حقيقياً على جهود الجيش السوري والقوات الرديفة، إضافة إلى انتشار أسلحة غير تقليدية، كالصواريخ المضادة للطيران والطائرات المسيرة التي تشكل تهديداً يصل إلى مناطق تعد آمنة نوعاً ما.

– من الواضح أيضاً أن المشهد التركي مربك، فإدارة أزمة النازحين السوريين وفرار المقاتلين من فوه البركان، وفتور العلاقة مع روسيا وتسارع من وتيرة القتال في أرياف إدلب، كما أن خروج الرئيس السوري، بشار الأسد، بخطاب متلفز بعد تحرير ما تبقى من حلب معتبراً أن الكلام التركي عن الشمال مجرد “فقاعات إعلامية”، فالحكومة السورية ترجمت عودة حلب إلى الإنتظام من خلال صرف ميزانية ضخمة لإعادة الشريان الحيوي لتغذية الجسم السوري الذي بدأ يتلمس تعافٍ ملحوظ. فبادرة إعادة تشغيل مطار حلب الدولي كانت تعبيراً صادقاً عن سقوط أوراق التوت التركية في الشمال السوري، كما أن القمة الرباعية، إذا كتب لها أن تعقد في إسطنبول، لن تكون نتائجها على تركيا أكثر من فقاعة إعلامية أو ورقة توت مؤقتة.

*كاتب وباحث لبناني.

مصدر الصور: نداء سوريا – جريدة النهار.

موضوع ذا صلة:  إدلب.. “أم المعارك”