قضى جيش ميانمار على عشر سنوات ومناسبتين انتخابيتين ناجحين للتقدم الديمقراطي باحتجاز أونغ سان سو تشي والمسؤولين المنتخبين ديمقراطياً. إذن لماذا قرر الجيش الاستيلاء على السلطة الآن؟ وهل يقدم الانقلاب فرصة ذهبية للصين لإعادة تأكيد نفوذها في يانغون على حساب علاقات اليابان التي نمت بعناية مع القادة المدنيين والعسكريين في ميانمار؟
انقلاب مخطط له بدقة
في 1 فبراير/شباط 2021، شهد المجتمع الدولي انتكاسة مروعة للديمقراطية في ميانمار. بدعوى حدوث تزوير واسع النطاق في الانتخابات العامة، نوفمبر/تشرين الثاني 2020. وقام على إثرها جيش ميانمار، أو “تاتماداو” كما يطلق عليه، باحتجاز مستشارة الدولة أونغ سان سو تشي وكبار وزراء الحكومة، وأعلن حالة الطوارئ لمدة عام، مستنداً إلى المادة 418 من الدستور لنقل كل من السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية والقضائية للقائد العام لخدمات الدفاع، الجنرال مين أونغ هلينغ.
وحطم الجيش عملية التحول الديمقراطي الهشة التي استمرت 10 سنوات في ميانمار، بإلغائه نتائج الانتخابات العامة، نوفمبر/تشرين الثاني 2020 ومنعه أعضاء مجلس النواب الجديد من أداء اليمين، بالإضافة إلى حظر الإنترنت ووضع البث تحت السيطرة العسكرية في غضون يوم واحد. ويبدو أن الانقلاب قد تم التخطيط له بدقة ومن المحتمل أن ينذر بفترة ممتدة من السيطرة العسكرية، بالتزامن مع أنباء عن إجراء انتخابات جديدة بعد عام من الآن، تحت إشراف عسكري.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، خرج أكثر من 70% من الناخبين المسجلين في ميانمار لتحقيق فوز ساحق للرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية الحاكمة بزعامة أونغ سان سو تشي. وحصلت “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية”، في الانتخابات التي وقعت في منتصف أزمة كورونا، على أكثر من 80% من المقاعد المتاحة في مجلسي النواب. وقام الجيش بسحق عنيف لإرادة شعب ميانمار وتجاهل حكم فرق المراقبة الدولية، ومن ضمنها المراقبون اليابانيون، بأن الانتخابات كانت نزيهة وشرعية، مدعياً حدوث مخالفات متعلقة بتسجيل أكثر من 10 ملايين ناخب، أي خُمس السكان.
الصين تنأى بنفسها عن الإدانة العالمية
قد تؤدي خطوة الجيش تلك إلى حلقة مفرغة من المظاهرات الجماهيرية والقمع الدموي، بالإضافة إلى تأثير كبير على العلاقات الدولية. فبالإضافة لامتلاك البلاد موارد بشرية، متمثلة في 54 مليون شخص ووفرة مواردها الطبيعية، تحتل ميانمار موقع جيو – سياسي هام بشكل محوري في آسيا، على الحدود مع تايلاند والهند والصين. لذا فقد كثف كل من اليابان والصين التنافس بينهما على النفوذ الدبلوماسي في يانغون، نظراً لأن ميانمار لديها القدرة على أن تكون قوة إقليمية مؤثرة للغاية.
وإذا قام الجيش بإطالة أمد وتعميق قبضته على السلطة، فيجب الانتباه إلى موقع الصين، نظراً لرغبتها الواضحة منذ فترة طويلة في تعزيز نفوذها في ميانمار. فبينما سارعت الدول الغربية واليابان إلى إدانة الجيش، تبنت الصين موقفاً محايداً حذراً، وأعربت عن أملها في “الاستقرار الاجتماعي والسياسي وحل الخلافات”.
ربما يكون من المحتم أن يفرض الغرب عقوبات على ميانمار، خاصة وأن حكومة ميانمار والجيش قد عزلوا بالفعل مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية بسبب انتقادهم لتفاقم الأزمة الإنسانية للروهينغا. ومع ذلك، فكلما طالت فترة عزلة ميانمار عن المجتمع الدولي، زاد احتمال أن تملأ الصين أي فراغ استراتيجي.
رياح ناتجة عن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية
يعد توسيع نفوذ الصين إلى جنوب شرق آسيا أهمية بارزة في إطار ريادة الصين للمشاركة الاقتصادية الدولية، والمتمثلة مبادرة “الحزام والطريق”. ونظرًا لأن صادرات الغاز الطبيعي والنفط الخام من الشرق الأوسط تدعم الاقتصاد الصيني الهائل الآن، فإن الهدف غير المعلن لمبادرة “الحزام والطريق” هو إنشاء طرق نقل بديلة للتخفيف من تأثير أي قطع لشريان الحياة للطاقة الصيني الذي يمتد حالياً من المحيط الهندي عبر بحر الصين الجنوبي.
ويعمل كلا البلدين، الصين وميانمار، حالياً على تطوير خطط للبنية التحتية للسكك الحديدية الموازية، لتكملة لأنابيب النفط والغاز التي تم الانتهاء منها بالفعل والتي تربط المحيط الهندي بجنوب الصين عبر ميناء كياوكبيو في ميانمار في ولاية راخين، كما سيمكن استئناف مشروع سد ميتسوني المثير للجدل الذي تم الاتفاق عليه في الأصل بين الجيش والصين خلال فترة الحكم العسكري السابقة في ميانمار.
وكان قد تم التخطيط للمشروع في الأصل لسد الروافد العليا لنهر إيراوادي لتزويد المقاطعات الجنوبية الصينية بالكهرباء، لكن المعارضة الشعبية الشرسة دفعت الحكومة إلى إلغاء المشروع مع بدء ميانمار في التحول إلى الديمقراطية. ومع مرور الوقت، تم تكوين روابط عميقة بين أعضاء الجيش والصين من خلال مشاريع المصالح المشتركة المماثلة.
موقف اليابان المتأزم
على الرغم من الصلات مع الصين، إلا أن النوايا الحسنة تجاه اليابان داخل جيش ميانمار لا تزال قائمة بسبب الأصول التاريخية للجيش وارتباطها بالجيش الياباني قبل الحرب. كما التقى ساساكاوا يوهي، المبعوث الياباني الخاص للمصالحة الوطنية في ميانمار، بانتظام مع زعيم الانقلاب مين أونغ هلينغ قبل الانقلاب. لكن الحقيقة هي أن الحكومة اليابانية لن يكون لديها مجال للمناورة طالما ظل “التاتماداو” في السلطة. ومع تنصيب إدارة جو بايدن وسيطرة الحزب الديمقراطي على الكونغرس في الولايات المتحدة، سيؤدي التركيز الأكبر على حقوق الإنسان إلى اتخاذ الدول الغربية موقفاً متشدداً تجاه ميانمار. ويأزم هذا موقف اليابان، عند دراسة أي رد على أي محاولات صينية لتعزيز نفوذها في البلاد.
وإلى جانب العلاقات الشخصية، حافظت الحكومة اليابانية باستمرار على تقديم مساعدات مميزة لميانمار على الرغم من الانخفاض العام في مدفوعات المساعدة الإنمائية الرسمية اليابانية. وتعد اليابان في الواقع أكبر مانح للمساعدات في ميانمار، حيث تبلغ مساعدات المنح السنوية والقروض الميسرة بالين أكثر من 150 مليار ين ياباني.
لطالما كان تعزيز العلاقات بين اليابان وميانمار محور اهتمام اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن هذه العلاقات اكتسبت مؤخراً أهمية استراتيجية أكبر تمثل من خلال محاولات اليابان لتقييد النفوذ الإقليمي للصين من خلال منع ميانمار من الانحياز بشكل حاسم إلى الصين. وكانت ميانمار، التي أصبحت ديمقراطية، مهمة أيضاً لتحقيق الحكومة اليابانية لاستراتيجيتها الدبلوماسية الحرة والمفتوحة بين الهند والمحيط الهادئ. ولهذا السبب وحده، فإن التحرك المفاجئ وغير المتوقع من قبل الجيش يوجه ضربة قوية لدبلوماسية اليابان الإقليمية.
العداء السياسي المتجذر بعمق في ميانمار
لا يزال من غير الواضح تماماً ماذا كانت الشرارة التي دفعت الجيش للانقلاب، ولكن من المحتمل أن يكون ذلك مرتبطاً بـ “العداء العاطفي” طويل الأمد بين الجيش وأونغ سان سو تشي وأعضاء إدارتها. وقد اشتدت حدة هذه الكراهية مؤخراً فقط عندما سعت “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية” إلى مراجعة الدستور لإزالة النص الخاص بالالتزام بضمان ربع المقاعد البرلمانية المخصصة حالياً للجيش. كما رفضت “الرابطة الوطنية للديمقراطية” طلبات الجيش بإعادة الانتخابات في ولاية راخين بعد إلغاء التصويت هناك خلال الانتخابات العامة، نوفمبر/تشرين الثاني، بسبب التمرد المسلح المستمر.
ويعتبر التعامل مع النزاع المسلح طويل الأمد بين الأقليات العرقية والدولة أكبر تحدٍ مستمر لميانمار. وكانت هناك آمال معلقة على أن وصول سو تشي إلى السلطة، سيكون بمثابة تقدم في المصالحة. لكنها، مع ذلك، لم تشارك باستمرار أو بشكل استباقي في حوار مع القوات المتمردة. وبدلاً من ذلك، يمكن القول إن المصالحة كانت أكثر تقدماً في ظل الحكم العسكري، مما يعني أن عدم الرضا عن حكومتها قد انتشر داخل مجتمعات الأقليات العرقية في ميانمار وكذلك داخل الجيش.
ومع ذلك، فإن الانتصار الساحق الذي حققته “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية”، نوفمبر/تشرين الثاني 2020، يظهر أن الشعبية الواسعة لسو تشي لا تزال غير منقوصة. ومع خسارة الحزب السياسي الأقرب لحزب الجيش في نفس الوقت المزيد من المقاعد، شعر القائد العام للجيش مين أونغ هلينغ وغيره من كبار المسؤولين العسكريين بالحاجة الملحة لتسوية قضية ضعف نفوذهم السياسي المتراجع قبل انعقاد البرلمان.
وبينما يعد التفسير الرسمي للجيش لما قام به، هو أن الانتخابات قد تم تزويرها، فمن المحتمل أن يكون السبب الحقيقي هو أن الاستياء الذي كان يتصاعد حول سو تشي قد انتصر في النهاية. وهكذا تعد جذور الصراع عميقة في ميانمار، وتعد احتمالات الحل ضعيفة على المدى القصير. وكلما طال أمد الاضطرابات في ميانمار، كلما ازداد تأزم موقف اليابان، وسنحت فرص أفضل للصين لزيادة نفوذها.
*صحفي – اليابان
المصدر: اليابان بالعربي.
مصدر الصور: الحرة – إرم نيوز.
موضوع ذا صلة: قصة إنقلاب الجنرالات على زعيمة ميانمار