شفيق شقير*

اغتيل الباحث لقمان سليم بعد أن اختطف (4 فبراير/شباط 2021) في ظروف غامضة، وقد قرأ اللبنانيون العملية في سياقات عدة، كل وفقاً لانتمائه أو موقعه، إلا أن محور النقاش الأهم كان في الطائفة الشيعية نفسها؛ ذلك أن مؤيدين لحزب الله وحركة أمل أيضاً ولكن بدرجة أقل، كانوا يطلقون على سليم ومجموعة من النخبة الشيعية اللبنانية وَسْمَ وعلامة “شيعة السفارة” أي إنهم عملاء للسفارة الأميركية. وهو ما يرفضه هؤلاء بطبيعة الحال، لا سيما أن للوَسْم والعلامة قوة تصنيف للأفراد والمؤسسات والجماعات وحتى الدول، فعندما تُدْمَغ بمضمون معين (مدلول العلامة) من إحدى وكالات المجتمع أو قواه كما في هذه الحالة، يصعب التخلص منه لما يترتب عن الوسم من أبنية اجتماعية وسياسية ونفسية.

وقعت الجريمة في الجنوب حيث معقل حزب الله، وكان سبق لسليم نفسه أن أصدر بياناً، ديسمبر/كانون الأول 2019، يحمل فيه الحزب مسؤولية ما قد يحصل له، بعد أن تهجم “مؤيديون” لحزب الله عليه في بيته الكائن في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهي معقل لحزب الله أيضاً. لذا، وجهت العائلة وأصدقاء لها، وبعض الشخصيات المتهمة بـ “شيعة السفارة” إضافة إلى أخرى سياسية وبحثية وفكرية خاصة من الطائفة الشيعية، الاتهام إلى حزب الله (بوصفه مع حركة أمل قوى الأمر الواقع) باعتباره وراء الاغتيال بشكل مباشر، أو يتحمل مسؤولية غير مباشرة بالتحريض أو الإسقاط المعنوي لهم.

أدان حزب الله الجريمة وحذَّر من الاستغلال الإعلامي لها، لا سيما أنه يعبئ جمهوره بأن كل ما عانى منه لبنان مؤخراً، “استغلال الحراك” وتداعيات الأزمة الاقتصادية وانفجار المرفأ وحوادث القتل وسوى ذلك، يأتي في سياق استهدافه إقليمياً ودولياً.

وبغضِّ النظر عن حقيقة الحادثة ومرتكبها وغاياتها، فإن الحملات الإعلامية المتبادلة تؤكد أن عداءً يتعاظم بين حزب الله وما يمثله، وهذه الشريحة في الطائفة الشيعية. وهو ما يطرح سؤالاً حول ما إذا كان هناك طرف ثالث قيد التشكل في الطائفة الشيعية.

ملامح شيعية ثالثة

هذه الشريحة المعارضة لحزب الله، بوجه خاص، ولحركة أمل، بدرجة أقل نسبياً، محدودة وليس لها بصمات شعبية واضحة، لكنها تضاف إلى شرائح أخرى آخذة في التباين عن الثنائي الشيعي من حين إلى آخر، وأوضحت عدة محطات بعض معالمها، خاصة تلك التي وقعت في سياق تحولات محلية أو إقليمية كبرى، أهمها:

1. “ثورة الأرز” عام 2005، وبعيداً عن الجدال حول حقيقتها وما آلت إليه من انقسام بين قوى 14 آذار و8 آذار: فبقدر ما كانت مناسبة لاصطفاف شيعي إلى جانب سوريا، وفتحت المجال اللبناني أمام تعزز نفوذ الثنائي، حزب الله وحركة أمل، في السلطة اللبنانية، إلا أنها أيضاً أسهمت في ولادة نخبة جديدة معارضة لسوريا أو للثنائي في داخل الطائفة نفسها، وتستند إلى خطاب “وطني” عابر للطوائف، لا سيما أن بعض اليسار، وفيه نخب وشريحة شيعية ولو كانت محدودة، كان قد جنح إلى جانب “ثورة الأرز”، ودفع تكلفة فيها باغتيال بعض رموزه، مثل سمير قصير وجورج حاوي.

2. الحرب السورية (2012)، التي انخرط حزب الله فيها بشعارات مذهبية حتى بدا أن الطائفة الشيعية في حرب مذهبية في سوريا، وعزز ذلك تأييد حركة أمل لها ولو بشكل ملتبس أحياناً. وبغضِّ النظر عن تفاصيل هذه الحرب، فإن نخباً شيعية عارضتها، ورأت أن تدخل الحزب فيها ليس أخلاقياً ولا مصلحة لشيعة لبنان فيها وما هي إلا لحماية نظام من الانهيار، وأنها ستضع “الطائفة في مواجهة السنَّة” بطريقة أو أخرى، وهذا له عواقب سيئة على المسلمين عموماً وعلى الطائفة خصوصاً. فضلاً عن توصيفها لما يجري في سوريا بأنه ثورة مثل بقية الثورات العربية.

وفي خضمِّ هذا الجدال الطويل، استخدم أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، مايو/أيار 2015، وصف “شيعة السفارة” ضد مناهضي حزب الله هؤلاء، فالحزب يرى أن تدخله في سوريا هو ضد التكفيريين وله أسباب موجبة، كما هو لمصلحة “المقاومة” وضد “عملاء أميركا وإسرائيل” في المنطقة، وهكذا دواليك. ومع اتضاح صورة “الثورات العربية” التي جاءت “الثورة السورية” في سياقها، ومع التحولات التي تشهدها الحرب السورية وما ترتب عليها من نتائج، خاصة تلك المتصلة بمصالح القوى الإقليمية والدولية دون المصلحة اللبنانية أو مصلحة الطائفة الشيعية، فإن الجدال حول ذلك يتعزز ولا يبدو أنه سيتوقف.

3. انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وهي المحطة الأعظم، لأنها وضعت الثنائي الشيعي بوصفهما “سلطة طائفية” في مواجهة الحراك اللبناني المطالِب بالتغيير ومحاربة الفساد، وبالتالي في مقابل شريحة شعبية شيعية شاركت في الحراك اللبناني. وهذه الأخيرة كان لها حراك في محاضن محسوبة على الثنائي، في الجنوب والبقاع، فضلاً عن بيروت، وقدمت قيادات شعبية شيعية للحراك ولو تحت عنوان وطني. وقدم حراك الجنوب خياراً و”خطاباً وطنياً” يراعي الجنوب ويقوم على استراتيجية دفاعية وطنية لا تنحصر في فئة دون أخرى لحماية لبنان وجنوبه، واستقلال لبنان عن سياسات الإقليم. وجاء الحراك اللبناني بالتوازي مع الحراك العراقي الذي قام على الطائفة الشيعية بالأساس، وتعرَّض بعض نشطائه للاغتيال ولا يزالون كذلك. وهو ما دفع بعض المعارضين للتحذير من أن يكون مصير بعض النشطاء اللبنانيين وخاصة الشيعة منهم، كمصير أولئك في العراق، لأن الجامع بينهما هو الاختلاف أو الخلاف مع إيران وحلفائها المحليين.

يمكن القول، إن هناك سمات جامعة لهذه الشرائح، تقوم في الأساس على استقلالها عن الثنائي أو على اختلافها معهما وتناقض مصالحها معهما ولو من مواقع مختلفة. فهي تجنح للانسجام مع بقية المكونات اللبنانية، وأولوياتها تتعلق بالداخل اللبناني من “إصلاح” اقتصادي وسياسي والاستقلال عن قوى الإقليم بما يجنب لبنان صراعاته. ومن الواضح أن لدى هذه الشرائح اختلافاً مع الخطاب الديني الذي مركزه إيران، سواء بالعلمنة أو بخطاب ديني محلي، وهي ترفض قطعاً استئثار الثنائي بتمثيل الطائفة في السلطة، في سياق رفضها للصيغة الطائفية اللبنانية بالكامل.

تحديات أمام شيعية ثالثة

هذا الواقع لا يغير من حقيقة أن الطائفة الشيعية أكثر الطوائف تماسكاً بين الطوائف اللبنانية، بسبب المعادلة التي تجمع بين الثنائي بالمجمل، وتقوم على توزيع الأدوار بينهما سواء بإذعان أحدهما للآخر بتنافس مضبوط أو بالتراضي، وهو الذي حقق مصالح الطرفين، هذا من جهة، وعزز مكانة الطائفة في النظام اللبناني من جهة أخرى، ليستقر بذلك الأمر لهما.

وإذا كانت التطورات السياسية أسهمت، ولا تزال، في صياغة طرف شيعي ثالث مكون من عدة شرائح تجمع بينها سمات مشتركة، وله صوت عابر للطوائف ومسموع لبنانياً وإقليمياً ولو بتواضع، فإن تحوله لطرف سياسي مؤثر في طائفته لم يتحقق بعد، وهناك تحديات دونه وشروط لتساعد على تحققه، منها أن تتبلور صورة معادلة تجمع سياسياً بين أغلب الشرائح المستقلة عن سُلطة الثنائي والمتضررة منها، وهذا ليس سهلاً لأن الصراعات في البيئة السياسية اللبنانية ليست نزاعاً على “الطائفة” فقط، بل هي نزاع بين “الطوائف” وبين اتجاهات “إيديولوجية” و”سياسية” وبشروط إقليمية ودولية أحياناً. كما أن انهيار الدولة اللبنانية، يجعل أولوية بعض هذه الشرائح، لا سيما الأكثر أهمية منها، جزءاً من معركة أوسع إلى جانب بقية المكونات اللبنانية، ضد الفساد و”طبقة الأحزاب الحاكمة”. في حين أن هذه الأخيرة رغم كل تناقضاتها قد تكون مصلحتها أحياناً، منع ظهور أي فاعلين جدد في الطائفة الشيعية كي تمنع ظهور غيرها في طوائفها.

ومن التحديات أيضاً، صعوبة أن يحظى الطرف الثالث بقبول شعبي ولو نسبياً، وذلك في طائفة يغلب عليها المحافظة أو التدين، وأحياناً بمرجعية وسمات في أغلبها إقليمية، ولديها رواية ورؤية مذهبية وطائفية لمصالحها ومستقبلها، ولا تزال ترى، في معظمها، مصالحها الأساسية من خلال هذا المنظور. وهي جزء من معادلة إقليمية حيث تجتمع دول إقليمية (خاصة إيران وسوريا) على دعم قيادة الثنائي. في حين يغلب على الشرائح المعارضة للثنائي ثقافة مختلفة، سواء في علاقتها مع الدين أو الطائفة أو الدولة، وليس لها دولة عمق إقليمية أو دولية، ولا يزال تأثيرها الثقافي والفكري والسياسي محدوداً لدى الجمهور الشيعي.

ورغم أنه بالإمكان تعداد تحديات عدة تمنع من تبلور شيعية ثالثة منظمة سياسياً ومؤثرة جداً ومستقرة في الطائفة الشيعية، إلا أنه يمكن التسليم بأن هناك شرائح معارضة، لا شيء يمنع أن تؤثر في سلوك الجمهور الشيعي أو حتى سلوك الثنائي أو أحدهما، في مسائل أو اتجاهات سياسية محددة، على الأقل تلك التي تنطوي على بعض العدالة أو ملحة للجمهور، دون أن تكون بديلاً عن الثنائي أو طرفاً ثالثاً منظماً سياسياً، وهو ما حصل في محطات سابقة مثل رفض الفساد والمحسوبية، وزيادة المناعة الوطنية وتقديم بعض المصالح المحلية على الإقليمية وما يشبه ذلك.

خاتمة

نظرياً، إن أي تراجع في علاقة الثنائي بعضهما ببعض، أو تراجع أحدهما سيعطي فرصة للطرف الثالث ولو كان شرائح متعددة، كي يعزز من حضوره. كما أن التطورات التي يسلكها الوضع اللبناني، من الأزمة الاقتصادية وتداعيات انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول، والتحولات الإقليمية، قد تفتح مساحات جديدة لحضور قوى جديدة في كل الطوائف اللبنانية ومنها الشيعية، خاصة أن الوعود التي قدمتها هذه الطبقة بعيدة التحقق كما أن منجزاتها قد تتآكل ويتراجع رصيدها ضحية لصراعات الإقليم أو كتنازل لتحقيق الاستقرار فيه، وحينها ستتغير العلاقات بين القوى في كل طائفة من طوائف لبنان، وعلى رأسها الطائفة الشيعية. وإلى ذاك الحين، يمكن القول “إن هناك حالة جديدة في الطائفة الشيعية هي أقرب لقوى نقد ومراجعة لسلوك الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل”.

*باحث في مركز الجزيرة للدراسات متخصص في المشرق العربي والحركات الإسلامية

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات.

مصدر الصور: صحيفة العرب.

موضوع ذا صلة: تحديات حزب الله ومستقبله في المنطقة