سلّط قرار إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، نشر تقرير الاستخبارات الأمريكية بشأن جريمة قتل الصحفي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، في قنصلية بلده في إسطنبول العام 2018، الضوءَ مجدداً على العلاقات الأمريكية – السعودية واتجاهاتها المستقبلية.(1) وفرضت وزارة الخارجية الأمريكية عقوبات على 76 مسؤولاً سعوديّاً، من بينهم المتورطون في مقتل خاشقجي وآخرون بسبب تهديدهم لمعارضين سعوديين في الخارج، تتضمن قيوداً على منحهم تأشيرات.(2) كما فرضت وزارة الخزانة عقوبات إضافية على بعضهم.
ويؤشر قرار إدارة بايدن السماح بنشر التقرير إلى انتهاجها مقاربة مختلفة في التعامل مع السعودية عن المقاربة التي اتبعتها إدارة دونالد ترامب. فقد رفض ترامب قراراً أصدره الكونغرس العام 2019 يُلزم إدارته بنشر التقرير بموجب قانون “ماغنيتسكي” الذي يُخوّل الولايات المتحدة فرض عقوبات على مسؤولين أجانب، إذا ما قاموا بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.(3) وتؤكد الإدارة الأمريكية الحالية عزمها على “إعادة ضبط” العلاقات بين البلدين. ويتركز النقاش، أمريكيّاً، في هذا الصدد، في ما إذا كانت هذه العلاقات قابلة للاستمرار بشكلها الحالي، أم أنها تتطلب صياغة جديدة، فضلاً عن “الموازنة بين القيم والمصالح” في سياسة الولايات المتحدة الخارجية.
أولاً: الإطار العام للعلاقات بين البلدين
قامت العلاقات الأمريكية – السعودية، منذ العام 1945، على صيغة يجري عادة اختصارها على نحو غير دقيق؛ هي معادلة “النفط مقابل الأمن”. فقد كانت ثمة اعتبارات جيو – ستراتيجية وغيرها (مثلاً، خلال الحرب الباردة ومواجهة الشيوعية، ولاحقاً في مواجهة الناصرية، وإيران بعد ثورة 1979، ثمّ العراق بعد غزوه الكويت العام 1990). ولم يمنع هذا حصول “هزات” في العلاقة بين الطرفين؛ من ذلك مثلاً الحظر النفطي الذي فرضته السعودية ودول عربية أخرى على الدول الغربية التي أيدت العدوان الإسرائيلي العام 1967، وأيضاً خلال حرب 1973، وبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، فضلاً عن خلاف بين الطرفين متعلّق بالموقف من ثورات “الربيع العربي”، وبالاتفاق النووي مع إيران العام 2015.
لكنّ العلاقة بين الطرفين شهدت تحسناً كبيراً مع وصول الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم، العام 2017، وكان عدم اكتراثه بالقضايا المتعلقة بطبيعة النظم الحاكمة في العالم العربي، وتأكيده على مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية تحديداً، وراء توجهه إلى السعودية، مايو/أيار 2015، في أول زيارة خارجية له للمشاركة في القمة العربية/الإسلامية – الأمريكية. وساهم موقف ترامب المعارض للاتفاق النووي مع إيران، من خلال منطلقات شبيهة بمنطلقات إسرائيل، ثم انسحاب إدارته منه العام 2018، في تعزيز التحالف الأمريكي – السعودي.
وكان لمضاعفة السعودية استثماراتها في الولايات المتحدة، وكذلك لمشترياتها من الأسلحة الأمريكية، دور كبير في زيادة الدعم الذي تلقته من إدارة ترامب بشأن الحرب في اليمن، رغم معارضة الكونغرس هذه الحرب، بسبب الكارثة الإنسانية التي ترتبت عليها. ورغم اغتيال خاشقجي، أكتوبر/تشرين الأول 2018، رفض الرئيس الأمريكي السابق مراجعة العلاقة مع السعودية، بل إنه قام بنقض قرار الكونغرس، صيف العام 2019، الذي قضى بفرض حظر على بيع أسلحة هجومية للرياض.(4)
ثانياً: “إعادة ضبط” العلاقات
خلال عهد ترامب وقعت السعودية في “فخ” اختزال العلاقة مع الولايات المتحدة في شخص الرئيس والدائرة الصغيرة المحيطة به؛ ما تسبب بحالة من السخط في دوائر المؤسسات الأمريكية. وبرز ذلك على شكل انتقادات حادة وغير مسبوقة من الحزبين الرئيسَين، ومن مرشح الحزب الديمقراطي، في ذلك الوقت، جو بايدن، الذي كان قد تعهّد، في حال وصوله إلى الحكم، بـ “إعادة ضبط” العلاقة مع المملكة ومحاسبتها على الحرب في اليمن(5)، ومقتل خاشقجي، وسجلها في مجال حقوق الإنسان.(6)
وبالفعل، أعلن بايدن، مطلع فبراير/شباط 2021، قراراً يقضي بـ “وقف الدعم الأمريكي للعمليات الهجومية للحرب في اليمن، بما في ذلك مبيعات الأسلحة ذات الصلة” لكل من السعودية والإمارات، كما أعلن سعيَ إدارته إلى “إيجاد حل دبلوماسي للصراع المستمر منذ ست سنوات”، لأن ذلك “خلق كارثة إنسانية واستراتيجية”.(7) وقد أعلنت إدارة بايدن، سابقاً، تعليقاً ومراجعةً لصفقات الأسلحة للبلدين الخليجيين التي أقرتها إدارة ترامب.
إلا أن قرار بايدن بشأن الدور الأمريكي في حرب اليمن تضمّن استثناءين رئيسَين: الأول، يتعلق بحماية أمن السعودية من “الهجمات الصاروخية، وضربات الطائرات من دون طيار، وتهديدات أخرى من الفصائل التي تسلحها إيران في عدة دول”، وقد شدد، ضِمن هذا السياق، على أنّ إدارته ستواصل “دعم السعودية ومساعدتها في الدفاع عن سيادتها وسلامة أراضيها وشعبها”. أمّا الاستثناء الثاني، فهو متمثّل بتأكيد أن القرار في اليمن لا يشمل “التنظيمات الإرهابية”، مثل “القاعدة” و”داعش”، التي ستستمر الولايات المتحدة في استهدافها “حمايةً لأمنها الداخلي وللمصالح الأمريكية في المنطقة ومصالح حلفائها وشركائها”.(8) إذاً، ما زالت ثمة أُسس للشراكة وقضايا يلتقي فيها البلدان. ولكن إذا كان تحالف ترامب مع السعودية غير مشروط إلا بالمال، فإن التحالف في عهد بايدن لم يعُد تحالفاً غير مشروط.
وفي 16 فبراير/شباط 2021، أعلنت الناطقة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، أن الولايات المتحدة “ستعيد تقويم العلاقة مع السعودية”، وأنّ أحد تعبيرات ذلك هو أنْ يتحدث الرئيس “مع نظيره الملك سلمان”.(9) وفي 25 من الشهر نفسه، أي قبل يوم واحد من نشر تقرير الاستخبارات الأمريكية، تحدث بايدن مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز. وكان لافتاً في بيان البيت الأبيض أنه وصف العلاقة مع المملكة بـ “الشراكة الطويلة الأمد”، لا بالتحالف.
وفي الوقت نفسه، كان واضحاً أن البيت الأبيض حرص على تأكيد أسس العلاقة الجديدة ضمن مساعي إعادة ضبطها؛ إذ أكد البيان أن المحادثة ناقشت “الأمن الإقليمي، بما في ذلك الجهود الدبلوماسية المتجددة بقيادة الأمم المتحدة والولايات المتحدة لإنهاء الحرب في اليمن، والتزام الولايات المتحدة بمساعدة السعودية في الدفاع عن أراضيها، في الوقت الذي تواجه فيه هجمات من الجماعات المتحالفة مع إيران”. وأكد أيضاً على ارتياح الرئيس لقرار الإفراج عن بعض الناشطين السعوديين من حملة الجنسية الأمريكية والناشطة لجين الهذلول، كما شدد على “الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لحقوق الإنسان العالمية وسيادة القانون”.(10)
ثالثاً: الموازنة بين القيم والمصالح
على غرار إدارات أميركية سابقة، يتنازع إدارة بايدن اتجاهان متناقضان ضمن سعيها لإعادة ضبط العلاقة مع السعودية. الأول، ينادي بالواقعية السياسية للحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة والعالم، ويدعو إلى الحفاظ على التحالف الأمريكي – السعودي. أما الثاني، وهو حقوقي، فيدعو إلى أخد القيم التي تجسدها الولايات المتحدة، على الأقل، في الاعتبار (مثل حقوق الإنسان)؛ ومن ثم، فإنه يدفع إلى اتجاه إعادة تقويم العلاقة الأمريكية – السعودية على هذا الأساس.
1. الاتجاه الواقعي
يرى أنصار هذه التوجه أن موقع السعودية الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وثروتها الضخمة، ومواردها النفطية، ومكانتها في سوق الطاقة العالمي، كلّها عوامل تحتّم الحفاظ على التحالف الاستراتيجي معها.(11) واستناداً إلى هذه المقاربة، فإن للولايات المتحدة والسعودية جملة من المصالح المشتركة؛ منها الحفاظ على استقرار أسواق النفط، ومكافحة الإرهاب والتطرف، خصوصاً بعد أن أصبح الحُكم في السعودية يروّج لصيغة تراها الولايات المتحدة أكثر اعتدالاً للإسلام، ولقيم مجتمعية أكثر انفتاحاً، فضلاً عن التصدي لإيران واحتواء نفوذها في المنطقة.
ويشير هؤلاء، أيضاً، إلى أن السعودية يمكنها أن تسهم في الاستقرار الإقليمي؛ ومن ذلك الدفع إلى اتجاه تحقيق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات النووية، وإنهاء حرب اليمن.(12)
ويحذّر أنصار هذا الاتجاه من الانسياق وراء المعطى القائل إنّ الولايات المتحدة، بوصفها أكبر منتج عالمي للنفط حالياً، لم تعُد معتمدة على استيراد النفط؛ ما ينفي الحاجة إلى استمرار التحالف على الأسس القديمة نفسها، ويشددون على أن السعودية تبقى أكبر مصدر للنفط في العالم، وأنها تملك نفوذاً كبيراً بشأن استقرار الأسعار، كما أنها أكبر مصدر للنفط إلى الصين، منافس الولايات المتحدة الرئيس، ثمّ إنّ أي فراغ في المنطقة سيقود إلى تحولات جيو – ستراتيجية عميقة في المنطقة نفسها، وسائر أنحاء العالم أيضاً، ومن ثمّ ستحاول كلّ من الصين وروسيا مَلْأه، وهو ما يبيّنه كلّ من الدور الروسي في سوريا، والنفوذ الصيني المتزايد في إيران.(13)
ويضيف هؤلاء أنّ القيادة العالمية تتطلب شراكات قوية في كل منطقة، بغضّ النظر عن وجود قيم مشتركة أو غيابها. ويقولون إن السعودية تُعد حليفاً مثالياً، إذ إنها تملك إمكانات مالية كبيرة؛ ما يجعلها غير معتمدة على مساعدات أميركية، على عكس دول أخرى في المنطقة، كالأردن ومصر، مثلاً. كما أنّها قادرة على دفع المال مقابل التسلح، أو مقابل توفير الحماية العسكرية الأمريكية.(14)
2. الاتجاه الحقوقي
يرى أنصار هذا الاتجاه أن مصالح السعودية غالباً ما تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة، كما أنّ منظومتَي قيمهما نادراً ما تتوافقان؛ ولا سيما في مجال حقوق الإنسان، وأنّ السعوديين – بدلاً من الإسهام في الدفع تجاه أولويات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط – كثيراً ما عملوا على تعقيد الأوضاع، والتقليل من إمكانية تحقيق تلك الأولويات. ويشدد هؤلاء على أن سياسات السعودية، خصوصاً في السنوات الأخيرة، عززت نفوذ إيران بدلاً من تقليصه، كما حصل بشأن حصار قطر مثلاً. ثمّ إنّ الحملة العسكرية التي أطلقتها في اليمن، العام 2015، لم تهزم حليف إيران هناك، أي الحوثيين، بل تسببت بكارثة إنسانية ورسخت النفوذ الإيراني فيه(15)، كما فشلت السعودية في التصدي للنفوذ الإيراني في لبنان وسوريا والعراق.
ويرى هؤلاء أن الولايات المتحدة لم تعُد في حاجة إلى النفط السعودي. ويرون أيضاً أنّ السعودية لم تعُد تثق بالولايات المتحدة لضمان أمنها، رغم أنها تُنفق مليارات الدولارات سنوياً مقابل أسلحة أميركية. كما يرون أنه حتى إنْ ظلّت السعودية مهمّة لدى المصالح الأمريكية في المنطقة، فإن هذا الأمر لا ينبغي أن يحصّنها من النقد، خاصةً في ما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان. ويخلص هؤلاء إلى أنّ التحالف الأمريكي – السعودي القائم حالياً أصبح مكلفاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة وعبئاً عليها أيضاً.(16)
خاتمة
تُدرك إدارة بايدن كل هذه التعقيدات، وهي تحاول تحقيق نوع من التوازن بين القيم التي تزعم أنها تمثّلها والمصالح الأمريكية في المنطقة. من هنا، فإنها سمحت بنشر تقرير الاستخبارات الأمريكية حول جريمة اغتيال خاشقجي، وفرضت عقوبات هامشية، إلى حد بعيد، على عدد من المسؤولين السعوديين، من دون أن يشمل ذلك من أكد التقرير مسؤوليته المباشرة عن الجريمة، بذريعة أن الولايات المتحدة لا تعاقب قادة الدول التي لها معها علاقات دبلوماسية.(17)
وبناءً عليه، فإنّ ما تقوم به إدارة بايدن هي محاولة لإعادة ضبط العلاقة مع السعودية وليس محاولةً لتفكيكها.(18) بعبارة أخرى، ما زالت الولايات المتحدة تُقدّم مصالحها الجيو – ستراتيجية حتى إن حاولت، تحت إدارة بايدن، إعطاءَ أهمية أكبر لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.
المراجع:
1. انظر:
“Declassified Report on Saudi Role in killing of Jamal Khashoggi,” CNN, February 26, 2021, at: https://cnn.it/3bBc3A0
2. أنظر:
Antony J. Blinken, “Accountability for the Murder of Jamal Khashoggi,” U.S. Department of State, February 26, 2021, at: https://bit.ly/2ODqvyi
3. .أنظر:
Peter Baker and Eric Schmitt, “Trump Defies Congressional Deadline on Khashoggi Report,” The New York Times, February 8, 2019, at: https://nyti.ms/38tBam5
4. أنظر:
Merrit Kennedy, “Trump Vetoes Bills Intended to Block Arms Sales to Saudi Arabia,” National Public Radio, July 25, 2019, at: https://n.pr/2OjvyE8
5. أنظر:
Joseph R. & Biden, Jr., “Why America Must Lead Again: Rescuing U.S. Foreign Policy After Trump,” Foreign Affairs, March/ April 2020, at: https://fam.ag/38urxUg
6. أنظر:
James Stavridis, “A Preview of Biden’s Foreign Policy,” Bloomberg, November 8, 2020, at: https://bloom.bg/2Nd8y9y
7. أنظر:
“Remarks by President Biden on America’s Place in the World,” The White House, February 4, 2021, at: https://bit.ly/3euq0Bl
8. المرجع الابق.
9. أنظر:
Press Gaggle by Press Secretary Jen Psaki and Homeland Security Advisor and Deputy National Security Advisor Dr. Elizabeth Sherwood-Randall, The White House, February 26, 2021, at: https://bit.ly/3tcxUn0
10. أنظر:
“Readout of President Joseph R. Biden, Jr. Call with King Salman Bin Abdulaziz Al-Saud of Saudi Arabia,” The White House, February 25, 2021, at: https://bit.ly/3bCh23j
11. انظر:
Jeffrey Fields, “Why Repressive Saudi Arabia Remains a US ally,” The Conversation, March 4, 2021, at: https://bit.ly/3qzr75q
12. أنظر:
Taylor Luck, “Why Saudi Arabia (Still) Tests Limits of US Influence,” The Christian Science Monitor, March 5, 2021, at: https://bit.ly/3qA60Qj
13. أنظر:
Elise Labott, “Can Biden Finally Put the Middle East in Check and Pivot Already?” Foreign Policy, March 2, 2021, at: https://bit.ly/3euE8uy
14. أنظر:
Luck.
15. أنظر:
Aaron David Miller & Richard Sokolsky, “Saudi Arabia is a Partner, not an Ally. Let’s Stop the Charade,” The Washington Post, March 4, 2021, at: https://wapo.st/2PNPpf3
16. المرجع السابق
17. أنظر:
Press Briefing by Press Secretary Jen Psaki, The White House, March 2, 2021, at: https://bit.ly/3rOZs1T
18. أنظر:
Nabih Bulos, “Biden Response to Report on Khashoggi killing Angers both Saudi Arabia and its Critics,” The Lose Angeles Times, March 2, 2021, at: https://lat.ms/2OFWlKX
المصدر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
مصدر الصور: الحرة – سي.إن.إن عربية.
موضوع ذا صلة: ماذا تعني سياسات بايدن تجاه اليمن بالنسبة إلى السعودية؟