يسعى الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إنهاء الحرب المستمرة منذ ست سنوات في اليمن، من خلال الحد من التدخلات العسكرية والعودة إلى الدبلوماسية. اللافت للنظر أن توجه إدارة بايدن لا يختلف كثيراً عن الاستراتيجية التي تسعى السعودية راهناً لانتهاجها في اليمن إذا لم يعد استمرار الحرب يصب في صالحها.
ماذا كان رد فعل السعودية على قرارات بايدن حيال اليمن؟
ظاهرياً، تشير تصريحات الرئيس بايدن عن اليمن إلى تحوّل كبير في السياسة الأميركية. والخطوة الأبرز هي وقف الدعم للعمليات العسكرية الواسعة التي تقودها السعودية في اليمن منذ ست سنوات، مع مواصلة الدفاع عن السعودية ضد أية هجمات عليها. وقد أوضح هذا القرار، مقروناً بتعيين تيموثي لندركينغ، نائب مساعد وزير الخارجية سابقاً لشؤون الخليج العربي، المبعوث الخاص الأميركي إلى اليمن، أن الولايات المتحدة تريد رفع وتيرة المسار الدبلوماسي لإنهاء الحرب. وشكّل إبطال القرار الذي اتخذته الإدارة الأميركية السابقة بإدراج جماعة الحوثيين ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، خطوة ضرورية نحو تمهيد الطريق لجهود المفاوضات مع الجماعة.
اللافت هو أن السعودية بدت متحفّظة في موقفها من هذه القرارات، واكتفت بالترحيب بتعزيز التعاون الدفاعي وبتعيين المبعوث الأميركي. توقع البعض منها تعبيراً عن الاستهجان، ولا سيما إزاء قرار وقف الدعم العسكري الأميركي للعمليات الهجومية السعودية. ولكن ثمة أسباب عدّة ربما دفعت بالسعوديين إلى التروّي:
أولاً، ليس واضحاً في الوقت الراهن ما مبيعات الأسلحة التي ستركّز عليها إدارة الرئيس بايدن، وكيف ستحدّد العمليات العسكرية “الهجومية” و”الدفاعية” السعودية.
ثانياً، صحيح أن الرياض دعمت علناً تصنيف الولايات المتحدة للحوثيين كجماعة إرهابية، لكن بصورة أساسية لأن هذا ما كانت تريده الحكومة اليمنية والولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب. تدرك السعودية أن خطوة كهذه ستعقد ملف الحل أكثر مما تفيده. وقد انعكس هذا التوجه على مستوى القرار اليمني. في أبريل/نيسان 2019، حاول بعض النواب اليمنيين خلال جلسة برلمانية تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية بأنفسهم، إلا أن الرياض تحركت خلف الكواليس وحالت دون حدوث ذلك.(1) فإدراج الحوثيين على قائمة الإرهاب يجعل من الصعب على المملكة الضغط عليهم لقطع علاقاتهم مع إيران مقابل الدعم السعودي الكامل، وهو العرض الذي ظلت تلوح به المملكة للجماعة في محادثتها السابقة.
ثالثاً، وعلى نحو متّصل، مع أن أجواء الاجتماع بين وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، ولندركينغ بدت ودّية، فإن زيادة الانخراط الدبلوماسي الأميركي تولّد بعض الالتباس الذي لا ترغب فيه السعودية بشأن مفاوضات القنوات الخلفية الدائرة بينها وبين الحوثيين منذ فترة طويلة، ما قد يعرّض التوازن الدقيق الذي حافظ عليه الفريقان للخطر.
هل سيؤثّر قرار بايدن وقف الدعم للعمليات الهجومية على الاستراتيجية العسكرية السعودية؟
أحد الأسباب الأساسية خلف الرد السعودي الهادئ هو أن الاستراتيجية العسكرية للمملكة تشهد تغيراً منذ بعض الوقت، بما يتماشى جزئياً مع تغييرات بايدن السياسية. ففي منتصف العام 2019، بدأت السعودية بالتحوّل من استراتيجية التدخل الصلب إلى التدخل الناعم، مع تراجع لافت في عملياتها العسكرية ضد الحوثيين.
لقد أصبحت التكاليف الاقتصادية والإنسانية والسياسية مرتفعة جداً بحيث لم يعد بالإمكان تحمّلها، ولا سيما بعد تفشّي جائحة “كورونا”. يُسجّل الإنفاق العسكري السعودي، بصورة مستمرة، نسبة مرتفعة من إجمالي الناتج المحلي (13% عند بداية حرب اليمن العام 2015)، حتى إنه يتخطى بأشواط نسبة الإنفاق العسكري التي تسجّلها قوى دولية مثل الولايات المتحدة (3.5% العام 2015). ويُستخدَم جزء كبير من هذا الإنفاق من أجل التصدّي للتهديدات الإيرانية، بما في ذلك في اليمن. ولا شك في أن الخسائر الكارثية في الأرواح وشح المواد الغذائية والأدوية في اليمن يكشفان ذلك. ويطالب العديد من المنظمات غير الحكومية الدولية على نحوٍ متزايد بمحاسبة التحالف الذي تقوده السعودية على مشاركته في وقوع أسوأ أزمة إنسانية في العالم في اليمن. إضافةً إلى ذلك، يتعرّض جنوب المملكة لهجمات متزايدة من الحوثيين الذي يتعدّون على الأراضي السعودية.
نظراً إلى هذه الأكلاف والإخفاقات المتعاقبة في كبح جماح الحوثيين، تُركّز الرؤية السعودية الحالية على إضعاف الحوثيين بدلاً من إلحاق الهزيمة بهم. لقد شهدت الهجمات المباشرة التي يشنّها التحالف بقيادة السعودية ضد الحوثيين تراجعاً كبيراً في الأعوام الماضية. ففي العام 2019، قُدِّر عدد الهجمات الجوية بأقل من 1200 هجوم، مقارنةً مع نحو 7000 خلال العام الأول من الحرب. ومع أن الضربات سجّلت زيادة في العام 2020، استهدفت بصورة أساسية المناطق المؤدية للحدود اليمنية – السعودية لا المناطق الداخلية، ما يُشير إلى اعتماد السعودية موقفاً دفاعياً أكثر لحماية أراضيها الحدودية. تقوم استراتيجية الرياض في المدى الطويل على تعزيز نفوذها بين جميع الفصائل اليمنية بلا استثناء، لذا من غير المستغرب أنها تفضل التفاوض مع الحوثيين كجزء من هذه الاستراتيجية.
تبدو هذه النزعة إيجابية، ولكن في ضوء التفاصيل التي سوف تتكشّف عن خفض الرئيس بايدن الدعم الأميركي للعمليات الهجومية، قد تحاول السعودية الحصول على الأسلحة التي تريدها من بلدان أخرى، مثل روسيا والصين، حيث يمكن أن تتم صفقات السلاح بهدوء، من دون التعرض لضغوط من منظمات حقوق الإنسان. وقد سبق للحوثيين أن لجأوا إلى دول أخرى لشراء السلاح وتهريبه، ما شكّل انتهاكاً لحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة. ويسمح هذا التهريب لمورّدي الأسلحة بالتنصّل من المسؤولية، وسيستمر في تأجيج النزاع.
في نهاية المطاف، إذا لم تحرز الجهود الدبلوماسية تقدماً، ستحمي السعودية مصالحها وغالب الظن أنها ستبرر أن الهجمات العسكرية التي تشنّها دفاعية لا هجومية. وسوف تسعى للحصول على الأسلحة التي تحتاج إليها للرد على هجمات الطائرات المسيّرة المتطورة التي يشنّها الحوثيون، وغيرها من التحركات العدوانية.
ما حجم التأثير الذي يمكن أن تُحدثه محادثات السلام بقيادة الولايات المتحدة؟
من المفترض أن يساعد تعيين مبعوث أميركي على فتح قنوات الاتصال مع الحوثيين. لكن بصورة عامة، لن تبدأ المحادثات مع الجماعة من الصفر. ففي العامَين الماضيين، جرت نقاشات سرّية بين الحوثيين والسعوديين على الرغم من الأعمال العدوانية، إما من خلال وسطاء عُمانيين أو عبر خطوط الاتصال القديمة بينهما في مدينة ظهران الجنوب عند الحدود السعودية.
في فبراير/شباط 2020، قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إن بلاده ما زالت ملتزمة بإجراء محادثات سلام عبر قناة خلفية مع الحوثيين في اليمن، وأن القناة الخلفية تحقق تقدماً. وقد ظهر التأثير الدبلوماسي لهذه القناة بشكل واضح من حين لآخر، كما في أكتوبر/تشرين الأول 2019 عندما صدرت بعض التصريحات الإيجابية عن الجانبَين إثر الهدنة التي أعلنها الحوثيون. وقد غرّد نائب وزير الدفاع السعودي، خالد بن سلمان، يقول إن “التهدئة التي أُعلنت من اليمن تنظر لها المملكة بإيجابية، كون هذا ما تسعى له دوماً، وتأمل أن تطبق بشكل فعلي”.
وقد رحب نائب وزير الخارجية في جماعة الحوثيين بهذا التصريح، ورأى فيه مؤشّراً إيجابياً يدعم السلام. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أبلغت السعودية الحوثيين خلال محادثات رفيعة المستوى بأنها ستوقع على اقتراح للأمم المتحدة بوقف إطلاق النار على مستوى البلاد إذا وافقت الجماعة المتحالفة مع إيران على إقامة منطقة عازلة على طول حدود المملكة. ليس واضحاً مَن يقود هذه المحادثات من الجانب السعودي، لكن محمد عبد السلام الذي يتخذ من العاصمة العُمانية مسقط مقراً له، يمثّل الفريق الحوثي المفاوض.
في الواقع، يمكن أن تكون المحادثات التي تقودها جهات خارجية مثمرة، كما ظهر في الأشهر الأخيرة، ولا سيما أواخر العام 2020. ففي بادرة حسن نيّة تنسجم مع ما نص عليه “إتفاق ستوكهولم” حول اليمن الذي أُبرِم برعاية الأمم المتحدة، حدث تبادلٌ للأسرى وسمحت السعودية بإجلاء الحالات الطبية من المطار الذي يسيطر عليه الحوثيون في العاصمة اليمنية. ولكن هذا التقدم لا يكاد يذكر وقد ينهار بسهولة إذا استمرت الهجمات الحوثية باتجاه السعودية أو باتجاه المناطق الداخلية التي تدعمها السعودية، مثلما يحصل هذا الشهر مع قيام الحوثيين بقصف بعض المنشآت في جنوب غرب السعودية والهجوم المكثف ضد مدينة مأرب اليمنية.
يمكن أن تعمل الولايات المتحدة أقلّه على التهدئة، وربما تؤدّي دوراً أكبر في حال امتلكت استراتيجية شاملة وواضحة تأخذ في الاعتبار تحركات الأفرقاء المختلفين في الحرب. لقد حقق الحوثيون بالحرب والمواجهات العديد من التقدمات، ومن غير المرجّح أن يقبلوا باتفاق لتقاسم السلطة، في حين أن عدداً كبيراً من المواطنين اليمنيين قد لا يقبل بمنح الحوثيين أي دور شرعي في الحكم بسبب الفظائع الإنسانية التي ارتكبوها.
وقد يتبيّن أن الأفرقاء الخارجيين الآخرين لديهم نزعة أكبر للتدخل. فعلى سبيل المثال، تحاول روسيا والصين أداء دور أكبر في انعقاد المحادثات نظراً إلى علاقاتهما الودّية مع إيران. وقد تؤدي الاستراتيجية الأميركية الجديدة في اليمن إلى دفع روسيا والصين نحو استخدام تأثيرهما على الحوثيين من أجل زيادة العراقيل أمام الجهود الدبلوماسية الأميركية.
هل من فرصة لخروج السعودية في نهاية المطاف من اليمن؟
الجواب البسيط هو لا. فحتى إذا كانت الخطوات التي ستتخذها الولايات المتحدة في المستقبل تصبّ في مصلحة السعودية، فإن الكلفة الأمنية لمغادرة اليمن أكبر من كلفة البقاء فيه. غالب الظن أن الرياض سوف تعزز تواجدها داخل الكيانات اليمنية الموالية لها، فيما تواصل خفض تدخلاتها العسكرية المباشرة. ويُعتبر هذا النمط شبيهاً باستراتيجية الإمارات العربية المتحدة، التي أعلنت في يوليو/تموز 2019 سحب قواتها من اليمن، لكنها تركت عدداً كبيراً يفوق 200 ألف عنصر من القوات العسكرية المحسوبة عليها، منتشرين في قواعد عسكرية مختلفة في أنحاء البلاد. وهكذا تستطيع الإمارات أن تنفّذ استراتيجيتها من دون أن يكون لها حضور مباشر، فتتملّص بذلك من أي مسؤولية مباشرة.
ينطبق هذا النموذج بوضوح أيضاً على إيران التي تستخدم الحوثيين الموالين لها من أجل ممارسة نفوذها. وهو نفوذ ينمو بصورة متزايدة. ومن المستبعد أن تسمح السعودية لإيران بأن تمارس هذا النفوذ الذي يهدد أمنها القومي، لذلك سوف تستمر بدعم الفصائل الموالية لها في اليمن، بما فيها القوات الحكومية. وهذا يظهر بصورة جلية في التصريحات السعودية التي أعقبت حديث بايدن عن السياسات التي ستتبعها إدارته. بناء عليه، سوف يظل المشهد العسكري والسياسي في اليمن مليئاً بأفرقاء يتقاتلون في ما بينهم ومع داعمين من خلف الحدود لن يتوقفوا عن تقديم الدعم.
أخيراً، ثمة واقع شامل سيصعب تخطيه، إذ يبدو الحوثيون والسعوديون أعداء في الظاهر، لكنهم في الحقيقة شركاء بطريقة غير مباشرة. فوجود الفريق الأول يشرع وجود الثاني؛ بعبارة أخرى، كل فريق هو بمثابة “البُعبُع” المناسب للفريق الآخر. فالحوثيون لن يجدوا ذريعة أفضل للحفاظ على سيطرتهم من السعودية التي ارتكبت أخطاء فادحة كثيرة خلال سنوات الحرب الست. وبالمثل، لن تجد السعودية ذريعة أفضل من الحوثيين للبقاء في اليمن، نظراً إلى الهجمات المتواصلة التي تشن بدعم إيراني على الأراضي السعودية وأجزاء من اليمن، ونظراً أيضاً إلى الانتهاكات التي يقوم بها الحوثيون ضد خصومهم، ما يجعلهم يجدون في السعودية حليفاً مهماً بالنسبة لهم. باختصار، لن تتخلّى السعودية عن أنصارها في اليمن أو تفوّت فرص توسيع نفوذها.
(1) بحسب مراسلات شخصية بين الكاتب ونائبَين يمنيين في فترة الجلسة البرلمانية.
المصدر: مركز كارينغي.
مصدر الصور: روسيا اليوم – العربية.
موضوع ذا صلة: قرار بايدن وقف الدعم الأميركي لـ “العمليات الهجومية” السعودية في اليمن: الحيثيات والدوافع
أحمد ناجي
باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط / بيروت – لبنان. تتركز أبحاثه حول الشؤون اليمنية.