نشرت صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية تحقيقاً للكاتب ماثيو كارنيتشنيج ألقى فيه الضوء على النائب المحافظ المتشدد، فريدرش ميرتس، أحد الطامحين إلى قيادة حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي، والذي يراه الكاتب النسخة الألمانية من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، نظراً للتشابه الكبير بينهما في السياسات والمعتقدات.
من هو فريدرش ميرتس؟
يستهل الكاتب تحقيقه بإلقاء الضوء على الرجل الأبيض العجوز المناضل الذي يعتبر المثليين الجنسيين والمنجذبين جنسياً إلى الأطفال سواء، ويرفض المناقشات في المسائل الجنسانية بإعتبارها مضيعة للوقت، ولا يمكنه تحمل سياسة أنجيلا ميركل ويراها بعيدة عن روح العصر.
كل هذه الصفات لم تمنع فريدرش ميرتس من محاولة الوصول إلى كرسي المستشار القادم لألمانيا. أما المفاجأة الأكبر، فهي أن فرص نجاحه ضئيلة. وقد بزغ نجم ميرتس فجأة في سماء الحزب الديمقراطي المسيحي بصفته أحد رعاة المحافظ القوي، فولفجانج شوبل، ولكن طموحاته السياسية توقفت في العام 2002 بعدما أزاحته ميركل، التي أصبحت زعيمة الحزب بالفعل بعد ذلك، من منصب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي (تولاه لمدة عامين) وتولت المنصب بنفسها.
وأمضى ميرتس، البالغ من العمر 65 عاماً، جُل حياته في العمل محامياً للشركات والتعامل مع مجالس إداراتها، وحقق ثروة صغيرة من وراء هذا النشاط.
ومن خلال كل ذلك، ظل ميرتس محبوباً من الجناح اليميني لحزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي لم يتحمس أبداً لميركل. ويتهمها عديد من المحافظين بإنتهاك المبادئ الأساسية للحزب من خلال المبالغة في الميل إلى اليسار في قضايا مثل الهجرة والسياسة الإجتماعية. ويجادل هؤلاء المحافظون بأن سياسات ميركل أفسحت المجال أمام الكتلة اليمينية داخل حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي، مما سمح بصعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، والذي أصبح أكبر حزب معارض في البلاد.
الصراع على خلافة ميركل
وأشار الكاتب إلى أنه بعد تنحي ميركل من منصب زعيمة الحزب في العام 2018، بدا فريدرش ميرتس، الذي يرسم له الألمان الأكبر سناً صورة في أذهانهم بأنه أحد الصقور المالية الصريحة والمدافع عن القيم التقليدية، مرشحاً لخلافتها. ونفى ميرتس الآراء القائلة بأنه يريد تصفية حسابات قديمة، لكنه أصر على أن رغبته في الخدمة العامة هي دافعه الوحيد وراء مواقفه.
وفي ذلك الوقت، كانت ألمانيا لا تزال تعاني من تداعيات أزمة اللاجئين، وعانى حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي أيضاً من سلسلة من الإنتكاسات الإنتخابية، وكانت شعبية ميركل آخذة في التراجع. وتمكن ميرتس من الإستفادة من هذا الخلاف وكاد أن ينجح في التغلب على أنغريت كرامب كارينباور، التي تفضلها ميركل لخلافتها في منصب المستشارة الألمانية، في سباق القيادة. ولكن في النهاية، فازت أنغريت بدعم مؤتمر الحزب، بعد أن أسرت قلوب المندوبين بخطاب حماسي.
وبعد مرور عامين، وبعد قرار كارينباور المفاجئ بالتخلي عن الدور المنوط بها والتخلي عن تطلعاتها لخلافة ميركل في منصب المستشارة، عاد فريدرش ميرتس مرة أخرى إلى واجهة المشهد. لكن هذه المرة، يواجه ميرتس خيار ميركل الجديد لخلافتها، ونعني بذلك أرمين لاشيت، رئيس وزراء ولاية شمال الراين – وستفاليا، ونوربرت روتجن، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البوندستاج (البرلمان الألماني).
ومن المتوقع أن ينتخب مندوبو الحزب أحد النواب الثلاثة ليكون الزعيم الجديد لحزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي في شهر يناير/كانون الثاني القادم (2021). وسيصبح الفائز في هذه الإنتخابات المرشح المفترض للحزب لتولي منصب المستشار الألماني، وبإفتراض أن حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي وحزبه الشقيق البافاري إحتلا المركز الأول، فسيتولى الفائز منصب المستشار القادم لألمانيا.
وإذا رجعنا إلى التاريخ الحديث لحزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي في هذا الشأن، نجد أنه من غير المرجح أن تسير خلافة ميركل بسلاسة. والسبب في ذلك إلى حد كبير يرجع إلى ميرتس، الذي ألمح إلى أن المؤسسة تآمرت لتقويض ترشيحه. وقال لأعدائه المزعومين في مقابلة تلفزيونية الشهر الماضي “لن يُفلِح سَعيكم”، مشيراً إلى نفسه بصيغة الغائب “لن تسحقوا ميرتس وسيبقى صامداً”.
الطريق إلى المستشارية
يقول الكاتب إن فريدرش ميرتس عارض خطة قيادة حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي الرامية إلى تأجيل المؤتمر، وهي خطوة قال الحزب إنه مضطر لإتخاذها نتيجة لتفشي الجائحة (كورونا). ومن المتوقع أن يحضر الإجتماع أكثر من ألف مندوب. وتشير القوانين التي تحكم الأحزاب السياسية في ألمانيا إلى أن عقد الإجتماع عبر الإنترنت والتصويت عن بعد أمر محفوف بالمخاطر القانونية. وفي تلك الأثناء، نفت كارينباور، التي لا تزال زعيمة حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي، ومسؤولون آخرون في الحزب أن يكون لهذا التأخير أي علاقة بميرتس.
لكن ميرتس لم يتوانَ، وفي النهاية وافق المرشحون والحزب على إجراء التصويت في شهر يناير/كانون الثاني بدلاً من أي وقت آخر خلال فصل الربيع، كما أوصت كارينباور. وفي الوقت الذي يخطط فيه الحزب لكشف التفاصيل الشهر المقبل، فإن مسار الجائحة ومعدل الإصابة المتصاعد في ألمانيا ربما يلقيان بنوع من القلق على الأعمال الجارية.
أما السبب وراء إلحاح ميرتس على الإجتماع، فيرجع إلى تقدمه في إستطلاعات الرأي، حيث يتقدم على منافسيه بفارق كبير. وفي أحد الاستطلاعات التي نشرتها مجلة دير شبيغل الألمانية هذا الشهر، على سبيل المثال، تصدر ميرتس السباق بنسبة 26%، وتلاه روتجين، ولاسشيت بنسبة 10.6% و8.1% على الترتيب. وإحتل وزير الصحة الألماني ين سبان، الذي لم يشارك رسمياً في السباق، المركز الثاني بنسبة 23%. وقال أكثر من 20% ممن شاركوا في إستطلاع الرأي إنهم يفضلون مرشحاً مختلفاً.
وعلى الرغم من نتائج الإستطلاع، ربما لا يكون للرأي العام تأثير كبير على النتيجة. ويرجع ذلك إلى أن الأصوات الوحيدة المهمة هي تلك التي أدلى بها مندوبو المؤتمر البالغ عددهم 1.001، وهي مجموعة تضم موظفين حزبيين من ولايات ألمانيا الستة عشرة.
وتأتي المجموعة الأكبر من ولاية شمال الراين – وستفاليا، وهي حقيقة يعتقد كثيرون أنها ستمنح لاشيت، زعيم الولاية، الأفضلية في السباق. وبينما يحظى فريدرش ميرتس بشعبية بين اليمينيين، هناك سبب كاف للتشكيك في جاذبيته لعامة السكان، الذين لم يظهروا أي ميل للتخلي عن المسار الوسطي لميركل. ومع ذلك، ونظراً لأن التصويت سري وستكون هناك جولة إعادة، فإن التنبؤ الجاد بالفائز سيكون شبه مستحيل.
على الرغم من أن كل ما يجري كان نتاجاً كبيراً للمؤسسة الألمانية، ناهيك عن حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي، تمثلت إستراتيجية ميرتس في تصوير نفسه على أنه الشخص الخارجي المنشق الذي يرغب في التحدث بحقائق غير مريحة لقيادة الحزب. وفي مقال نشر مؤخراً، إعترف ميرتس بأن أداء ميركل منتظم في ظل ظروف صعبة، لكن سياساتها “زادت مخاطر” إثارة أزمات جديدة، وتساءل فيما يتعلق بإستجابة الحكومة للجائحة “هل نقوم حقاً بما يكفي؟ أو هل تتبنى ميركل الخيارات الصحيحة؟”
شخصية ميركل تصبغ السياسة الألمانية
يقول الكاتب إن معارضة النظام كانت منطقية قبل عامين عندما كانت ميركل في حالة تأهب وكان الإتحاد الديمقراطي المسيحي غاضباً بشأن إدارتها لأزمة اللاجئين، لكن ربما يكون الأمر أقل حساسية الآن. إذ إن ميركل هي السياسية الأكثر شعبية في ألمانيا حتى الآن بنسبة تأييد تزيد عن 70%، بل إن حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي إكتشف ولعه بها من جديد، وربما يشير ذلك إلى أن الحزب يميل أكثر إلى التعامل مع الشخص المجرب والحقيقي، ممثلاً في شخصية مؤسسية مثل لاشيت، بدلاً من شخص مثير للإضطراب، مثل فريدرش ميرتس.
ويخشى البعض في الحزب من أن فوز ميرتس ربما يترك الحزب منقسماً بشدة بين التيار الرئيس لأنصار ميركل وفصيل ميرتس الأكثر محافظة. ويخشى آخرون من أن مواقفه المحافظة ربما تنفر ناخبي الوسط الذين إجتذبتهم ميركل إلى الحزب في السنوات الأخيرة وتهدد التحالف مع حزب الخضر، وهو ما يراه معظم المراقبين السياسيين في برلين على أنه النتيجة المحتملة للإنتخابات العامة في الخريف المقبل (2021).
وحذّر مسؤول مقرب من قيادة الحزب من أن فوز ميرتس “سيكون كارثة”. وأثار ميرتس، الذي رفض التعليق، الدهشة داخل الحزب وخارجه بسبب تصريحات المثيرة للجدل حول مجموعة من الموضوعات بدء من الشذوذ الجنسي إلى فيروس “كورونا” المستجد. وعندما سئل في شهر سبتمبر/أيلول (2020) عما إذا كان لديه أية إعتراضات في أن يصل شخص مثلي الجنس إلى منصب مستشار ألمانيا، أجاب: “لا”، مضيفًا أن “التوجه الجنسي ليس من شأن الجمهور. طالما أنه قانوني ولا يتضمن الأطفال، وهو أمر شخصي بحت من وجهة نظري، وليس موضوعاً للنقاش العام”.
وألقى ملاحظة مماثلة خلال برنامج حواري بث في وقت الذروة على التلفزيون الألماني العام هذا الشهر، كان فيه ضيفاً إلى جانب زعيمة حزب الخضر، أنالينا بربوك، ووزير المالية، أولاف شولتز، وهو ديمقراطي إشتراكي. وعندما سأل مضيف البرنامج ميرتس عن رأيه في الضمائر المحددة للجنس، وهي قضية ملتهبة للغاية بين التقدميين، كان ميرتس مرتاباً للغاية، وقال وهو يرفع صوته ويميل إلى الأمام في مقعده “نحتاج إلى ترتيب أولوياتنا قليلاً هنا”، وتابع “لدينا بعض المشاكل الأخرى في الوقت الحالي نحتاج إلى حلها”.
ميرتس يواصل إثارة المشاكل
ويلفت الكاتب إلى أنه في خضم الجدل حول القيود الجديدة الخاصة بالجائحة في وقت سابق من هذا الشهر، تسبب فريدرش ميرتس في إثارة ضجة أخرى من خلال التأكيد على أنه “ليس من شأن الحكومة” التي يحتفل معها هو أو الألمان الآخرون بعيد الميلاد أن تجد حلاً. وفي ظل تعرض ألمانيا لعدد قياسي من الإصابات والوفيات، قال بعض النقاد إن تصريحات ميرتس غير مسؤولة لرجل يطمح إلى قيادة البلاد.
في الواقع، وعلى الرغم من أتباعه المخلصين بين المحافظين المتشددين، يتساءل كثيرون في حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي سراً عما إذا كان ميرتس على مستوى المنصب بالفعل، إذ إنه شخص محافظ مالي، إشتهر بإقتراحه في أوائل العقد الأول من القرن الـ 21 بضرورة أن تكون الإقرارات الضريبية في ألمانيا نماذج بسيطة للغاية. ولا يتمتع ميرتس بخبرة إدارية تذكر، إذ قضى معظم حياته المهنية في ممارسة قانون الشركات وفي مجالس الإدارة. وعلاوة على ذلك، لم يكن قط في الخطوط الأمامية للسياسة الألمانية منذ إستقالته من منصب نائب زعيم الكتلة البرلمانية لحزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي، العام 2004.
وفي الآونة الأخيرة، أمضى فريدرش ميرتس عدة سنوات في منصب رئيس مجلس إدارة الشركة الألمانية التابعة لشركة بلاك روك – BlackRock لإدارة الأصول الأمريكية، وهو منصب تخلى عنه هذا العام للترشح لمنصب في حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي. لكن الأشخاص المقربين من الشركة يقولون إن مهمته الأساسية كانت تتمثل في تمهيد الطريق، أي الإستفادة من شبكة معارفه في خدمة مصالح الشركة.
ويختتم الكاتب مقاله متسائلًا “إنه في ضوء كل ما سبق ذكره، هل يتمتع ميرتس بالخبرة الكافية لقيادة أكبر دولة في أوروبا؟” بعض أولئك الذين عملوا معه عن كثب لديهم شكوك في ذلك، ووصفوه بأنه نقيض اللاعب الجماعي وغير مناسب للعالم الذي يحركه التوافق في الإئتلاف الحكومي. وقال أحد من عملوا تحت إدارة ميرتس سابقاً “كان يتخذ جميع القرارات بنفسه”، مضيفاً أنه كان يميل إلى تجاهل النصائح الخارجية.
ومع ذلك وبعد 20 عاماً من أسلوب ميركل “المتهور” الذي يحركه الإجماع، يتوق كثيرون في الإتحاد الديمقراطي المسيحي إلى نهج فريدرش ميرتس القوي الذي يتسم بالقدرة على الفعل. والسؤال الوحيد الآن: هل ألمانيا مستعدة لتحمل العواقب؟
*العنوان الأساسي: “بوليتيكو”: تعرف إلى فريدريش ميرتس.. النسخة الألمانية من ترامب.
المصدر: ساسة بوست.
مصدر الصور: وول ستريت أونلاين – الغارديان.
موضوع ذا صلة: عدد المتطرفين يتزايد في ألمانيا