بدأت إسرائيل الترجمة العملية لـ “اتفاق أبراهام” الموقع مع السلطة الانتقالية في السودان، 6 يناير/كانون الثاني 2021، وذلك من خلال الانخراط المبكر في العديد من الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية داخل الأراضي السودانية التي يعتبرها الإسرائيليون كنزاً إستراتيجياً لابد من الاستفادة منه قدر المستطاع.
وتسابق الحكومة الإسرائيلية الزمن لتعزيز حضورها الاستثماري في هذا البلد الذي يتشارك حدودياً مع 7 دول أفريقية، فيما يمتلك أحد أهم الموانئ على البحر الأحمر (ميناء بورتسودان) الأمر الذي يسيل لعاب الدولة العبرية نحو التواجد في هذه البقعة الحيوية داخل القارة الإفريقية.
وتمثل الزراعة في السودان بمجالاتها المختلفة الهدف الأبرز أمام رماة دولة الاحتلال في ظل ما تمثله من أهمية محورية كونها عصب الاقتصاد الوطني السوداني، الذي يمكن حال تطويره أن يكون أحد أدوات التوغل داخل القارة الإفريقية، وهو ما تسعى تل أبيب لتحقيقه خلال السنوات القادمة.
وتسيطر نظرية التفوق الزراعي على العقلية الإسرائيلية منذ زرع دولتهم المزعومة في خاصرة العرب قبل أكثر من 70 عاماً، فأجهزوا على التجارب الزراعية الناجحة في البلدان العربية المجاورة، في المقدمة كانت مصر حين قضت تل أبيب على سلالات القطن هنالك بالأسمدة والبذور المسرطنة، كذلك اليمن، مروراً بإغراق السوق الأردني بالمنتجات الزراعية الملوثة رخيصة الثمن، وصولاً إلى تدمير الأراضي الزراعية الفلسطينية على الشريط الأمني، بعد إغراقها بمياه ومبيدات سامة لتهجير المزارعين والتأثير على الأمن الغذائي في قطاع غزة.
الزراعة.. عصب الإقتصاد السوداني
يمتلكُ السودان خارطة زراعية هي الأكبر في إفريقيا، ومن ثم تتوفر لديه مقومات الاستثمار في القطاع الزراعي بما يميزه عن غيره من الدول الأخرى، فلديه ما يزيد عن 175 مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة، وأكثر من 100 مليون رأس من الماشية.
هذا بخلاف قرابة 52 مليون فدان من الغابات والمناطق الصالحة للرعي، وأكثر من 400 مليار متر مكعب معدل هطول الأمطار سنوياً، فيما تمثل إيرادات القطاع الزراعي ما نسبته 48% من الناتج المحلي الإجمالي للسودان، بينما يشكل هذا القطاع ميداناً مفتوحاً لاستقطاب الأيدي العاملة والتخفيف من نسبة البطالة.
ويعد السودان أحد أباطرة أسواق المواشي وتربية الأبقار في العالم وليس في إفريقيا فقط، وهو ما يضعه في مرتبة متقدمة في خارطة الثروة الحيوانية في القارة، الأمر الذي من الممكن أن يدر عليه عائدات بالمليارات حال استثمر هذا القطاع بالشكل المناسب ووفق أحدث التطورات التكنولوجية.
وخلافاً عن بقية الدول العربية وإفريقيا، لا يعاني السودان مطلقاً من أزمة مياه، بل على العكس ربما تمثل له التخمة المائية مشكلة بين الحين والأخر، إذ يمتلك العديد من الموارد المائية الدائمة والموسمية، وهو ما يجعل مسألة الاستثمار في المجال الرزاعي استثماراً مضموناً وغير محفوف المخاطر، مقارنة بالدول المجاورة.
تلك المقومات دفعت بعض القوى الإقليمية للاستثمار في هذا المجال وعلى رأسها تركيا والسعودية ومصر وغيرها من دول المنطقة، وهو ما تسعى إسرائيل، من وراء تواجدها السوداني، تقويضه قدر الإمكان من خلال حزم المحفزات والمغريات المتوقع أن تحاول من خلالها إسالة لعاب السودانيين.
ومن ثم يتوقع أن تهرول الدولة العبرية خلال المرحلة المقبلة لتعزيز حضورها سودانياً من خلال العديد من المسارات، أبرزها توقيع عقود طويلة الأجل لاستصلاح واستغلال الأراضي غير المستغلة (من الممكن أن يشكل ذلك تهديداً للأمن القومي المصري من خاصرته الجنوبية)، بجانب التوغل داخل مفاصل الدولة السودانية حتى تصبح شريكاً في الملفات ذات الصلة بالزراعة، كملف “سد النهضة” والحصول على حصة من مياه نهر النيل وغير ذلك من الملفات التي كانت بالأمس حلماً يداعب الإسرائيليين.
الأسمدة… بوابة التوغل
أول خطوة نحو التوغل الإسرائيلي للهيمنة على الاستثمار الزراعي السوداني كانت إعلان شركة “داشان” لصناعة الأسمدة والكيماويات الزراعية الإسرائيلية، استعدادها لتمويل وإنشاء مصنع للأسمدة بالخرطوم من الألف إلى الياء، دون تحميل الجانب السوداني أي أعباء أو نفقات.
يعلم يقيناً الجانب الإسرائيلي أزمة الأسمدة التي تعاني منها الزراعة السودانية، والتي كان لها تأثيرها السلبي على نوعية وكمية المحاصل المستخرجة، وهو ما كشف عنه المدير التنفيذي لشركة الكيماويات الزراعية التابعة لمجموعة “سي.تي.سي” الاقتصادية بالسودان، خالد أمين عبد اللطيف، الذي أشار إلى أن بلاده تحتاج إلى مليوني طن من الأسمدة قابلة للزيادة.
عبداللطيف أشار إلى أن تأخر السودان في مجال صناعة الأسمدة، الأمر الذي يدفع للتوجه للاستيراد، لكن الظروف الاقتصادية تحول دون تلبية جميع الاحتياجات، فالكمية المستوردة حوالي 300 ألف طن، بفاتورة لا تتجاوز 150 مليوناً إلى مئتي مليون دولار، بحسب تصريحاته لقناة الجزيرة.
وهناك فجوة كبيرة بين كمية الأسمدة المستخدمة في السودان والكمية المناسبة وفق التوصيات الخاصة بالاتحاد الإفريقي في مجال الزراعة، التي أشارت إلى حاجة الفدان الواحد في المتوسط إلى 50 كلغ سماد بينما متوسط الاستخدام في السودان لا يتجاوز 8 كلغ فقط للفدان.
وطبقاً للمدير التنفيذي للمجموعة “إذا توفرت الأسمدة فستحدث نقلة لأن إنتاج الفدان المسمّد من الذرة مثلاً يمكن أن يصل إلى 11 جوالاً في حين لا يتعدى إنتاج الفدان بدون سماد جوالين فقط رغم أن الفدانين في نفس الأرض وكمية المطر.”
وفي ضوء تلك المعطيات كانت التحركات الإسرائيلية التي استهدفت العزف على هذا الوتر لما يمثله من معضلة حقيقية للزراعة السودانية، الأمر الذي قد يدفع البعض للترحيب بهذا المشروع لما له من نتائج إيجابية على مستوى الإنتاج بصرف النظر عن أبعاده الأخرى بعيدة المدى والتي ربما تضع الاقتصاد السوداني تحت الهيمنة الإسرائيلية.
أطماع إسرائيل في السودان
منذ الوهلة الأولى لانطلاق “مهرجان” التطبيع، الذي أقامه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كان السودان هدفاً رئيسياً للدولة العبرية، في الوقت الذي كان يقلل فيه البعض من أهمية هذا الاتفاق، مقارنة مثلاً بالمكاسب المتوقعة من التطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب، بصفتهم منصات استثمارية كبيرة يمكن أن تستفيد منها تل أبيب.
إسرائيل كانت تنظر للسودان على أنها البوابة الرئيسية لوضع موطئ قدم لها بإفريقيا وعلى البحر الأحمر، وهو الحلم الذي طالما راودها على مدار عقود طويلة مضت، ورغم محاولاتها المتباينة في بعض دول القرن الإفريقي إلا أن ما تحقق لم يكن على مستوى طموح الإسرائيليين.
وعليه كانت الحفاوة الكبيرة بإبرام “اتفاق أبراهام” مع السلطة الانتقالية السودانية والضغط من أجل رفع اسم البلد الإفريقي من على قوائم الإرهاب وتمرير قانون الحصانة القضائية، من أجل تحفيز الخرطوم على البدء في الترجمة العملية لبنود الاتفاق التي تسمح للإسرائيليين بالتوغل داخل مفاصل الدولة السودانية.
ترى إسرائيل في هذا البلد الإفريقي ذات الموقع الاستراتيجي المهم على البحر الأحمر، فرصتها السانحة لتعزيز تواجدها في هذه البقعة المحورية التي تربط بين قارات العالم الثلاث، التي يمكن من خلالها مراقبة النشاط الإيراني وخنق المقاومة الفلسطينية من خلال تجفيف منابع تصدير الأسلحة لها، بجانب مناهضة النفوذ التركي في القارة الإفريقية والذي يقلق الإسرائيليين كثيراً.
وعليه فإن طرق أبواب الاستثمار في المجال الزراعي هو الخطوة الأولى نحو توسيع هامش الحماية الأمنية للدولة العبرية عبر بناء طوق أمني يمتد من وسط إفريقيا وحتى الخليج، وليس من خلال تأمين حدودها فحسب، وهي الاستراتيجية التي تضمن لتل أبيب أو هكذا تعتقد، التفوق الإقليمي لعشرات السنوات مستقبلاً.
*محرر صحفي في موقع نون بوست.
المصدر: نون بوست.
مصدر الصور: الحرة – النهار العربي.
موضوع ذا صلة: هل ينتج رفع السودان عن لائحة الإرهاب حلحلة إقتصادية؟!