إعداد: مركز سيتا
خرجت تظاهرات كبيرة، ضمت مئات الآلاف، عمّت شوارع باريس وعدد من المدن الفرنسية الأخرى، ضد “قانون الأمن الشامل”، وخاصة المادة /24/ منه، ما وضع حكومة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أمام مأزق حقيقي لم يُعرف بعد كيفية الخروج منه.
تأتي هذه المظاهرات في ظل غضب واسع النطاق من الضرب المبرح الذي تعرض له منتج موسيقي من أصول إفريقية في باريس على أيدي عناصر الشرطة بسبب عدم إرتدائه الكمامة الواقية من فيروس “كورونا”، حيث تم تداول صور هذا الإعتداء على نطاق واسع ضمن وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي.
ما هي المادة /24/؟
بدأ مشروع “قانون الأمن الشامل” في مجلس النواب الفرنسي بنقاش حول تعزيز سلطات الشرطة في المراقبة بتجريم نشر صور أفرادها أثناء تدخلهم لضبط الأمن، والتوسيع من صلاحيات الشرطة المحلية، كما يضع المشروع إطاراً لإستخدام كاميرات المراقبة والطائرات المسيرة في مكافحة الإرهاب ومراقبة المظاهرات.
أما المادة 24 منه، والمثيرة للجدل، فتقيد نشر صور أفراد الشرطة أثناء عملهم، إذ تفرض عقوبة السجن عاماً واحداً وغرامة قدرها 45 ألف يورو على كل من ينشر صور “وجه أو أية علامة تعريف” لشرطي أو دركي خلال أداء عمله بهدف “إيقاع أذى جسدي أو نفسي به”. وتقول الحكومة إن هدف القانون حماية رجال الأمن من الإعتداءات وحملات التحرش عبر شبكات التواصل الإجتماعي، وإنه لا يمس حق الإعلام في شيء.
لكن الإصرار على تمرير المشروع ومن ضمنه المادة /24/، أثار العديد من التساؤلات سواء لجهة الإستغراب حول حجم إفراط رجال الشرطة الهائل بإستخدام العنف، سواء خلال قمع عمليات الإخلال بالأمن أو خلال فترات التوقيف، خصوصاً بعد أن كشف الصحفي فالنتان جوندرو عن هذا الأمر وفضح، ضمان كتاب ألفه، عدداً من الممارسات غير القانونية. أيضاً، هناك سؤال مهم يتمحور حول الفترة التي يقضيها المتدرب في كلية الشرطة وإمتلاكه لهذا الكم الهائل من العنف، وعن أسباب عمليات الإنتحار الكبيرة بين صفوف العناصر.
ما بين الشعب والأمن
يشعر المواطنون الفرنسيون بنوع من “الإستياء الكبير” المتلازم مع التطورات الحاصلة في البلاد، مثل تفشي فيروس “كورونا” والحجر المنزلي والأزمات الإقتصادية والسياسية، ما يجعلهم يجنحون نحو العنف أكثر خصوصاً وأنهم باتوا ينظرون إلى عناصر الأمن على أنهم “أدة للقمع” عندما يقومون بالتعبير عن رأيهم.
على الصعيد الأمني، يأتي مشروع القانون هذا ليؤجج الوضع الداخلي أكثر فأكثر، حيث ينظر إليه بأنه يقوم بتأمين نوع من الحق للشرطة للقيام بما تريده من ممارسات دون القدرة على كشف تصرفاتها وطريقة تعاملها. فهو يُعتبر أداة لقمع الحريات العامة، حرية التعبير على وجه الخصوص، وكأن باريس بدأت تتجه نحو أن تكون “بلداً أمنياً”، أي إيجاد نوع من “الدكتاتورية المقنعة” تستطيع من خلالها حكم الشعب.
إنتقادات واسعة
على الفور، واجه المشروع، الذي تقدمت به الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم “الجمهورية إلى الأمام”، معارضة شديدة من قبل المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام، وإحتشد حوالي 500 ألف متظاهر في مسيرات شارك فيها حقوقيون وصحفيون وأشخاص من “السترات الصفراء”، تخللها صدامات بين المحتجين ورجال الشرطة، الذين تدخلوا لتفريقهم بقنابل الغاز وخراطيم المياه.
بالتوازي مع ما سبق، أعلن الصحفيون والمدافعون عن الحريات عن إحتجاجهم لأنهم يرون في المشروع إنتهاكاً جسيماً لحرية الصحافة، حيث وقعت أغلب النقابات في قطاع الإعلام عرائض مشتركة تحتج فيها على القانون، لا سيما المادة /24/ سالفة الذكر، كما إنتقدت الكتل اليسارية في البرلمان المادة نص تلك المادة.
أيضاً، إمتدت الإنتقادات إلى خارج حدود فرنسا، إذ عبر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عن قلقه بشأن مشروع القانون، وقال إنه “يجعل فرنسا في وضع متناقض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”. إلى ذلك، قالت المتحدثة بإسم منظمة “مراسلون بلا حدود”، بولين أداس مفال، إن “ما نخشاه هو أن يعتبر الصحفي وهو يصور في الميدان مسبباً للضرر بشخص الشرطي ونفسيته، ومن ثم يتعرض للإعتقال”، مضيفة أن لذلك “أثراً ردعياً على بقية الصحفيين، إذ لا أحد يريد أن يعتقل أو يلاحق قضائياً، ولا أحد من الصحفيين مستعد لتحمل ضغط الشرطي أثناء أداء مهمته”، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، أكدت بعض المصادر الخاصة لـ “مركز سيتا” أن العديد من الجهات الحقوقية البلجيكية والسويسرية، غير الرسمية، أعلنت عن إستعدادها لنشر الفيديوهات الممنوعة من النشر في فرنسا خصوصاً مع عدم وجود قوانين فيها تمنع مثل هذا الأمر، وذلك في إشارة واضحة إلى أن الشعوب الأوروبية لن تقبل بأن تكون فرنسا مقدمة لدول أخرى قد تفكر بالسير في إتجاه مماثل مستقبلاً.
مطالبات بإلغاء مواد قانونية
يشير معارضو إقرار مشروع “قانون الأمن الشامل” إلى أن الكثير من قضايا العنف التي إرتكبتها الشرطة كانت ستبقى طي الكتمان لو لم تلتقطها عدسات صحافيين. ويؤكدون أن إقرار القانون لن يكون مجدياً إذ أن هناك قوانين غيره، كافية للتصدي لجرائم كهذه.
يأتي إحتدم الجدل هذا مع كشف قضيتين تتعلقان بعنف قام بها عدد من أفراد الشرطة، مما حول مرحلة سياسية صعبة على الحكومة إلى أزمة حقيقية. فقد قامت الشرطة بتدخل عنيف لتفكيك مخيم للمهاجرين أقيم في ساحة بوسط باريس في إطار عملية إعلامية لمنظمات مدافعة عنهم، وهاجم أفراد الشرطة صحافيين كذلك أمام عدسات الكاميرات والهواتف الذكية.
وحيال موجة التنديد بالمادة /24/، سعى رئيس الوزراء، جان كاستيكس، لإيجاد مخرج من خلال تشكيل “لجنة مستقلة مكلفة إقتراح صياغة جديدة”، حيث يطالب المحتجون بإلغاء المواد 21 و22 و24 من إقتراح القانون وسحب الخطة الوطنية الجديدة لحفظ النظام، أُعلنت في سبتمبر/أيلول 2020، والتي ترغم الصحافيين خلال التظاهرات على التفرق حين تصدر قوات الأمن أمراً بذلك، ما يمنعهم من تغطية الأحداث خلال هذه التجمعات التي تخللتها إضطرابات في السنوات الأخيرة.
إنتصار للشارع
خضعت الحكومة الفرنسية لضغط الشارع، وقرر نواب الأغلبية الحاكمة إعادة صياغة المادة /24/ من “قانون الأمن الشامل”، وستكون إعادة الصياغة ضامنة لأمن عناصر الشرطة وبنفس الوقت ضامنة لحرية الصحافة والإعلام في آنٍ معاً.
في هذا الشأن، قال وزير الداخلية، جيرالد دارمانان، أمام لجنة التحقيق البرلمانية إن هدف القانون الجديد هو التصدي لنشر صورٍ بهدف فضح هوية أفراد الشرطة وجعلهم مع عائلاتهم عرضة للتهديدات، وأضاف أنه في الشرطة كما في كل المؤسسات هناك ممارسات فردية غير مقبولة يجب إدانتها ولكن ما من تناقضٍ بين حماية عناصر الشرطة وحماية حرية الصحافة.
أخيراً، ومن الناحيتين القانونية والشعبية، تحاول الحكومة الفرنسية تهدئة الشارع من خلال إعادة صياغة مادة في “قانون الأمن الشامل” المثير للجدل، لكن معارضي القانون يطالبون بسحبه كلياً، وإقرار إصلاح آليات محاسبة عناصر الشرطة عند خروجهم عن القانون. أما من الناحية السياسية، فإن طرح هذا المشروع سيؤثر حتماً على الحملة الإنتخابية للرئيس ماكرون وبطريقة سلبية حتماً، حيث إعتبر البعض بأنه يطلق “رصاصة الرحمة” على عملية إعادة إنتخابه لفترة رئاسية مقبلة.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: فرانس 24 – الحرة.
موضوع ذا صلة: لماذا ينتحر رجال الشرطة في فرنسا؟