مصطفى عبد الكريم
من أفضل المداخل التي من الممكن إستخدامها في فهم التوجهات السياسية لدول العالم هو فهم السياسة الداخلية للبلد المعني، وهذه النظرية التي لم تولد منذ زمن بعيد تتأكد لنا في الكثير من المواضيع التي تثير الجدل في الوقت الحالي. فبالتأكيد من يتخذ المواقف الخارجية لكل دولة هو نفسه من يتخذها داخله وأهم ما يشغل كل سياسي في الديمقراطيات الحديثة هو أن يبقى في منصبه، ولكي يبقى في منصبه فعلى السياسي أن يُرضي ناخبيه بالدرجة الأولى وهو الأمر المرتبط مباشرة بالإعتبارت المحلية البحتة من سياسة و تعليم وغيره من الحاجات التي يطالب بتلبيتها المواطن.
قمت بإيراد هذه المقدمة لإختبار صحة هذه النظرية مرة جديدة بالنظر إلى الحرب الدائرة بين الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وقادة بعض الدول الإسلامية بعد خروج الرئيس الفرنسي الشاب ببعض التصريحات في الفترة الماضية. على رأس هؤلاء القادة يأتي بكل تأكيد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي وضع نفسه في منصب المتصدي للرئيس الفرنسي. ولكن بوضع هذا الصراع في قالب النظرية التي كنا نتحدث عنها، نجد أن الصراع غني جداً بالتداعيات السياسية المحلية والعالمية والقليل جداً من الدين أو الدفاع عنه كما قد يظهر من أول وهلة.
هنالك العديد من الجوانب التي يمكننا بدء الحديث من خلالها، إلا أن الجانب الأنسب هو متابعة فرص الرئيس الفرنسي في الإنتخابات الرئاسية الفرنسية والتي ستجرى في فبراير/شباط 2022. في بلادنا العربية والأفريقية، قد تكون فترة الـ 13 شهراً المتبقية على الإنتخابات الفرنسية طويلة جداً، وقد يبدو من المبكر جداً الحديث عن الحملة الإنتخابية في الوقت الحالي. لكن بالحديث عن فرنسا بالذات، فإن الحملة الإنتخابية للولاية المقبلة لرئيس ما تبدأ أثناء الإحتفالات بالفوز بالولاية الأولى؛ وبالتالي، من الطبيعي جداً أن يكون الرئيس ماكرون في حملة إنتخابية يمكن إعتبارها دائمة.
ومع هذا التوقيت بالتحديد يبدأ الرئيس ماكرون، أو كما كان سيفعل غيره، في تسجيل المواقف التي سيسوقها على الناخب الفرنسي في الفترة المقبلة. ماكرون كان قد فاز في الإنتخابات التي إجريت في العام 2017 وقد كانت الإنتخابات، التي شهدت إقل نسبة إقبال في آخر 40 عاماً. فوزه أيضاً جاء على حساب قائدة اليمين الوطني، أو المتطرف كما يفضل البعض تسميته، السيدة مارين لوبان؛ وعلى الرغم من خسارتها، إلا أنها كانت قد حصلت على 35% من أصوات الناخبين المشاركين في تلك الإنتخابات أو ما يعادل ما يقارب الـ 11 مليون فرنسي، وهو الأمر المقلق جداً بالنسبة للرئيس الحالي وما يقلقه أكثر بكل تأكيد هو تزايد شعبية لوبان منذ العام 2017، وهو الأمر الذي تدل عليه كل الإستفتاءات السياسية التي أجريت في الأعوام الثلاث الماضية وحتى الإستطلاعات الأخيرة تشير إلى أن لو بان ستنتصر لا محالة على الأقل في الجولة الأولى من الإنتخابات إذا ما إفترضنا جراء الإنتخابات في هذه اللحظة وأن على الرئيس ماكرون إنتظار جولة الإعادة من أجل زيادة حظوظه في الفوز.
من الطبيعي جداً أن نجد الرئيس ماكرون في محاولة لسرقة جزء من القاعدة الإنتخابية للوبان في الشهور المقبلة، ونحن نعلم جيداً أن القاعدة الإنتخابية لوبان تعتمد إعتماداً كبيراً على عدد من القضايا المهمة جداً وعلى رأسها أزمة المهاجرين والتي بنت عليها لوبان الكثير من حملاتها الإنتخابية وقضية التطرف التي تشغل الساحة الفرنسية خاصة في الشهرين الأخيرين، والعامل المشترك بين القضيتين هو تواجد الإسلام والمسلمين في مركز الصراع، فأكثرية المهاجرون هم من المسلمين والعرب بينما كل الإعمال الإرهابية التي تم تنفيذها، على الأقل في الفترة السابقة، جاءت عن طريق مسلمين أو مهاجرين مسلمين متطرفين.
لهذا، نجد الرئيس الفرنسي يظهر بمظهر من هو مشغول بقضايا الناخب الفرنسي؛ وبالتالي، وجد الفرصة في أكتوبر/تشرين الأول 2020 للخروج بجملة أثارت حفيظة الكثيرين من قادة الدول المسلمة. “الإسلام دين في أزمة في كل مكان في العالم”، هي كانت العبارة التي خرج بها الرئيس ماكرون إلا أنه لم يتوقف على ذلك فقط بل ذهب للحديث عن المسلمين تحت قيادته في فرنسا وإتهمهم بالعيش في مجتمع موازٍ وغير مندمج وغير متماشي ومعزول بشكل كبير عن قيم الجمهورية الفرنسية، وأن الأقلية المتطرفة داخل المجتمع المسلم تحاول السيطرة تماماً على الأقلية المسلمة داخل فرنسا؛ وبالتالي، من واجبه كرئيس التفكير في عدد من القوانين التي من الممكن أن تزيد من فرص ذوبان المجتمع المسلم في المجتمع الفرنسي.
المهم في هذه القوانين هو زيادة الرقابة على الجمعيات الإسلامية المتواجدة داخل فرنسا وهي التي تستقبل الكثير من الدعم من خارج فرنسا، وأيضاً زيادة الرقابة على ما يقوله أئمة المساجد في فرنسا، خاصة تشديده على نقطة أن معظم أئمة المساجد في فرنسا يأتون من خارجها، بالإضافة إلى تشديد الرقابة على بعض المدارس غير الحكومية التي تهتم بطريقة خاصة بالجاليات المسلمة المتواجدة هناك. هذا الحديث، أثار قلق بعض الجمعيات؛ وبالتالي، الدول التي تدعمها من أجل التغلغل في الإتحاد الأوروبي وفي فرنسا، بالتحديد.
السؤال الآن، هل يعني حديث الرئيس الفرنسي هذا أنه متعصب لدين ما أو أنه معادٍ للإسلام؟ الإجابة، في نظري، ببساطة لا. ففرنسا ليست بالمكان الذي من الممكن أن يمارس فيه التعصب الديني بأي معيار من المعايير، بل أرى أن الحرية التي يجدها المسلمون في ممارسة أمورهم الدينية في فرنسا قد لا يجدوها في العديد من الدول الغربية الأخرى؛ وبالتالي، لا يمكن إعتبار فرنسا مكان يضطهد فيه الإسلام أو المسلمين.
بالتأكيد هي ليست جنة الله على الأرض، إلا أن الدولة الفرنسية تعامل كل الديانات بطريقة متساوية إلى درجة بعيدة. لذا، فإن حديث الرئيس الفرنسي ليس إلا عبارة عن زخم إنتخابي من أجل الحصول على أصوات من الممكن أن تذهب في مصلحة خصمه اليميني لوبان. وما يقودنا لذلك هو حديثه، لمن تابعه بالكامل، فهو أراد بالتأكيد جذب جزء كبير من اليمين القومي الفرنسي إلى جانبه بالحديث عن أزمة الإسلام وإنعزاله داخل المجتمع الفرنسي، وهي الجمل التي تعد موسيقى بالنسبة للناخب اليميني الفرنسي وفي نفس الوقت لم يرد الرئيس ماكرون إغضاب جالياته المسلمة، والتي لها أيضاً دور في الإنتخابات بدعمها لتوجهاته اليسارية، بالحديث عن أن هذه العزلة لم يكن السبب فيها الإسلام والمسلمين فقط بل أن الجميع في فرنسا ساهم بشكل أو بآخر في تواجد الإسلام بالصورة الحالية بالحديث عن أن الجمهورية الفرنسية خذلت بنسب كبيرة الشباب المسلم، وبهذا الخذلان والتخلي ساهم في نجاح التطرف والإرهاب في التسلل إلى قلوب هؤلاء الشباب.
ولسوء حظ الرئيس الفرنسي، ففرنسا في نفس الشهر تعرضت لأكثر من ثلاث هجمات إرهابية من شباب مسلمين متطرفين، والأمر لم يحدث بسبب ما قاله الرئيس الفرنسي ولكن بسبب ما قامت به مجلة “شارلي إيبدو” الساخرة التي قامت بنشر بعض الرسوم التي تسخر من المسلمين وإعادة نشرها مرة أخرى في سبتمبر/أيلول 2020.
لمن لا يعرف “شارلي إيبدو”، فهي مجلة ساخرة صغيرة نالت شهرتها من بعض مواقفها وموادها الإستفزازية ليس في حق الإسلام فقط وإنما إعتبرها من المجلات المتطرفة ضد الديانات عموماً، فهي دائمة الإستفزاز لليهود والمسيحيين أيضاً، إلا أن ما يحميها هو القانون الفرنسي الذي يسمح بكل ما تقوم به المجلة، بل ويحميها تحت راية حرية التعبير. وقد دأبت المجلة على نشر هذه الرسوم ضد الإسلام لفترات ثابتة تقريباً إلى أن حدث الهجوم عليها في العام 2015 عندما تم قتل 12 صحفياً كانوا يعملون في المجلة وكان منفذي الهجوم أيضاً من الشباب المسلمين المتطرفين.
“شارلي إيبدو” قامت بنشر الرسوم مجدداً في سبتمبر/أيلول بعد أن خرج القرار بأن القضاء الفرنسي ما زال ينظر في قضية ما حدث في العام 2015، في وقت يطالب فيه الكثيرين القضاء بإتخاذ مواقف أكثر جدية بإعتبار أن الأمر لا يحتاج إلى الكثير من التحقيق والتمعن لوضوح جريمة الإرهاب المرتكبة في حق المجلة، هذا بالإضافة إلى الإعتبارات التجارية للمجلة التي أصبحت من الأكثر مبيعاً بعد حادثة العام 2015.
ماكرون بالمقابل وجد نفسه مضطراً للوقوف في صف “شارلي إيبدو” بإعتبار أنها تعمل وقفاً للقانون الفرنسي الذي يحمي حرية التعبير والتي يعتبرها البعض القيمة الأولى من قيم الجمهورية الفرنسية، هذا فضلاً عن إرضاء اليمين القومي حتى لا يظهر الرئيس اليساري بمظهر “الضعيف”، كما ردد الكثيرون في فترات اخرى.
أنا متأكد تماماً أن الرئيس الفرنسي لو سئل في قرارة نفسه عن “شارلي إيبدو” لتمنى عدم وجودها من الأساس، فهي مصدر دائم للتوتر مع قادة كل الديانات في فرنسا، إلا أن إنسياق المجلة داخل قضبان القانون الفرنسي يمنع الرئيس منعاً باتاً من إبداء أي رأي مخالف لها. بعض أصدقائي من العرب والمسلمين في بعض الأحيان يتعاطفون مع “شارلي إيبدو” بإعتبار حرية التعبير وما إلى ذلك، إلا أن رؤية الرسوم والعناوين التي تخرج بها المجلة من الممكن أن تغير آراء الكثيرين من هؤلاء خاصة إذا ما حدث ذلك مع كل صدور للمجلة، فأجدها في الكثير من الأحيان مستفزة إذا ما كان القارئ متديناً أم غير متدين، ولا أعتقد أن للأمر علاقة بحرية التعبير بأية درجة. وفي تقديري المتواضع، إن إستفزاز المجلة للعلمانية لا يقل بأي درجة عن إساءتها لأية ديانة أخرى.
ما قاله الرئيس الفرنسي في النهاية لم يرضِ لا اليمين القومي ولا اليسار، وهذا لا يعنينا كثيراً. ما يعنينا هو أن بعض القادة حول العالم أرادوا إنتهاز هذه الفرصة لتصفية حسابات قديمة مع فرنسا وأيضاً لدعم شعبيتهم الداخلية، وعلى رأس هؤلاء جاء الرئيس أردوغان الذي يعاني من تراجع في شعبيته داخل تركيا منذ سنوات، والأمر لا يحتاج إلى دليل. فخسارة حزبه في الإنتخابات البلدية في منتصف العام 2016، وخسارة الحزب لبلديات كبيرة مثل أنقرة وإسطنبول التي سيطر عليها حزب “العدالة والتنمية” الذي يقوده الرئيس أردوغان منذ العام 1994؛ وبالتالي، فمن حق الرئيس التركي، الذي يتخوف من خسارة إنتخابات العام 2023، أن يقلق هذا بالإضافة إلى الأزمة الإقتصادية المعتبرة التي تضرب تركيا، منذ العام 2019.
وما لا يساعده على ذلك، هو وجود تركيا في حالة خصومة مع كل حلفائه في أوروبا وحلف الناتو. أفضل ما يمكن أن يعزز به الرئيس أردوغان شعبيته، وهو الرئيس المعتمد على الإسلاميين في كل أركان دولته، هو العزف على وتر الدفاع عن الدين ولم يكن حديث الرئيس ماكرون سوى فرصة ذهبية كان عليه إغتنامها؛ وبالتالي، لم يدخر الرئيس أردوغان وقتاً أو جهداً في وصف الرئيس ماكرون بـ “المختل عقلياً”، وأن مسلمو فرنسا يعاملون بنفس الطريق التي عومل بها اليهود قبل الحرب العالمية الثانية.
الرئيس التركي، في نظري، إتخذ هذه المواقف لحسابات سياسية بحتة لا علاقة لها بالدين تماماً. وقد يسألني البعض ولم لا يغار الرئيس أردوغان على دينه فقط؟ الإجابة ببساطة لأن الرجل يتعامل مع الأمور بطريقة سياسية ولم يتخذ موقفاً مشابهاً في أوقات سابقة كانت أكثر اضراراً بالمسلمين مما قاله الرئيس الفرنسي، والمثال على ذلك تعامل الصين مع المسلمين في إقليم شينجيانغ وهو الأمر الذي يعتبره كل حلفاء تركيا في حلف الناتو إضطهاداً بحق المسلمين، بل وأن الرئيس أردوغان الذي ردد في عدة مناسبات سابقة أن ما يحدث في إقليم شينجيانغ هو إبادة جماعية.
إلا أن العام 2016 حمل لنا تغير الموقف التركي تجاه هذه القضية، بعدما وثَّق الرئيس أردوغان علاقته بالصين التي دعمته بشكل كبير بعد محاولة إنقلاب فاشلة، الأمر الذي تزامن مع تراجع كبير لليرة التركية بالإضافة إلى أزمات إقتصادية متعددة، ما جعل الرئيس التركي مديناً للصين بالكثير، ويتضح لنا ذلك في عملية تسليم مطلوبي مسلمي الإيغور للصين بعد أن أقاموا لعدة أعوام على الأراضي التركية. تحدث في الكثير من المناسبات بعد ذلك عن أن هنالك من يريد الإتجار بقضية مسلمي الصين، وأن على الجميع الجلوس من أجل إيجاد حل دبلوماسي، من الممكن إيجاد الكثير من التسميات لتغير موقف الرئيس التركي تجاه الصين إلا أن الأكيد هو إنقلاب موقفه ممن يصف الصين بمرتكبة لجريمة الابادة إلى دولة صديقة من الممكن الجلوس معها لإيجاد حلول دبلوماسية.
ما نستنتجه من كل ما حدث مع الرئيسين التركي والفرنسي هو أن المصالح هي التي تحرك كل شيئ وليست المبادئ، والمصالح، في رأيي، لا تحرك الكثير في الغالب الأعم، إلا أن إرتباطها بالدين يجعلها في الكثير من الأحيان عرضة للأخذ من الجميع وهو الأمر الذي من الممكن أن يأتي بالمزيد من التوتر بسبب سيطرتها على عقول البعض والنتيجة لذلك في بعض الأحيان، عمليات إرهابية في فرنسا وأيضاً في الدول الإسلامية في الوقت الذي لا يتصل فيه حديث القادة إلى الدين بأي شكل مباشر وحتى غير مباشر.
المصدر: المركز الديمقراطي العربي.
مصدر الصور: الحرة – يورو نيوز.
موضوع ذا صلة: الوجه الآخر لماكرون*