شارك الخبر

إذا أردت اليوم أن تأخذ نظرة مركزة ومختصرة عن طبيعة الصراع الدولي والإقليمي في لبنان، فربما يكفي أن تتوجه للشمال حيث مدينة طرابلس، التي باتت قبلة لسفراء وقناصل الدول الغربية في الأشهر القليلة الماضية.

على الحوض الشرقي للبحر المتوسط، تقبع طرابلس وسط أمواج إقليمية متلاطمة ملتهبة بالصراعات على النفط والغاز والحضور العسكري، وهي المدينة التي باتت تصنف ضمن الأكثر فقراً على ساحل البحر المتوسط، طبقاً لبيانات البنك الدولي لعام 2017.

فاليوم وبعيداً عن الأرقام المخيفة عن نسب البطالة والتدهور الاجتماعي ومستوى الفقر بالمدينة والذي وصل لأكثر من 65% نتيجة الانهيار الذي يمر به لبنان، إلا أن مرفأها محط أنظار الدول التي تنظر إليه كضرورة للاستثمار بعد أن بات مرفأ بيروت على الأرض نتيجة الكارثة التي حدثت في 4 أغسطس/آب 2020.

وتظهر في المدينة ملامح التنافس الأمريكي – الروسي – الفرنسي – التركي، في وقت تظهر فيه اللامبالاة الخليجية، وهو ما يعكس صورة مصغرة لما يمر به لبنان الآن.

اهتمام أميركي مستجد.. المرفأ والمنطقة الاقتصادية وجبل النفايات

لا يخفي الأمريكيون اهتمامهم المستجد بمدينة طرابلس اللبنانية، وهو ما يظهر في زيارات سفيرة الولايات المتحدة في بيروت دوروثي شيا المستمرة، وتجولها بين مرفئها ومنطقتها الاقتصادية. الزيارة الثانية للسفيرة، 1 أبريل/نيسان 2021، حملت في طياتها رسائل عدة.

فبحسب مصادر دبلوماسية مطلعة، فإن شيا أبدت اهتماما كبيراً بالمنطقة الاقتصادية الخاصة بمدينة طرابلس، والتي لم تعمل حتى الآن نتيجة الصراع السياسي بين “التيار الوطني الحر” و”تيار المستقبل”، حيث يطالب رئيس التيار، جبران باسيل، بإنشاء منطقة اقتصادية خاصة بالمسيحيين في منطقة البترون.

وتم إنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس بموجب قانون العام 2008 الذي يمنح المستثمرين المحليين والأجانب – في منطقة طرابلس – مجموعة من الإعفاءات. وأقيمت هذه المنطقة على البحر المتوسط، وتؤمن أكثر من 6000 فرصة عمل وتعتبر فرصة للشمال اللبناني وطرابلس للنمو والازدهار. 

وتفيد بعض المصادر أن زيارات السفيرة يطغى عليها طابع الاستماع لمشاريع المرفأ والمنطقة الاقتصادية، خاصة أنه تُطبّق فيه الإجراءات الإلكترونية وتشغيل القطاع الخاص، ناهيك عن أهميته كخط حيوي استراتيجي مع تركيا وسوريا والعراق. ولقد ركزت السفيرة على ضرورة تشغيل المنطقة الاقتصادية، وأبدت حماساً لها ووعدت بدعم مشروع المنطقة في حال بدأ بالعمل.

ووفق مصدر مطلع على زيارات السفيرة الأمريكية لطرابلس خلال المرحلة السابقة، فإنه من الواضح وجود توجه لصياغة مقاربة جديدة حول طرابلس ودورها في المرحلة المقبلة من قبل الأمريكيين، على قاعدة ترسيخ توازنات إقليمية جديدة في لبنان، في ظل انحسار الدور العربي في المدينة.

يأتي هذا في ظل وجود مخاوف من تسلل موجات تطرف جديدة عبر الحدود السورية؛ لذا، طغى التركيز الغربي المستجد على طرابلس، لما تختزنه من قدرات اقتصادية وأبعاد جيو – سياسية، حيث جرى الالتفات إليها بعد انفجار مرفأ بيروت، 4 أغسطس/آب 2020.

ويشير المصدر أن السفيرة الأميركية خلال زيارتها الأخيرة للمدينة التقت بمجموعة فاعلين في المشهد السياسي من مختلف التيارات السياسية، واستمعت منهم لهموم المدينة والمشاريع المتوقفة نتيجة الواقع السياسي والاقتصادي، وأبدت اهتماماً كبيراً بضرورة الاستثمار الإيجابي في طرابلس لما تمثله من وزن وعصب حيوي في المعادلة اللبنانية.

وبعد إثارة ملف جبل النفايات القابل للانفجار من قبل موقع “عربي بوست”، زار وفد أميركي غرفة التجارة والصناعة في المدينة وضم الوفد خبراء في شركتين أميريكيتين تهتمان بالبيئة، حيث حضر الاجتماع إلى الجانب الأمريكي مسؤولون وصحفيون وناشطون في المجال البيئي. وجرى تقديم شرح كامل حول تاريخ الواقع البيئي والكارثة التي قد يسببها في حال وقعت الكارثة على غرار ما حدث في المكسيك منذ أعوام، وما يختزنه اليوم من غازات تلوث الأجواء وتهدد السلامة العامة، وكيفية الحد من مخاطره، وصولاً إلى إزالته بالكامل وتحويله إلى حديقة، ووعد الأمريكيون أن يتم تبني المشروع للحد من خطورة أية كارثة محتملة.

روسيا الحاضرة.. منشآت النفط والتنقيب 

لم تكن موسكو يوماً حاضرة في اللعبة السياسية اللبنانية، لكن حضورها في الواقع السوري وإمساكها بامتداد الساحل السوري جعل منها قبلة للساسة اللبنانيين لارتباط سوريا التاريخي بالمعضلة اللبنانية. لذا، فإن روسيا الحاضرة – مؤخراً – في يوميات الأزمة اللبنانية استطاعت الحصول خلال حكومة سعد الحريري الأخيرة، على إلزام بإعادة صيانة منشآت النفط المهملة منذ عقود واحتكارها لمدة 25 عاماً، إذ أطلقت الحكومة اللبنانية، العام 2017، مناقصة لتخزين 428 ألف طن من مشتقات النفط في المنشآت شمال البلاد، وفازت بها شركة “روسنفت” الروسية، إذ ستقوم بإعادة تطوير منشآت النفط في طرابلس.

وبحسب تفاصيل العقد، فإن الشركة المملوكة من الحكومة الروسية بنسبة 51%، ستستأجر سعات تخزينية من منشآت النفط في طرابلس، بعد أن يتم بناء الخزانات، ولمدة 25 عاماً.

يأتي هذا في وقت الحديث عن بدء التنقيب عن النفط في الساحل السوري والذي شكل أزمة خلال الأسبوع الماضي، حيث تمت “مصادرة” مساحة من البلوك اللبناني تقدر بحوالي 750 كلم وهي ضمن الحدود البحرية لمدينة طرابلس، دون مراجعة السلطات اللبنانية.

هذا الأمر فتح الباب على تواصل لبناني – سوري، حيث جرى البحث عن صيغة للتفاوض مع الجانب السوري، لحماية حدود لبنان البحرية. وقبل أيام استبق رئيس الجمهورية ميشيل عون الأمر، فاتصل بالرئيس السوري بشار الأسد، للتفاهم على التفاوض، فيما تشير المصادر أنه جرى تواصل لبناني مع الجانب الروسي عبر أحد مستشاري رئيس الجمهورية وتم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة للوصول إلى نتيجة مرضية حول المشكلة المتعلقة بالشمال اللبناني وأزمة ترسيم الحدود الشمالية.

الفرنسيون عينهم على طرابلس.. تركيا ومآرب أخرى

تشهد طرابلس اللبنانية، منذ انفجار مرفأ بيروت الصيف الفائت، زيارات متتالية لسفراء أوروبيين وغربيين أبرزهم فرنسا وكندا وسويسرا والسويد. ووفق مصادر في المدينة التقت الزوار الدبلوماسيين، فإن السؤال الأول الذي يجري النقاش به من قبل سفراء الاتحاد الأوروبي هو: ما مدى الحضور التركي في المدينة؟

وتعد المدينة بمثابة الخزان الأكبر للوجود السنّي في لبنان، والتي باتت ترى بالمشروع التركي نموذجاً جاذباً في المنطقة، حيث أوضحت الصحفية من مدينة طرابلس، جنى دهيبي، أن ثمّة ربطاً لزيارة السفيرة الفرنسية لطرابلس بالتنافس مع الأتراك، بهدف جسّ نبض هذه المنطقة الشمالية، وترسيخ الاهتمام الفرنسي بها، خصوصاً في ظل الحديث عن تمدد النفوذ التركي في طرابلس.

لكن الواقع على الأرض، لا يوحي أن لتركيا نفوذاً فعلياً في طرابلس، خصوصاً أن اهتمامها بالمنطقة عبر مؤسساتها مثل “تيكا” لم يتغيّر، وما زال يقتصر على بعض المشاريع الإنمائية كما الحال منذ سنوات.

السفيرة الفرنسية، آن غريو، هي من بين السفراء المهتمين بالمدينة منذ وصولها لبيروت منذ أشهر، وتُجري زيارات مستمرة لها، حيث زارت بلدية المدينة وغرفة التجارة بالإضافة للمرفأ والمنطقة الاقتصادية الخاصة، واستمعت من كل المسؤولين في المدينة عن الواقع في المدينة والمشاريع التي من الضروري تفعيلها وتحضيرها لمساعدة أهالي المدينة الأفقر في المنطقة.

وفي مطلع مارس/آذار 2021، أعلنت السفيرة الفرنسية عن تقديم مساعدة استثنائية بقيمة 1.1 مليون يورو إلى منظمات تؤمن مساعدة مباشرة لسكان طرابلس وجوارها. وحسب المعلومات، فإن منظمات وجمعيات أهلية تولت من خلال المنحة الفرنسية، تقديم معونات غذائية لـ 20 ألف عائلة فقيرة لمدة 6 أشهر.

وفي 11 يناير/كانون الثاني 2021، زارت السفيرة غريو مرفأ طرابلس، كما أن الشركة الفرنسية العالمية CMA-CGM استحوذت على حصص شركة Gulftainer التي كانت تقوم بتشغيل رصيف الحاويات بمرفأ طرابلس.

ومن فبراير/شباط 2021، بدأت الشركة نفسها تستخدم مرفأ طرابلس كمحطة أساسية لها في شرق البحر المتوسط، من خلال خطين بحريين لسفنها تمر عبر دول متنوعة أبرزها قطر والإمارات وباكستان والهند مروراً بالسعودية ومرفأ طرابلس اللبناني، وصولاً إلى مالطا وجنوى الإيطالية، هذا إلى جانب خدمات البضائع المحلية والمسافنة، ليرتفع معهما المعدل الشهري لسفن الحاويات التي تؤم مرفأ طرابلس من 12 إلى 22 سفينة، كما اشترت الشركة نفسها أسهم شركة Gulftainer لتشغيل رصيف الحاويات في مرفأ المدينة.

هل للأتراك دور في طرابلس؟

نفي مرجع سياسي في مدينة طرابلس وجود أي تحرك تركي في الشمال اللبناني عموماً، وأوضح أن الربط يأتي من فكرة تزايد المخاوف من تزايد شعبية الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وسط الحاضنة السنيّة اللبنانية والتي تشعر بالخوف والإحباط بعد الانسحاب العربي وفشل “الربيع العربي” و”وقوف تركيا إلى جانب الشعوب المضطهدة”، على حد تعبير السياسي من طرابلس.

ويرى المصدر أن الالتصاق اللبناني بتركيا يعود للتاريخ ويستمر مع إلغاء الأتراك لفيزا دخول اللبنانيين لتركيا منذ 10 أعوام حيث أصبحت مدن تركيا متنفس اللبنانيين للسياحة والتجارة والإقامة. ووفق المصدر، فإن الحديث عن دور تركي في طرابلس يمثل “شماعة” يستخدمها خصوم تركيا في المنطقة لجذب الأنظار وتحشيد الشوارع المذهبية الأخرى، ويؤكد المرجع أن تركيا الدولة لم تقدم مساعدات في لبنان إلا عبر الحكومة اللبنانية أو الجيش اللبناني حتى اللحظة.

ولا يخفي المصدر أن الجانب التركي رفع مستوى اهتمامه بلبنان، لكن هذا الاهتمام لم يترجم في السياسة حتى اللحظة، وأن الرئيس أردوغان تربطه علاقة مميزة برئيس الحكومة المكلف سعد الحريري وبمعظم رؤساء الحكومات السابقين، بالإضافة أن الدبلوماسية التركية في بيروت حاضرة على صعيد لقائها بكل القوى والأطراف.

وأوضح أن الحديث عن ضخ مال تركي لمجموعات في طرابلس “ليس دقيقاً”، فمنظمات غير حكومية تركية تدعم نظيرتها في لبنان على صعد إنسانية واجتماعية وصحية، “هذا طبيعي فهذه المنظمات حاضرة كقوة تركية ناعمة في كل الدول التي تعاني من أزمات”، على حد تعبيره.

من هذا المنطلق، يرفض المصدر اعتبار دعم المنظمات غير الحكومية التركية لتيارات وجمعيات ذات طابع إسلامي أنها تقوية لمشروع الإسلام السياسي في لبنان، فالتيارات الإسلامية السنيّة ضعيفة جداً وليست حاضرة في اللعبة السياسية، بالإضافة أنها خسرت آخر معركة برلمانية منذ 3 أعوام.

وهنا يربط المصدر السياسي التخوف الفرنسي من تركيا بخشية فرنسية من استثمار تركي في مرافئ لبنانية، وخاصة طرابلس حيث يتمتع المرفأ بعلاقة جيدة مع مرافئ تركية كمرفأ مرسين، الذي تسير به الرحلات اليومية بين المدينتين خلال فصل الصيف، وهناك حركة استيراد قوية بين طرابلس وتركيا يجريها تجار لبنانيون لسهولة نقل البضائع والتسهيلات المقدمة.

هذا الأمر يشكّل تحدياً صارخاً للدول المتنافسة مع تركيا اقتصادياً وسياسياً فيما أن الصراع في البحر المتوسط بين تركيا وفرنسا بلغ مداه وطرابلس اللبنانية نقطة وصل مهمة بين قبرص واليونان وسوريا وتركيا.

العرب غائبون: ننتظر الحكومة

كانت طرابلس اللبنانية، منذ انتهاء الحرب الأهلية وانتظام الحياة السياسية اللبنانية، محط أنظار دول الخليج العربي، وتحديداً السعودية، التي كانت تعتبر لعقود ماضية “حاضنة السنّة” عبر دعم مشروع رئيس الحكومة الراحل، رفيق الحريري، في الحياة السياسية تلاه دعم نجله سعد الحريري عقب اغتيال الأب.

لذا، فإن الاستثمار السعودي في طرابلس كان من خلال تمويل مجموعة مشروعات تنموية محدودة، ناهيك عن ارتباط السنّة اللبنانيين بالمملكة خلال فترة الوجود السوري الحاكم للبنان، والذي استمر من خلال احتواء مشروع “14 آذار” الذي يخاصم حزب الله والتيار الوطني الحر وحلفاء سوريا وإيران.

كانت طرابلس مسرحاً للأحداث المتعلقة بهذا المشروع والتي تبلورت عبر الصراع الدامي في منطقتي باب التبانة جبل محسن منذ العام 2009 حتى العام 2014، حيث كانت المدينة بمثابة “صندوق بريد” بين السعوديين والإيرانيين.

لكن ومنذ عقد التسوية الرئاسية في لبنان، حاول زعيم “تيار المستقبل” سعد الحريري إقناع السعوديين أن التسوية ستكون لصالح المملكة إذ سيحاول نقل تيار الرئيس عون من كنف حزب الله الى كنف العرب، لكن هذا الشيء لم يحصل.

عملياً، بدأت المملكة بالتراجع من طرابلس بشكل تدريجي بعد أن كان سفيرها، وليد البخاري، ضيفاً أسبوعياً مع نظيره الإماراتي على طرابلس، حيث توقفت المساعدات الإنسانية التي كانت السفارة تقدمها للمدينة، بالإضافة أن العديد من المؤسسات الاجتماعية والخيرية توقف دعمها في ظل سياسة المملكة لتجفيف دعم الجمعيات الإسلامية.

فالمملكة، تاريخياً، كانت تقوم بدعم الجمعيات السلفيّة ورجال الدين المحسوبين على التيار السلفي، لكن السياسة الجديدة للسعودية امتدت للبنان حيث أوقف هذا الدعم بشكل كامل.

ووفق مصادر مطلعة، فإن المملكة كانت قد وعدت – العام 2010 – بدعم المنطقة الاقتصادية الخاصة بطرابلس والاستثمار فيها، لكنها تراجعت عن وعدها العام 2015 لأسباب غير معلومة، كما أن شركات النقل البحري السعودي توقفت منذ أعوام – بحسب المصادر – عن استخدام مرفأ المدينة لنقل البضائع.

وفي ظل الجفاء بين السعودية وحليفها التاريخي، سعد الحريري، لا تحضر الأولى في المدينة منذ أعوام حيث الاهتمام الأمريكي والأوروبي والتركي. وبحسب المصادر، فإن المملكة تلقت دعوات لإعادة حضورها في الساحة اللبنانية وطرابلس خصوصاً أن هذه الدعوات أتت في ظل الحديث عن تمدد تركي وتوغل لجماعات محسوبة على حزب الله في المدينة، لكن هذه الدعوات لم تلقَ آذاناً صاغية لأن المملكة تنتظر شكل الحكومة وتركيبتها لتحدد موقفها وخاصة أنها مصرة على عدم مشاركة حزب الله في الحكومة.

العنوان الرئيسي: “أمريكا طامعة في المرفأ وروسيا تبحث عن النفط، أما فرنسا فتخشى تركيا.. صراع دولي على طرابلس اللبنانية”

المصدر: عربي بوست

مصدر الصور: السياسة – سفير الشمال.

موضوع ذا صلة: ليلة “حرق” طرابلس.. هل تدخلت قوى خارجية لحسم تشكيل الحكومة؟


شارك الخبر
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •