الشرق الأوسط يتراجع على سلّم الأولويات الاستراتيجية الأميركية، بصرف النظر عن التركيز على الملف الإيراني. وعلى العكس، فإنه يتقدم في الاهتمامات الاستراتيجية الروسية. ولم يعد مجرد منطقة لتصدير النفط إلى الصين واستيراد الكثير من إنتاجها بعدما صارت “مصنع العالم”. والمفارقة هي أن أميركا تفعل ذلك تحت عنوان التفرغ لمواجهة روسيا والصين، في حين تستعد هاتان الدولتان للمواجهة في الشرق الأقصى والشرق الأوسط وإفريقيا وحتى في أوروبا.
فالوجود العسكري الروسي في سوريا هو قاعدة تكريس دور موسكو كقوة عالمية، ومنصة للانطلاق نحو ترتيب قاعدة بحرية على البحر الأحمر في السودان بعد القواعد على البحر المتوسط في سوريا. فضلاً عن لعب دور في ليبيا والعراق ولبنان وبعض بلدان الخليج، إلى جانب العلاقات مع إسرائيل وتركيا وإيران وإثيوبيا، وهي القوى الإقليمية الأربع التي تلعب على المسرح العربي. وقوة الصين الاقتصادية صارت أيضاً قوة عسكرية ودبلوماسية وتكنولوجية تبحث عن دور جيو – سياسي يعبر عنها.
أميركا والصين وروسيا
وهذا ما تؤكده الوثائق وتعبر عنه الزيارات. ففي وثيقة “التوجيه الاستراتيجي الموقت” لإدارة الرئيس جو بايدن، ثلاثة مقاطع معبّرة: جاء في المقطع الأول أن “الوجود العسكري الأقوى للولايات المتحدة سيكون في منطقة المحيطَين الهادئ والهندي وأوروبا من أجل ردع أعدائنا والدفاع عن مصالحنا”. وجاء في المقطع الثاني، أن “الولايات المتحدة يجب ألا تخوض وألا تشارك في حروب أبدية أودت بحياة الآلاف وأهدرت تريليونات الدولارات، وسنعمل على إنهاء أطول حرب أميركية في أفغانستان”. ونصّ المقطع الثالث على “ترك القدر اللازم من القوة في الشرق الأوسط للقضاء على الشبكات الإرهابية وردع العدوان الإيراني وحماية المصالح الأميركية الأخرى. لكننا لا نعتقد أن حل مشكلات المنطقة يكون باستخدام الوسائل العسكرية، ولن نعطي شيكاً على بياض لشركائنا الذين يمارسون سياسات تتعارض مع القيم الأميركية والمصالح في الشرق الأوسط.”
وفي المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، قال زعيم الحزب، الرئيس شي جين بينغ إن “الصين ستتحرك على مقربة من المسرح المركزي لقضايا العالم”. ويقول أستاذ التاريخ وسياسات الصين المعاصرة في جامعة أكسفورد رانا ميتر، في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز”، إن “قوة الصين دينامية بروتينية” لا تبحث عن صنع ثورات في العالم، لكنها تضع نفسها في موقع “قائد الجنوب الكوني” لأن “تنامي المصالح الاقتصادية والدبلوماسية للصين يتطلب توسيع الحضور الأمني الصيني الكوني”.
وفي وثيقة روسيا على مقلب الألفية، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي خبر الغرب ورآه “منحطاً تستطيع شراء أي شخص فيه”، إن “روسيا لن تصبح نسخة عن الغرب، وهي دولة قوية ثابتة تشكل القطب المواجه للغرب”. لا بل أن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أعلن بصراحة في “مؤتمر ميونيخ للأمن” أن “النظام الليبرالي العالمي” الذي صنعته نخبة الغرب انتهى، والبديل هو نظام “ما بعد الغرب”.
زيارات معبّرة
والمشهد معبّر من خلال الزيارات. الزيارة الأولى لوزيرَي الخارجية والدفاع الأميركيين، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، كانت إلى اليابان وكوريا الجنوبية والهند لتعزيز التحالفات في مواجهة الصين في المحيطين الهادئ والهندي. لا وزير زار الشرق الأوسط، ولا عمل يتجاوز الإدانة الخطابية لاعتداءات الحوثيين على المدنيين في السعودية، الشريك الاستراتيجي لأميركا. استعداد يومي للتفاوض مع إيران. زيارات مسؤولين إسرائيليين عن الأمن إلى واشنطن للبحث في العلاقات الاستراتيجية. وحده قائد القيادة المركزية الجنرال، كينيث ماكنزي، زار بيروت وأكد دعم الجيش اللبناني، كما جال على عدد من العواصم الأخرى.
أما الوزير لافروف، فإن أحدث محطاته في الشرق الأوسط كانت في السعودية والإمارات وقطر، وقال الرئيس بوتين إن من بين الأهداف في “منطقة مهمة واعدة، تمتين علاقاتنا الاقتصادية الخارجية والصداقات التقليدية”. وأكثر الباحثين عن دور روسي هو لبنان المأزوم الذي صارت موسكو محطةً لقادة أحزابه الذين لا مكان لمعظمهم في واشنطن، ولا مهرب لأميركا من الشرق الأوسط، ولا إمكانات لدى روسيا على قدر طموحها ورغبة المنطقة في دور لها. والصين ليست على عجلة وهي لا تزال تعمل بوصية دينغ شياو بينغ “خبئ قوتك وانتظر وقتك”.3
المصدر: إندبندنت عربية.
مصدر الصورة: سبوتنيك.
موضوع ذا صلة: لا تيأسوا أبداً من الولايات المتحدة
رفيق خوري
رئيس تحرير سابق / عضو في مجلس نقابة الصحافة واتحاد الكتاب اللبناني – لبنان.