تنعكس التطورات في العلاقات بين الدول سلباً أو إيجاباً على أطرافها المباشرة، وهناك حالات لها تأثيرات غير مباشرة على البعض. فالسودان من أكثر المستفيدين من أي تقدم بين مصر وقطر، حيث يريد أن يحافظ على علاقة جيدة مع البلدين، ويضعه التوتر بينهما في مأزق، فالميل ناحية دولة يفسر على أنه ابتعاد عن الثانية.
يستطيع المتابع للأحداث وضع يديه بسهولة على جوانب مهمة في المعادلة الحاكمة بين أطراف مثلث، مصر وقطر والسودان، وسوف تظهر المزيد من ملامحه في الفترة المقبلة، وربما تكون كل خطوة إيجابية بين القاهرة والدوحة لها أصداء مماثلة في الخرطوم، وتحل أزمة تلازمها، منذ سقوط نظام الرئيس عمر البشير.
تلقى رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، دعوة من أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، لزيارة الدوحة بعد أيام قليلة من الحديث عن تحسّن ظاهر في العلاقات بين مصر وقطر، وارتفاع لافت في منسوب التعاون بين القاهرة والخرطوم وبلوغ التنسيق بينهما درجة رفيعة في ملفات إقليمية مشتركة.
تذكّر دعوة البرهان أخيراً بما حدث عقب الإعلان عن المصالحة الخليجية مع قطر بقمة العُلا، 5 يناير/كاون الثاني 2021، والتي فتحت الطريق أمام ترطيب الأجواء بين القاهرة والدوحة؛ ففي الشهر نفسه، وصل إلى قطر نائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في أول زيارة لمسؤول سوداني رفيع بعد عزل البشير، وبدت مؤشراً على التأثير المتدفق لهذا المثلث.
يؤدي مد الخيط على استقامته إلى تفسير جزء معتبر من التطور في العلاقات بين الخرطوم والرياض بالمصالحة الخليجية، وعكسته زيارة رئيس الحكومة عبدالله حمدوك للسعودية مؤخراً، فعندما يحين الوقت لقيام البرهان بتلبية الدعوة وزيارة الدوحة يمكنه التوقيع على ما يشاء من اتفاقيات اقتصادية معها على غرار السعودية.
بالطبع، لا يرهن السودان موقفه من قطر أو غيرها بعلاقة الأخيرة مع مصر أو السعودية، لكن التحسّن يرفع حرجاً سياسياً عن سلطته، من زاوية الأواصر الوثيقة بين الدوحة ونظام البشير وتوجهاته الإسلامية، بكل ما حملته من روابط مع جماعة “الإخوان المسلمين” ومتطرفين وإرهابيين، وتقف القاهرة في الموقف المقابل لكل هؤلاء.
يكسّر ترطيب الأجواء بين مصر وقطر عقدة هذه المسألة، فالسلطة الانتقالية في الخرطوم جاءت بعد عزل البشير والخصام مع توجهاته الإسلامية، ما يؤثر على الموقف الداخلي العام من قطر، ولن تتحسن علاقتها بمصر ما لم تضع الدوحة حدا لدعمها للمتشددين وأطيافهم السياسية، وهو ما يوفر مبررا للسلطة السودانية أمام المواطنين بأن أي تطور مع قطر بعيد عن رواسب النظام القديم.
في الوقت الذي يبدو هذا التوازن مقنعا لمن ثاروا على البشير ويصممون على إزالة ما يوصف بالتمكين، يلقى رضاء من أنصار الحركة الإسلامية، لأنهم يتصورون أن رفع مستوى العلاقات مع الدوحة يحد من استهدافهم بالتبعية، وينطوي على رسالة بعدم التمادي في المواجهة، لأن التقارب مع قطر عقب المصالحة الخليجية لم يتضمن شرطاً واضحاً بتقويض علاقتها مع الإسلاميين.
تراعي الخرطوم أن لقطر دوراً مؤثراص في إقليم دارفور، الذي يشهد توترات وصراعات من وقت لآخر، ولها علاقات مع بعض الحركات المسلحة التي باتت جزءاً من السلطة الحاكمة، وكل تطور رسمي مع الدوحة يمكّن السودان من احتواء قادة هذه الحركات ويضمن عدم العودة إلى التمرد، والتصميم على الوفاء باستحقاقات السلام الشامل.
تحاول السلطة السودانية الانفتاح على جهات متباينة في هذه المرحلة، وعدم ربط نفسها بمحور إقليمي معين لتفادي تكرار أخطاء البشير، ورسم خارطة العلاقات بناء على شبكة المصالح، لكنها بدت مبكراً قريبة من محور مصر – السعودية – الإمارات، وبعيدة نسبياً عن محور قطر – تركيا – إيران، لدواعٍ فرضتها طبيعة المصالح التي لها علاقة وثيقة بالأوضاع في السودان أكثر من حسابات هذا المحور أو ذاك.
من هذه الحسابات أن التراجع عن السير في خط البشير الخارجي يفيد السلطة الانتقالية في تأكيد القطيعة مع نظامه، ويقلل اتهامات راجت بشأن التشكيك في تصرفات المكون العسكري حيال التعامل مع عناصر النظام السابق، علاوة على الرسالة الجذابة لقوى دولية رأت في تحالفات السودان الخارجية خلال هذا العهد أنها تحمل وجهاً إرهابياً.
أرادت الخرطوم تصدير صورة جديدة، لأن المواطنين لن يقبلوا المضيّ في طريق قاتم مرة أخرى؛ لذلك، لم تتطور العلاقة مع قطر وتركيا وإيران، لكنها أيضاً لم تتدهور وظلت في الخلفية لحين تتاح فرصة للقيام باستدارة تمنع وقوع السودان في تناقضات تضعه بين فكي كماشة، رؤية كاسحة ضد “فلول” البشير في الداخل وأصدقائهم بالخارج.
تحيل هذه المعطيات إلى أن السودان لم يربط تطور علاقته مع مصر بالموقف من قطر، غير أن التحسن يمثل صيغة مريحة تحافظ بها الخرطوم على الدولتين معاً، وتحل بموجبها أزمة داخلية، فالدوحة كانت متغلغلة في السودان ولها استثمارات كبيرة، ويمكنها تقديم مساعدات اقتصادية إضافية للخرطوم هي في أمسّ الحاجة إليها.
يقلّب السودان خياراته مع القطريين، وقد يقوم بتطويرها على مستويات مختلفة في وقت لا تزال القاهرة في مرحلة جس النبض، ولم يُحسم المدى الذي يمكن أن تبلغه العلاقات معها، وقد تسير على وتيرة بطيئة لفترة ليست قصيرة إلى حين تقتنع مصر بأن قطر لم تعد مصدر إزعاج سياسي وإعلامي وأمني.
من المتوقع أن تستغل الخرطوم الهدوء المتوافر حالياً بين قطر، من ناحية، ومصر والسعودية، من ناحية أخرى، لإعادة التموضع في أسرع وقت ممكن، وقبل أن يحدث طارئ يعيد التوتر بين الجانبين وتنعكس تداعياته السلبية على السودان، فمن المهم تصحيح الأوضاع الآن ووضع الحصان أمام العربة ليمضي بالعلاقات مع قطر.
يعتقد السودان أن تعدّد خيارته هو إحدى ضمانات السلطة لضبط العلاقات مع مصر، فلا تزال القاهرة محل شكوك لدى فئة من السودانيين ترى أنها رابحة من كل خطوة تقوم بها حيال بلدهم، كما أن الخرطوم تريد ترسيخ التعاون مع القاهرة على أساس المصالح المتبادلة وليس التبعية التاريخية، ومن الضروري أن تملك ورقة مثل قطر تمنحها مرونة في التعامل مع مصر ولا تجعلها أسيرة لتقديراتها أمام الشارع.
المصدر: صحيفة العرب.
مصدر الصور: الشرق – أرشيف سيتا.
موضوع ذا صلة: التقارب المصري – السوداني مدفوع بأزمتي النيل والاقتصاد*
كاتب – مصر