ركزت معظم التحليلات السياسية على رغبة الولايات المتحدة في الانسحاب من الشرق الأوسط وإعادة تركيز جهودها على تعزيز موقعها في آسيا. رغم ذلك، تدل الوقائع على أن للولايات المتحدة مصالح دائمة في الشرق الأوسط. ومن أجل ذلك، حدّدت الإدارة الجديدة أهدافها بإعادة بناء العلاقات مع حلفائها التقليدين ولمّ شملهم، وتأمين إسرائيل وتعزيز السلام بينها وبين العرب، والتصميم على إنهاء الحروب في اليمن وليبيا، عبر الضغط على دول المنطقة لتقديم تنازلات وتوفير حوافز للخصوم لإنهاء الصراعات.
وقد أعلنت أن استراتيجيتها الأساسية تركز على العودة إلى طاولة المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي، إذ يرى الرئيس الديمقراطي جو بايدن أن البرنامج النووي والصواريخ الباليستية تشكل خطراً على أمن إسرائيل والمنطقة. أما هدفه الحقيقي من إعلان رغبته في العودة إلى المفاوضات، فهو السعي مرة أخرى لاتفاق جديد يهدف إلى بحث قضيّة منشآتها النووية وتفتيشها، والسعي إلى الحد من تأثيرها في المنطقة، من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان.
أدى الرئيس بايدن دوراً حاسماً، ليس في الحرب على العراق فقط، إنما في الفوضى التي سادت في أعقابها أيضاً، وهو يعتبر تجربته في السياسة الخارجية واحدة من مؤهلاته، ويشكل العراق تحدياً شخصياً له، إذ يعتقد أن سجله الطويل في الشؤون الخارجية، وفي العراق على وجه الخصوص، يؤهّله لمعرفة تناقضات التركيبة الداخلية وإيجاد الحلول لها. أما منتقدو سياسته، فيعتبرون أن العراق مثال رئيسي على تناقض ادعاءاته.
وفي إطار سعيه لتنفيذ استراتيجيّته ولأسباب تتعلَّق بأهمية تحقيق مصالح بلاده الدائمة في المنطقة، أعلن أن العراق يكتسب أهمية قصوى لتوحيد الحلفاء واحتواء توسع قوة الجمهورية الإسلامية.
ضمن هذا الإطار، صرح السّفير الأميركيّ في العراق، ماثيو ميلر، أن الولايات المتحدة ستسعى لمساعدة العراق على تأكيد سيادته في الداخل والخارج، من خلال منع عودة ظهور “داعش” والعمل على استقراره، ما يعني الرهان على تسهيل إجراء الانتخابات، والمساعدة في القضاء على الفساد، وترشيد السياسة المالية نحو التنمية الاقتصادية والخدمات الإنسانية، إذ أكّد أنَّ واشنطن ستبقى شريكاً ثابتاً للعراق وشعبه، وسيكون لها وجود عسكري وقائمة بمشاريع بناء الدولة المرتبطة بها لعقود قادمة.
جرى تقليص وجود القوات الأميركية في البلاد إلى 2500 جندي، يناير/كانون الثاني 2020، بأمر من الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي صادق على هذه الخطوة قبل أن يترك منصبه، أي بعد حوالي عام تقريباً على اغتيال الفريق قاسم سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس على الأراضي العراقية، وإثر تصويت البرلمان العراقي على قرار طرد جميع الجنود الأجانب من الأراضي العراقية، وفي أعقاب عشرات الهجمات على القواعد العسكرية التي تستضيف قوات أجنبية في جميع أنحاء البلاد، لكن يبدو أنه من غير المرجح حتى الآن أن تسحب إدارة بايدن القوات الأميركية المتبقية من العراق، وقد تستخدم المحادثات الدبلوماسية لإعادة ضبط وجود قواتها في إطار توسيع مهمة الناتو.
ضمن هذا المشروع، أعلن الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، مارس/آذار 2021، أن الحلف سيوسع نطاق وجوده بشكل كبير إلى 4 الآف مستشار وموظف تدريب، إذ تقلّص وجود التحالف بعد الهزيمة الإقليمية لتنظيم “داعش”.
تعتبر الدوائر المقرّبة من إدارة بايدن أن أفضل طريقة تتماشى مع اهتمامه بالعراق تتمثّل في المضي قدماً بالدبلوماسية والعودة إلى القوة الذكية باستخدام الأدوات والسياسات، للتأثير من خلال وسائل أخرى غير الجيش. وتتمثَّل إحدى الطرق في تحميل الحكومات المسؤولية عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان وممارسة الضغط لتحمل تلك التبعات من أجل تغيير مستدام في السلوك.
سيتطلّب هذا النهج من الإدارة أن تستخدم جميع الأدوات المتاحة لها، حتى مع بعض الحلفاء. وتتمثل الاستراتيجية الفعالة في دعم الأجيال الشابة في الدول المستهدفة، لتكون أكثر قدرة وأفضل تجهيزاً للتنظيم وقيادة الإصلاحات والتغيير في بلدانها، بحيث يمكنهم الاستفادة من برامج التواصل بين الناس، مثل التكنولوجيا، ومن نقاط القوة الأميركية. قد لا تكون مثل هذه البرامج براقة مثل المساعدات العسكرية، ولكنها أقل كلفة، وتتجنب الحكومات الصلبة، ولديها فرصة لتغيير مجتمعي.
في ظل هذه التوجهات، جرى الإعلان عن جولة جديدة من المحادثات الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة، 7 أبريل/نيسان 2021. تأتي هذه الجولة في أعقاب جولات الحوار السابقة التي عقدت بين رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، في أغسطس/آب ويونبو/حزيران 2020 مع إدارة ترامب، حيث تم الاتفاق على توسيع الدعم لقطاع الطاقة العراقي وإبرام عقود مع شركات أميركية.
رئيس الوزراء العراقي وصف استئناف الحوار بأنه فرصة للضغط من أجل سحب قوات الولايات المتحدة المتبقية في العراق، والتي يبلغ قوامها 2500 جندي، ويرى أن 60% من هذه القوات تم سحبها.
تستند العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق، بما في ذلك وجودها العسكري في البلاد، إلى اتفاقية إطار عمل استراتيجي تم توقيعها العام 2008، تدعو إلى تعاون دفاعي وثيق لردع التهديدات الموجهة إلى “سيادة العراق وأمنه وسلامة أراضيه”.
ويسعى رئيس الوزراء العراقي، في ظل الدعم الأميركي، إلى سياسة متعددة الاتجاهات في المنطقة لتهدئة التوترات في الداخل وفتح قنوات الحوار بين مختلف الأطراف المتصارعة. وتأتي المحادثات المطلوبة مؤخراً بين العراق والولايات المتحدة في هذا السياق، إذ ينبغي، بحسب التصوّرات، أن تزيد من تمكين العراق في المنطقة.
وكان الكاظمي قد أطلق تصريحات حول مشروع “الشام الجديد” أثناء زيارته لواشنطن، وهو المشروع الذي كان يعده رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، وهو مستنسخ عن مشروع للبنك الدولي، ويتحدث عن إطار يجمع العراق والأردن وسوريا ولبنان مصر وتركيا، ويضم إسرائيل في حال التطبيع، ويتضمَّن إنشاء سكة حديد تربط دول الخليج بالعراق عبر إنشاء شبكة مصالح. إنها خطوة من أجل تشكيل محور عربي بات اليوم واضحاً، من خلال دخول السعودية على خط المشاريع الاستثمارية، وليس خافياً أنه محاولة من الكاظمي للابتعاد عن المظلة الإيرانية.
لا يقتصر هذا المشروع على الاقتصاد، ومد أنبوب النفط إلى الأردن، واستجلاب الكهرباء من مصر، وفتح المجال لليد العاملة المصرية فحسب، بل ستليه أيضاً، بحسب المسؤولين العراقيين، خطوات أمنية وعسكرية. وتقوم سلسلة من الوفود من دول الخليج والدول المجاورة الأخرى بزيارة العراق بانتظام، كجزء من الحملة الدبلوماسية العراقية. وقد عقدت 3 اجتماعات بين وزراء خارجية هذه الدول.
ومن المقرّر أن يستضيف الكاظمي قمة ثلاثية مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردني، الملك عبد الله، في وقت لاحق، أبريل/نيسان 2021. إنها خطوات تنفذها الدول الثلاث المتأزمة اقتصادياً لحلّ بعض مشكلاتها الحيوية، لكنها لا تخرج عن الإطار الأميركي المرسوم، في ظل سعيه إلى الحد من تأثير إيران وتطويقها واحتوائها، وإن كانت هذه المبادرات ضرورية في ظلّ الأزمات الاقتصادية وجائحة “كورونا”.
المصدر: الميادين نت.
مصدر الصور: سي.إن.إن عربية – سبوتنيك.
موضوع ذا صلة: إعادة النظر في وضع القوة الأمريكية في الشرق الأوسط
د. هدى رزق
باحثة في الشأنين التركي والإقليمي – لبنان