عندما يذوب الطعام المجمد، تتساقط سوائله محملة بالكثير من نكهات الطعام. إلا أن هناك تقنية ما لعملية التجميد يمكن من خلالها أن تمنع هذه النكهات الطازجة من الزوال. وقد عمل أووادا نوريؤ على تطوير هذه التقنية المسماة CAS، في ورشة عمله المتواضعة، وتستخدم في علوم الطب الحديث وكذلك في مجالات صناعة الأغذية.
تطوير التقنيات لإرضاء الأذواق
يصف أووادا نوريؤ، رئيس شركة “آبي” المتخصصة في صنع المُبردات، نفسه بتواضع بقوله بأنه صاحب ورشة عمل. ويظل وجهه هادئ وخالٍ من التعبيرات وهو يتحدث عن التقنية الخاصة بشركته، لكن صوته يحمل الكثير من الحماسة والشغف. وهو غير ملم بذلك القدر من المصطلحات التقنية عندما يشرع في الحديث، حيث يوضح أنه لم يدرس قط في أية مدرسة أو كلية هندسية متخصصة. وعلى حد تعبيره، فإن همه الأساسي هو البحث عن أفضل السبل لإرضاء المزارعين والصيادين والطهاة والمستهلكين.
ويقول “علمني والدي أن أصبح حرفياً، لذلك لا يمكنني التظاهر بأنني مهندس أو أي شيء من ذلك القبيل. فالحرفي ينصب اهتمامه على رسم الابتسامة على وجه المستخدم المقبل، وهذا يكفي بالنسبة لي. وقد بدأت في صنع أجهزة ومعدات المطابخ المخصصة للمعجنات وجُبت الأرجاء لبيعها لمصلحة مصنع والدي في مدينة أراكاوا بطوكيو.”
في العام 1973 أي بعد حوالي 7 أعوام من بدء العمل لدى والده، تم تكليفه بعمل مُعدة يمكنها تجميد الكريمة المخفوقة الطازجة. في ذلك الوقت، كان الأمر المتعارف عليه بأنه من المستحيل تجميد الكريمة لاستخدامها في وقت لاحق، لأن درجات الحرارة المنخفضة وعملية إزالة الجليد ستؤدي إلى فصل الماء، تاركةً الكريمة كشيء مثل الزُبدة. وفي الوقت نفسه، كان الأمر بمثابة تحدٍ مغرٍ، حيث كان من الصعب التعامل مع الكريمة المخفوقة الطازجة بسبب تلفها السريع، وإذا كان من الممكن تجميدها، فيمكن للناس استخدام كريماتهم المفضلة وغيرها من المعجنات في أي وقت يحلو لهم.
ويقول “أنا أقوم بصنع المعدات، لذا لم يكن لدي أي فكرة عن مكونات الأطعمة أو أي شيء من ذلك القبيل. لذلك ذهبت أطرق أبواب الشركات التي تصنع هذه المكونات لأرى ما إذا كان بإمكان أي شخص أن يساعدني في العمل على صنع مُبرد يمكنه التعامل مع الكريمة، وما إذا كانوا سيسمحون لي بالحضور والدراسة معهم خلال الفترة الصباحية. إلا أن كل الأماكن التي زرتها رفضت الأمر حتى وافقت في نهاية المطاف شركة فوجي أويل المتخصصة في منتجات الزيوت النباتية.”
وقد درس أووادا مع شركة فوجي، وعاد إلى مصنعه للعمل على التصاميم مع الحرفيين الأكبر سناً هناك. وفي العام 1975، أتت جهوده أُكلها مع أول مُبرد في العالم يمكنه بنجاح تجميد الكريمة المخفوقة الطازجة لاستخدامها لاحقاً.
وقد قام أحد صانعي الحلوى في اليابان، والذي قد كان درس في فرنسا باستخدام الكريمة المجمدة التي ظهرت حديثاً وأوصى بها لإحدى المدراس المهنية الفرنسية الراقية. الأمر الذي أدى إلى استخدام المُبردات في فرنسا، ومن ثم نالت الفكرة اهتمام أحد الطهاة الحاصل على جائزة “ميليور أوفغيرير” الفرنسية (هي جائزة تُمنح لخبراء المهن الحرفية)، والذي بدوره قام بتجربة تجميد العديد من المكونات المختلفة باستخدام ماكينة التبريد الجديدة. إلا أن النتائج أظهرت أنه يمكن استخدامها فقط في المعجنات ولا شيء آخر.
ويقول “عندما سمعت ذلك، سافرت إلى فرنسا وشرحت لهم أنه نظراً لأن المُبردات كانت تستهدف الكعك، فالأمر لم يكن مفيداً على السواء مع المكونات الطازجة الأخرى. ثم قالوا إنهم سيساعدونني إذا قمت بصنع مُبرد يمكنه التعامل مع أنواع أخرى من الأطعمة. حيث رأوا أنه إذا كنت تمكنت من عمل مُبرد خاص للكعك، فيمكنني فعل الشيء نفسه بالنسبة للمأكولات البحرية الطازجة والخضروات أيضاً. لذلك، قمت بزيارة مطعم حائز على نجمة ميشلان، حيث تعلمت مدى أهمية المكونات الطازجة بالنسبة للمطبخ الفرنسي. وفهمت حقاً كيف كانت المكونات المجمدة بالطريقة المعتادة غير مناسبة له، الأمر الذي ألهمني بشغف، ورغبت حقاً في صنع مُبرد يحوز على تقديرهم.”
تقنية المايكروويف للمُبردات
بعد تركه شركة والده رغبة في الاستقلال والعمل بمفرده العام 1989، واصل أووادا بحثه وتطويره في مجال تكنولوجيا التبريد. وخلال تواجده داخل أروقة المطبخ الفرنسي، أدرك أنه يجب أن تحافظ المكونات على نكهتها الطبيعية التي لا تتغير حتى بعد التجميد. فمسألة أن تصبح “بقايا الطعام صالحة للأكل” و”أن تبقى لذيذة” ليست بالأمر نفسه. فعندما يتم إذابة المكونات، فإنها تفقد سوائلها، حيث يتطاير ماؤها الذي يحتوي على عناصر النكهة، مثل الأحماض الأمينية، مما يضعف من نكهة الطعام المذاب وبالتالي مذاقه.
اعتقد أووادا أن السبب في ذلك هو تفتت الخلايا أثناء عملية التجميد، وكان التركيز الأساسي في بحثه على كيفية منع هذا التفتت. فمعدات التجميد التقليدية تستخدم رياحاً باردة بدرجة حرارة تتراوح بين -40 و -50 درجة مئوية، مما يؤدي إلى تبريد غشاء الخلايا سريعاً ولكنه يخلق فرقاً في درجة الحرارة الداخلية. الأمر الذي أدرك معه أن هذا هو ما يتسبب في تمزق الخلايا، وكرس نفسه لإيجاد طريقة لموازنة درجات الحرارة الداخلية والخارجية على حد سواء. وكان ذلك عندما فكر في التقنية المستخدمة في أجهرة الميكروويف.
ويقول “لقد خطر ببالي أنه إذا كان بإمكاني تبريد الخلايا من الداخل والخارج بالتساوي، مثل الطريقة التي يقوم بها فرن الميكروويف بذبذبة الجزيئات لتسخينها بالتساوي، فيمكنني كذلك الحفاظ على النكهة الأصلية. حيث يمكننا إنشاء مجال مغناطيسي ضعيف داخل المُبرد لذبذبة جزيئات الماء ومنعها من التكتل معاً، ومن ثم يمكننا تجميدها جميعاً بالتساوي.”
وتبين بعد ذلك أن ما فكر فيه كان صائباً، فيقول “في العام 1998، نجحنا في تطوير نظام تبريد لا ينتج عنه فقدان السوائل الغنية بالنكهات. واللحظة التي أكلت فيها طعام مجمد، وملأت النكهة الطازجة فمي وغمرتني بالسعادة. لكن في مرحلة ما، توقف التطوير، وتعرضنا لبعض المشاكل المالية الحقيقية، إلا أنه في ذلك الوقت بدا الأمر كما لو أننا اكتشفنا آلة زمنية للنكهات؛ حينها، حصلنا على براءة اختراع في نفس العام.”
ولقد أُطلق على نظام التجميد القائم على المغناطيس إسم CAS، أو “نظام الخلايا الحية”. والأمر يتجاوز تقنية التجميد البسيطة للحفاظ فعلياً على نكهة الطعام دون الإضرار بهيكله الخلوي، وقد خضعت هذه التقنية إلى تحسينات متكررة، وهي الآن تجعل من الممكن الحفاظ على نضارة الأطعمة من خلال مجرد وضعها في المُبردات الموجودة.
ويقول أووادا “هذا الطعام عمره ثلاث سنوات”، قمت بتجربة القليل من الأسماك الصغيرة النيئة التي كانت في المُبرد. مذاقها طازج مثل الأسماك التي تم صيدها صباحاً. فنظام CAS يُستخدم في الحفاظ على الأسماك واللحوم والخضروات والفواكه لفترات طويلة دون أن يحدث أي اختلال في المذاق أو اللون أو الرائحة. ويمكن استخدام التكنولوجيا حتى للحفاظ على النبيذ والمشروبات. ونظراً لأن خلايا الطعام لا تتمزق، فيمكن الحفاظ على نضارتها كلما دعت الحاجة، واستعادة مذاقها بالكامل وقتما نشاء.”
التغلب على مشاكل الجزر النائية باستخدام تقنية CAS
يوجد حالياً حوالي 2600 وحدة CAS مجهزة في أماكن مختلفة بداية من منتجي الفاكهة والخضروات واللحوم والأسماك إلى شركات تصنيع الأغذية والمطاعم والمتاجر والأسواق المركزية. ويواصل مختبر CAS لتجهيز وتصنيع الأغذية، الواقع في المقر الرئيسي لشركة “آبي” في مدينة ناغارياما – تشيبا، تحسين التكنولوجيا وتطوير المعدات منخفضة التكلفة. وقاموا أيضاً بتوسيع نطاق الأماكن التي يمكنها الاستفادة من استخدام مزاياها.
فعلى سبيل المثال، تعمل الشركات المشتركة بين القطاعين العام والخاص في مدينة أما بمحافظة شيمانى، وهي جزء من جزر أوكي النائية، على زيادة مبيعات الحبار والمحار الطازج المجمد بتقنية CAS من خلال البيع المباشر لقطاع المطاعم والمستهلكين في منطقة طوكيو. وتتطلب المسافة من الجزر ساعات طويلة من النقل بالسفن ثم بالشاحنات، والتي كانت لفترة طويلة تمثل أكبر عائق أمام بقاء المنتجات طازجة. إلا أن تقنية CAS سمحت للمنتجين بالحفاظ على النكهة الطازجة لفترة أطول، كما تساعد زيادة عائدات المبيعات للصيادين في جذب الشباب إلى الصناعة، كما تم تركيب حوالي 100 مُبرد مجهز بتقنية CAS في 13 دولة في الخارج، مع استفسارات متكررة بشكل خاص من الولايات المتحدة وفرنسا وتايلاند والصين. ويميل كبار الطهاة الفرنسيين إلى تجاهل استخدام تقنية CAS، لكن المطاعم الحائزة على نجمة ميشلان تستخدمها الآن للحفاظ على المكونات.
نمو التعاون الطبي والهندسي
وبما أن تقنية CAS يمكنها تجميد المكونات دون حدوث تمزق لخلاياها، فإنها تُستخدم أيضاً في الأبحاث الطبية والمجالات المماثلة، حيث يهتم بها الباحثون في الطب التجديدي بشكل خاص، ويستخدمونه للحفاظ على الأعضاء. وتُستخدم المُبرادات المجهزة بتقنية CAS في مركز جامعة كيوتو على أبحاث وتطبيقات iPS (الخلايا الجذعية متعددة القدرات المستحثة)، وهناك أيضاً مشاريع بحثية مشتركة في المجالات الهندسية.
ويقول أووادا إنه يأمل في نشر هذه التقنية إلى أبعد حد؛ وهو ليس مهتماً بتنمية أعماله فحسب، ولكنه يعتقد أن تقنية CAS يمكن أن تساهم في حل أزمات الغذاء المستقبلية التي لا مفر منها.
ويسرد قائلاً “في غضون 25 عاماً، هناك تكهنات بأن عدد سكان الأرض سيتجاوز 10 مليارات نسمة. حيث يبلغ عددنا الآن 7.7 مليار نسمة، وهناك بالفعل من 500 مليون إلى 600 مليون شخص بدون سبل وصول موثوقة إلى الغذاء. وإذا أضفنا ملياري شخص آخرين، فتخيل كيف سيخرج الأمر عن نطاق السيطرة. وإذا لم نفعل شيئاً حيال ذلك، فسيكون الطعام متوفر للأثرياء فقط. ولأن المحاصيل الزراعية يتفاوت إنتاجها مع مرور الوقت؛ فالشيء المهم، هو أن نكون قادرين على تخزين المحاصيل عندما يكون هناك فائض حتى نتمكن من البيع والشراء بشكل أكثر استقراراً. ومن شأن ذلك أن يجعل التعامل أسهل لكلا طرفي الصفقة. لذلك، فإن تقنية CAS تسمح بالتخزين طويل الأجل للمنتجات الطازجة، الأمر الذي سيضمن مذاقاً طازجاً عند إذابتها. ويمكن أن تساعد كذلك على تقليل المخاوف بشأن تقلبات الأسعار بالنسبة للمزارعين، وبالتالي سيتمتع المستهلكون بمزيد من الاستقرار في الأسعار.”
تبدو أحلام أووادا تجاه مستقبل تقنيته مثل أفلام الخيال العلمي، لكنه لديه أفكار طويلة المدى. وأعتقد أن هذه التقنية يمكن أن تكون مفيدة إذا أصبحت الأرض غير صالحة للسكن بسبب الحروب النووية أو الدمار البيئي؛ فالبشر الآن – بالفعل – يمتكلون التقنيات لتخصيب البويضات، ويمكن تجميد بويضات الكائنات الحية المختلفة باستخدام تقنية CAS وإرسالها على متن مركبة فضائية. ثم، إذا تم العثور على عالم آخر صالح للسكن، يمكن إنعاش تلك البويضات؛ وبالتالي، تستمر حياة البشر. وما يحدث الآن مع فوضى اجتياح الوباء، يجعلنا نفكر في أشياء كانت تعتبر مجرد ضرب من الخيال في الماضي.
المصدر: اليابان بالعربي.
مصدر الصور: اليابان بالعربي.
موضوع ذا صلة: قطاع الألبان الياباني.. تحويل الجائحة إلى فرصة
أوتسوغي ساتوشي
كاتب متخصص في العلوم الإنسانية – اليابان.