عبد العزيز بدر عبد الله القطان
كاتب ومفكر – الكويت
لطالما كانت السياسة الصهيونية في الشرق الأوسط محط اهتمام وتحليل، خاصة في سياق الصراعات المستمرة التي تشهدها المنطقة، فالكيان الصهيوني الذي تأسس على أسس من الأمن القومي والبقاء في مواجهة تهديدات عديدة، يقف اليوم في مفترق طرقٍ استراتيجي يعكس التحديات المعقدة التي يواجهها في ظل تغيرات متسارعة في المشهد الإقليمي والدولي، وعلى الرغم من كونه قوة عسكرية متفوقة، فإن الكيان الصهيوني يجد نفسها عالقة في دوامة من الحروب التي لا تنتهي مع جيرانه، من حزب الله في لبنان إلى إيران في قلب الشرق الأوسط، مروراً بالعلاقات المتوترة مع الفلسطينيين.
إلا أن الحروب ليست دائماً الطريق الأمثل لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، فالكيان الصهيوني، بالرغم من قوته العسكرية، يجد نفسه أحياناً في مواجهات غير متكافئة، يعرض فيها أمنه واستقراره لمخاطر قد تكون أشد مما تدركه القيادة السياسية والعسكرية في تل أبيب، بل إن بعض المراقبين يرون أن سياسات كيان الاحتلال الصهيوني الحالية، والتي تمثل استمراراً لنهج تقليدي في التعامل مع تحديات المنطقة، قد تكون قد بلغت حدودها القصوى من الفاعلية، وأصبحت تفتقر إلى القدرة على جلب نتائج حاسمة.
فبينما يسعى الكيان الصهيوني لتحقيق أهدافه الأمنية، سواء كان ذلك عبر استهداف جماعات مثل حزب الله أو محاولة تعطيل البرنامج النووي الإيراني، تزداد التكلفة البشرية والسياسية لهذه السياسات، وليس الأمر مجرد مسألة عسكرية؛ بل هو محك حقيقي لما إذا كانت الاستراتيجيات القديمة التي اعتمدت عليها تل أبيب في العقود الماضية ما زالت صالحة في عصر جديد، تسوده التغيرات السريعة والتحولات الكبرى في السياسات الدولية.
في هذا السياق، نجد أن هذه السياسات العدائية قد تثمر أكثر عن مفاقمة الوضع في المنطقة بدلاً من تحسينه، فإن استمرار النزاع مع إيران وحزب الله قد يؤدي إلى تعزيز الردود العسكرية من كلا الطرفين، ويزيد من معاناة المدنيين ويشعل فتناً قد تكون لها عواقب أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.، وهذا الأمر يتطلب تحليلاً أعمق لفهم ما إذا كان الحل العسكري هو الحل الوحيد المتاح للكيان الصهيوني، أم أن هناك حاجة ماسة لتبني طرق جديدة تحقق الأمن والاستقرار بعيداً عن الحروب المستمرة.
تأتي هذه الأسئلة لتشكل خلفية لما سيُناقش في السطور القادمة حول خيارات الكيان الصهيوني في مواجهة حزب الله وإيران، والتحديات التي تواجهه في سياق سياساته الخارجية، وسبل التغلب على عواقب هذه الحروب المدمرة.
ففي ظل التوترات المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط، تبدو السياسات الصهيونية تجاه إيران وحزب الله وكأنها تسير في اتجاه تصعيدي لا طائل منه، مدفوعةً بأطماع سياسية وأحلام تحكمها رغبة الهيمنة الإقليمية، فالإشارات الأخيرة تفيد بأن الكيان الصهيوني لا يزال يخطط لضرب مراكز القوة التي يمثلها كل من حزب الله وإيران، مستوحياً من النجاحات السياسية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي يُعتبر داعماً قوياً للسياسات الصهيونية إلا أن هذا النهج ينطوي على تداعيات خطيرة، حيث تبرز أوجه الخسائر البشرية الهائلة التي قد يُمنى بها الكيان الصهيوني نفسه، وهي الخسائر التي تحاول حكومة الاحتلال إخفاءها عن الرأي العام.
أما التفكير في خوض مواجهة واسعة النطاق مع حزب الله يعكس فهماً ناقصاً لطبيعة الصراع المحتمل. لبنان ليس كقطاع غزة؛ فهو يتميز بتضاريس جبلية معقدة تتطلب خططاً عسكرية مختلفة تماماً عن الحروب التقليدية، فالجبال شكلت عبر التاريخ بيئات صعبة لحملات عسكرية لا تُحصى، ولبنان ليس استثناءً، ففي عام 2006، عانى كيان الاحتلال الصهيوني من صعوبات بالغة خلال حربه مع حزب الله، التي كشفت عن محدودية قدراته العسكرية أمام مقاتلين يمتلكون خبرة عالية في استخدام التضاريس الجغرافية لصالحهم، لذلك، فإن تصعيد هذه المواجهة ستكون محفوفة بمخاطر كبيرة قد تُكبِّد الكيان الصهيوني خسائر تفوق التصور، وتدفعه لإعادة حساباته بعد فوات الأوان.
والتحدي الأكبر يتمثل في إيران، حيث تعقيد الأوضاع يتجاوز الحسابات السياسية البسيطة، رغم بعض الإخفاقات التي تعرَّضت لها إيران مؤخراً، مثل محاولات استهداف قادة فصائل مسلحة، لا يمكن الاستهانة بقدراتها الدفاعية والعسكرية، بالتالي إن شن ضربة على المنشآت النووية الإيرانية قد يبدو هدفاً جذاباً لبعض صانعي القرار داخل كيان الاحتلال الصهيوني ، إلا أن هذا الهدف يكتنفه الغموض، خصوصاً وأن المنشآت الإيرانية محصنة جيداً في أعماق الجبال، ما يجعل استهدافها تحدياً كبيراً حتى مع الدعم الأمريكي المحتمل، ومع كل هذه التحفظات، يواصل متشددون مثل نفتالي بينيت وغيرهم الدفع باتجاه هذا السيناريو، معتبرين أن تدمير البرنامج النووي الإيراني يمثل “فرصة ذهبية لتغيير وجه الشرق الأوسط”، وهي تصريحات لا تتجاوز في واقعها سوى الشعارات.
خسائر لا تُحصى ولا تُعلَن
بالنسبة للسياسات الصهيونية الحالية تحت قيادة بنيامين نتنياهو تبدو كأنها تسير في دوامة من القرارات الخطيرة التي لا تعود بالفائدة على المستوطنين، بل تكشف عن نقاط ضعفها البنيوية. فصغر حجم فلسطين المحتلة وارتفاع كثافة سكانها يزيدان من هشاشتها أمام أي صراع موسع قد ينشب، وهو ما يجعلها عرضةً لموجات من الخسائر البشرية والاقتصادية، تُحاول الحكومة تغطيتها بسياستها الإعلامية المضللة.
بالإضافة إلى ذلك، إن تسريب أعداد القتلى والمصابين في صفوف الجيش أو المدنيين غالباً ما يُحاط بسرية تامة، حيث يسعى الكيان الصهيوني إلى الحفاظ على معنويات الشعب وتجنب النقد الداخلي، خصوصاً في ظل قيادة نتنياهو الذي يواجه ضغوطاً سياسية متزايدة.
ترامب وسياسات الشرق الأوسط
إن عودة دونالد ترامب المحتملة إلى رئاسة الولايات المتحدة تُطرح أحياناً كعامل قد يغيِّر من ديناميات الصراع في المنطقة، لكن الحقيقة أن سياساته لن تكون إلا استمرارية لدعم الكيان الصهيوني بلا شروط، ما قد يزيد الوضع تأزماً دون حلول حقيقية، فقد أثبتت التجارب أن التحالفات السياسية وحدها لا تكفي لتغيير واقع مليء بالتعقيدات، إذ تتطلب النزاعات في الشرق الأوسط مقاربة أكثر حكمةً وتوازناً، تُغلّب فيها لغة الحوار على لغة السلاح.
دروس من التاريخ
يتجه الكيان الصهيوني بخطوات متسارعة نحو مواجهة جديدة قد لا تعود عليها إلا بالخسائر، إن تصعيداً غير مدروس ضد إيران أو حزب الله يحمل في طياته تهديدات كارثية قد تؤدي إلى انفجار الوضع الإقليمي بأسره، وتفرض على المستوطنين أنفسهم دفع أثمان باهظة، وعليه، فإن الحكمة تقتضي التراجع عن سياسات المواجهة غير المجدية والعمل نحو حلول دبلوماسية تسعى لحفظ الأرواح وتحقيق الاستقرار، بدلاً من الانزلاق في نزاعات قد تتسبب في معاناة الجميع.
بالتالي، إن استشراف مستقبل الحرب في الشرق الأوسط، سواء كانت مع حزب الله في لبنان أو مع إيران، يظل أمراً معقداً ومبهماً، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية التي يمر بها العالم، وعلى رأسها الدور الأمريكي بقيادة دونالد ترامب، فالتطورات في السنوات الأخيرة تشير إلى أن المنطقة لا تزال على حافة صراع مستمر، وأن احتمالات التصعيد تبقى مرتفعة، ما يثير تساؤلات حيوية حول مدى قدرة هذه الحروب على إحداث تغيير جوهري في توازنات القوى، أو ما إذا كانت ستظل مجرد حلقة من الاستنزاف والدمار.
وبوجود ترامب على رأس الإدارة الأمريكية، ثمة معطيات جديدة قد تضاف إلى المعادلة، ترامب، الذي سبق له أن تبنى سياسات متشددة ضد إيران وحلفائها، يرى في مواقف مثل تلك التي يتبناها الكيان الصهيوني فرصة لتوسيع نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، وإعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية بما يخدم مصالحها، إلا أن السؤال الأكبر يبقى: هل ستكون هذه السياسات فعالة في نهاية المطاف؟ وهل سيحقق هذا الانحياز للكيان الصهيوني المزيد من الاستقرار، أم أن العواقب ستكون أشد تعقيداً، لا سيما في ظل تصاعد التوترات وازدياد الضغوط الدولية على الولايات المتحدة وحلفائها؟
من ناحية، قد يرى البعض أن انتخاب ترامب رئيساً مجدداً سيوفر للكيان الصهيوني دعماً إضافياً في مواجهاتها مع إيران وحزب الله، مما قد يحفزه على المضي قدماً في استراتيجياته العسكرية الطموحة. ولكن من ناحية أخرى، قد تؤدي هذه السياسات إلى المزيد من العزلة الدولية للكيان الصهيوني، مع تزايد الضغوط على المجتمع الدولي لإيجاد حلول دبلوماسية للصراعات الإقليمية، فالعالم اليوم لم يعد كما كان قبل عقد من الزمن، حيث تظهر جبهة واسعة من الدول التي تطالب بوقف التصعيد العسكري والتركيز على مسارات الحوار والضغط السياسي.
وعلى الرغم من محاولات الكيان الصهيوني المستمرة لتحجيم نفوذ حزب الله في لبنان ومنع إيران من التوسع في برنامجها النووي، تظل الحقيقة أن كل خطوة عسكرية قد تؤدي إلى تصعيد أكبر، بالتالي إن السياسات العدوانية قد تعزز قدرات المقاومة لدى الخصوم، كما قد تثير ردود فعل من دول أخرى في المنطقة، وهو ما قد يدفع المنطقة إلى شفير حرب شاملة، وفي هذا السياق، يبقى الفشل في تحقيق أي تقدم سياسي قابل للاستدامة من أكبر التحديات التي تواجه الكيان الصهيوني.
بالإضافة إلى ذلك، يثير استمرار ترامب في البيت الأبيض تساؤلات بشأن استراتيجياته في الشرق الأوسط، خصوصاً في حال تم تنفيذ سياسة “الضغط الأقصى” ضد إيران، تلك السياسة التي دفعت إيران إلى تطوير قدراتها النووية وتعزيز وجودها في مناطق أخرى، مثل سوريا والعراق، مما يزيد من تعقيد الوضع، فالحرب مع إيران قد تكون أكثر من مجرد صراع عسكري؛ إنها حرب في معركة من أجل النفوذ على مستوى الإقليم والعالم.
لكن في النهاية، يبقى مستقبل هذه الحروب غير واضح المعالم، فالحرب على إيران أو حزب الله قد تبدو في البداية وكأنها حل سهل، ولكن مع مرور الوقت والتكاليف البشرية والمادية التي تترتب على أي تصعيد، سيبدأ المجتمع الصهيوني نفسه في تساؤل حول جدوى هذه السياسات، ففي ظل هذه الدوامة من الصراعات، قد يدرك الكيان الصهيوني أن الحروب العسكرية لا تحمل في طياتها سوى المزيد من الضحايا، وأن المستقبل يتطلب حلولاً أكثر ذكاءً وواقعية إذا كانت تأمل في تحقيق الأمن والاستقرار.
كما أن الواقع السياسي والاقتصادي في الولايات المتحدة والعالم يعكس تحولاً في أولويات القوى الكبرى، حيث باتت الدول تبتعد عن النزاعات العسكرية المفتوحة وتبحث عن حلول دبلوماسية، ومع عودة ترامب إلى الساحة السياسية، قد يكون هناك أمل ضئيل في أن يؤدي التمادي في السياسات العسكرية إلى تحقيق النصر الذي يتصوره البعض، بل على العكس، قد يواجه ترامب تحديات أكبر، حيث ستزداد معارضة حروب جديدة، سواء من الداخل الأمريكي أو من الحلفاء الدوليين.
وفي الختام، ما يبدو مؤكداً هو أن الاستمرار في هذه الحروب لن يؤدي إلى استقرار دائم، بل إنها قد تؤدي إلى تعزيز الحلقة المفرغة من العنف والدمار، مع تعزيز مواقف الدول المعادية للكيان الصهيوني وإيران، بالتالي، إن الحلول الحقيقية لا تأتي من التصعيد العسكري، بل من التفاوض والحوار، حتى وإن بدا ذلك بعيد المنال في الوقت الراهن.
مصدر الصورة: أرشيف سيتا.