يشهد لبنان أزمة سياسية واقتصادية حادة، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، وباتت تهدد وجوده، وفق تصريحات المعنيين اللبنانيين أنفسهم، دون وجود أية رؤية واضحة للحل أو لإيقاف مسار التدهور على الأقل. ويتبادل المسؤولون اللبنانيون الاتهامات حول من يتحمل المسؤولية عنها، أو من يعرقل مسار الخروج منها، حتى بلغ الأمر أن رئيس الجمهورية، ميشيل عون، ورئيس الحكومة السابق، سعد الحريري (المكلَّف بتشكيل الحكومة)، تبادلا الاتهامات حول من الذي يعرقل تشكيل الحكومة، وبالتالي يحول دون إطلاق خارطة طريق للخروج من هذا “الانهيار الكبير”.

في هذا السياق، تراجع هذه الورقة مجمل مسار الأزمة اللبنانية وتستعيد مراحلها وأطرافها وأدوارهم، لتتلمس في ختامها أهم المؤشرات على المستقبل الذي ينتظره لبنان.

خلفية

مرّ لبنان منذ توقيع الطائف بمراحل ثلاثة، الأولى: والتي كرّست تطبيق “إتفاق الطائف”، منذ العام 1990، برعاية سعودية وإدارة سوريّة مباشرة وبرضا غربي عموماً، لتأكيد خروج لبنان من الحرب الأهلية وعدم الانزلاق إليها مرة أخرى، وكان العنوان الأبرز فيها هو رئيس الوزراء، رفيق الحريري، وانتهت هذه المرحلة باغتياله، العام 2005. وبهذا، دخل لبنان مرحلة جديدة – المرحلة الثانية – من تطبيق الطائف؛ انسحبت القوات السورية فيها من لبنان في أعقاب اغتيال الحريري وانقسمت الطبقة السياسية وكذلك عموم الجمهور اللبناني بين فريقين: قوى 14 آذار المناهضة لسوريا، وقوى 8 آذار المؤيدة لها، وانتهى هذا التجاذب بوصول الرئيس ميشيل عون إلى سدة الرئاسة اللبنانية، في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016، والذي اعتبرته لاحقاً دول عربية وغربية، هيمنة لقوى 8 آذار وحلفائها على الحكم في لبنان، لصالح محور إيران.

أما المرحلة الثالثة، وهي التي شهدت اندلاع الثورة اللبنانية تحت شعار “كلن (كلهم) يعني كلن”، 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وأخذت تطالب برحيل كل الطبقة السياسية دون تمييز بينها باعتبارها المسؤولة عمّا آلت إليه البلاد من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية، لكنها لم تحقق أهدافها وتفاقم التدهور الاقتصادي والمالي ولا يزال، وكانت ثالثة الأثافي انفجار مرفأ بيروت، 4 أغسطس/آب 2020، الذي ألحق أضراراً كبيرة بقلب بيروت، ودمّر أجزاء واسعة منها بشكل جزئي أو كلي، وسقط جرّاءه ما يقارب 200 قتيل فضلاً عن آلاف الجرحى. وبسبب هذا الأخير، جاءت المبادرة الفرنسية(1) لمساعدة لبنان، ومن أهم ما فيها أنها تقوم في شقها السياسي على تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين، أما في الشق الاقتصادي فمدخلها التفاوض مع صندوق النقد الدولي لتكون المساعدات مشروطة بحزمة من الإصلاحات وخاضعة للرقابة. وحتى اللحظة لم تنجح القوى في تشكيل حكومة جديدة.

ولا تزال الأزمة اللبنانية تحمل نفس عناوين المراحل الثلاثة نفسها: كيف يمكن تجنب العودة إلى الحرب وتحقيق توافق وطني واسع؟ وما السبيل للخروج من المأزق الاقتصادي والانهيار المالي؟ وما السبيل إلى تحقيق الاستقرار للبنان كوطن لكل أبنائه على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم دون الانجرار وراء الدول الراعية لهذه الطوائف أو قادتها لاسيما السياسيين منهم؟

أطراف الأزمة

بالنظر إلى الأزمة اللبنانية من منظور مقطعي، فهي تعكس مستويات من الاشتباك، بعضها محلي أو إقليمي وبعضها الآخر تاريخي أو يتعلق بتعريف القوى اللبنانية لنفسها، دينياً أو طائفياً وحتى مذهبياً. ويمكن تقسيم أطرافها باعتبارين؛ الاعتبار الأول: بحسب الأطراف التقليدية حزبياً وطائفيّاً. الاعتبار الثاني، بحسب القوى الجديدة بعد الثورة في مقابل “طبقة الأحزاب الحاكمة”.

بخصوص الأول، غلبت التطورات الإقليمية الأخيرة على الأزمة اللبنانية على الأقل في الأعوام الـ 10 الأخيرة؛ حيث تمددت إيران في الإقليم بدءاً من العراق بعد سقوط حكم الرئيس صدام حسين (2003)، مروراً بسوريا بعد الثورة السورية (2011) وتفاقم الحرب فيها (2012)، وصولاً إلى تعزز دور حزب الله في لبنان (خاصة بعد العام 2016).

تبدو اليوم قوى 8 آذار، المدعومة من طهران، وكأنها ممسكة بمفاصل الحكم في لبنان، فهي تمسك بالرئاسة الأولى، وكذلك رئاسة الحكومة ولو كانت مستقيلة (منذ 10 أغسطس/آب 2020 إثر انفجار مرفا بيروت)؛ إذ لا يزال يرأسها د. حسان دياب وتتولى تصريف الأعمال، فضلاً عن رئاسة مجلس النواب الذي يرأسه نبيه بري (أُعيد انتخابه عام 2018)، وهو رئيس حركة أمل. وهذه الأخيرة تشكّل مع حزب الله ثنائية تحظى بنفوذ مطلق في الطائفة الشيعية دون منافس.(2) كما لا تزال الأغلبية في مجلس النواب لصالح قوى 8 آذار منذ الانتخابات الأخيرة، العام 2018.

ويبدو الطرفان الأقوى في هذا المحور: التيار الوطني الحر بزعامة ميشيل عون ورئاسة صهره، جبران باسيل، أما الآخر فهو حزب الله، وقد جمع بين الطرفين (6 فبراير/شباط 2006) اتفاق يُطلَق عليه “تفاهم مار مخايل”(3)، إلا أنه على الصعيد المحلي كان أقرب إلى تحالف، مكَّن الجنرال عون لاحقاً من بلوغ رئاسة الجمهورية (2016)، ووفَّر بالمقابل لحزب الله غطاء محلياً وحتى إقليمياً، ليصبح أكثر من مقاومة محلية لبنانية، وليتعزز دوره الإقليمي خاصة في الجوار السوري وعبر الحدود اللبنانية، منذ عام 2012. وكان باسيل قد أعلن مؤخراً، بتأثير من “الانهيار المالي الكبير”، أن حزبه، التيار الوطني الحر، مصمم على “إعادة النظر بوثيقة التفاهم بينه وبين حزب الله ومراجعتها بنيَّة تطويرها بما يحقق حماية لبنان عن طريق استراتيجية دفاعية، وبناء الدولة من خلال مكافحة الفساد وإجراء الإصلاحات”.(4) ورغم أن هذه المراجعة لا تتم بعيداً عن الحوار مع الحزب، إلا أنها تؤشر على تراجع إيجابيات هذا التفاهم لكلا الطرفين، لتتأرجح العلاقة بينهما من حين إلى آخر دون أن تفقد فاعليتها حتى الآن على الأقل.(5)

أما قوى 14 آذار والتي كانت تضم خليطاً من القوى المدنية والمجتمعية وقوى حزبية، من أهمها: القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل، فقد تشظَّت عملياً، بسبب تراجعها السياسي. فالرئيس سعد الحريري، زعيم تيار المستقبل، الذي كان يشكّل القلب منها اختلف مع معظم حلفائه بسبب اختلاف الرؤية وتقديره للأمور محليّاً، وبسبب تغير علاقته مع الراعي التقليدي لتيار المستقبل، ألا وهي السعودية.

فعلى الصعيد المحلي، لم يستمر سعد الحريري في التصعيد ضد حزب الله بعد اغتيال والده، العام 2005، واستحدث ما أطلق عليه “ربط نزاع”، معه منذ العام 2014، ويقوم جوهره على الاعتراف بالحزب كطرف محلي شرعي، مع عدم الاعتراف بشرعية سلاحه ولا دوره الإقليمي، واعتبار هذه الأخيرة مشكلة إقليمية ولا تستطيع القوى المحلية اللبنانية حلها. واستبطن في موقفه هذا مسؤولية الإقليم والدول الكبرى عن تضخم دور وقوة حزب الله، بسبب “تخليها عن لبنان” والقوى المناهضة للحزب فيه، وعليهم تحمل العواقب.

هذا الموقف كان كفيلاً أن يُبعد عنه القوى التي تعتبر أن سلاح حزب الله هو السبب الأساسي لأزمة لبنان، ومن أبرزها: القوات اللبنانية محلياً، والسعودية إقليمياً؛ حيث باتت الهوة معها تتسع نسبياً، حتى إنه “أُجبر” على إعلان استقالة حكومته من الرياض أو أعلنها في ظروف ملتبسة، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، قبل أن يعود إلى بيروت بوساطة فرنسية ويعلن تراجعه عنها. ثم ذهب الحريري لاحقاً أبعد من ذلك فعقد تفاهماً مع جبران باسيل، وهو الاتفاق الذي مكّنه من العودة لرئاسة الحكومة، مايو/أيار 2018، بعد أن مكّن عون من رئاسة الجمهورية، وكان بالنسبة لعدة قوى محلية وخارجية بمنزلة “القشَّة التي قصمت ظهر البعير”، حيث بات لبنان يُعتبر من دول عربية – على رأسها السعودية والإمارات فضلاً عن أميركا- تحت هيمنة كاملة لحزب الله. كما غضب منه حلفاء محليون لخلافاتهم الحادة مع تيار الرئيس عون، والأهم أنه خسر – أي الحريري – باعترافه بعضاً من شعبيته وربما الكثير منها، بسبب عدم الرضا الشعبي عن باسيل، وهو ما تبدّى بشكل واضح في المظاهرات الشعبية التي شهدها الحراك (في أول أيامه)، وكانت الهتافات الأبرز ضد باسيل وحتى بصورة غير لائقة.

أما بخصوص الثاني، القوى الجديدة في مقابل “طبقة الأحزاب الحاكمة”، فقد خلق الحراك اللبناني منذ اندلاعه، 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، فضاء سياسياً موازياً لذاك الأول الذي يضم طبقة سياسية “متناحرة وفاسدة”، بحسب تعبيره. ويضم الفضاء الجديد خليطاً متعدداً ومتنوعاً من القوى الشعبية والاجتماعية تحمل مجموعة من المطالب قد لا تكون متكاملة مع بعضها أحياناً، ولكن تبدو وكأنها استقرّت نظرياً مؤخراً، على إعادة تطبيق الطائف بعيداً عن الطبقة السياسية الحالية بنسخة جديدة، وتطالب بحكومة اختصاصيين بصلاحيات استثنائية، وانتخابات نيابية مبكرة.(6) وهي في الخلاصة، رغم عدائها لعموم الطبقة السياسية، تبدو خياراتها الاجتماعية والاقتصادية منفتحة أكثر على الدول الغربية والعالم العربي وتجد لها جسوراً ولو قليلة مع قوى 14 آذار أو لها جذور مع بعض قيمها، بسبب تقدم الحريات والهموم الاقتصادية على أجندتها. أما النقص الأكبر فيها أنها ضعيفة نسبياً في الطائفة الشيعية بسبب قوة “الثنائي الشيعي” في طائفته فضلاً عن أسباب أخرى.

وهنا، تبدو قوى هذا الفضاء كأنها طرف واحد رغم تعدد مشاربها، فهي تضم شرائح شعبية واسعة من قوى غير حزبية أو انفضت عن أحزابها السابقة، وقد تضم قوى محافظة دينياً نسبياً وبالمقابل تضم قوى نسوية وفئوية متعددة. وبهذا خصمها بالمقابل هو طبقة الأحزاب الحاكمة، والتي لا تزال هي الفاعل والمتصرف الأساسي في النظام السياسي اللبناني، سواء بخلافاتها أو توافقاتها.

الوضع الراهن للأزمة

هناك إجماع لدى القوى اللبنانية بكل فئاتها على أنه لا توجد أية مبادرة مطروحة للحل حتى اللحظة في الأفق إلا المبادرة الفرنسية، كمدخل أساسي لمجموعة من الإجراءات التي قد توقف الانهيار على الأقل بانتظار اتضاح المشهد الإقليمي والدولي لا سيما أن الإدارة الأميركية الجديدة، إدارة جو بايدن، لم تحدد سياسة عملية خاصة بلبنان.(7) ولو أن الطموح الفرنسي أن تتطور المبادرة في المستقبل لتعيد تفعيل “إتفاق الطائف” أو صياغة اتفاق جديد، وهو ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بعد إطلاق مبادرته في أعقاب زيارته لبيروت (31 أغسطس/آب 2020)، إثر انفجار المرفأ.

وهناك إجماع أيضاً على أن سبيل الحل في لبنان، يبدأ من الاتفاق على حكومة قادرة على استعادة الثقة في الداخل والخارج لأنه لا سبيل لنهوض لبنان دون مساعدة مالية كبيرة من المؤسسات المالية الدولية ومن المجتمع الدولي وكذلك من الدول العربية الخليجية ولعله هو الأهم؛ ما يعني عملياً، ومن حيث الواقع، أن الحكومة المنشودة، يجب أن تحظى بثقة الشارع لا سيما قوى الحراك ولو بالحد الأدنى، لتكون فاعلة، لكنها أيضاً لن تولد دون أن تحظى بثقة نواب الطبقة الحاكمة. ولتحظى بالدعم المالي والسياسي يجب أن تكون مقبولة دولياً وعربياً، لكنها أيضاً لن ترى النور دون أن تتجاوز اعتراض إيران التي تحظى بنفوذ محلي لبناني مؤثّر.

هذه المعادلة الصعبة هي التي تجعل ظروف ولادة حكومة سعد الحريري صعبة، مع العلم بأنه كُلِّف بتشكيلها، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2020. وأضف إلى ذلك أنه من الواضح أن مسار المبادرة الفرنسية لم يكن بالضرورة منسجماً دائماً مع السياسة الأميركية أثناء إدارة دونالد ترامب إزاء لبنان؛ حيث إن العقوبات الأميركية استهدفت، 8 سبتمبر/أيلول 2020، وزيرين سابقين من القوى الموالية لسوريا (علي حسن خليل – حركة أمل / يوسف فنيانوس – تيار المردة)، وكانت جزءاً من الأسباب التي أدّت لإجهاض ولادة حكومة مصطفى أديب والتي كُلف بتشكيلها(8) بدعم فرنسي، 31 أغسطس/آب 2020. وهناك اعتقاد بأن العقوبات الأميركية التي فُرضت على جبران باسيل، 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، من الأسباب التي عرقلت ولادة حكومة الحريري. كما أن الرياض تبدو أقرب إلى السياسة الأميركية – التي اتبعها ترامب إزاء لبنان – منها إلى المبادرة الفرنسية، كما أن موقفها من سعد الحريري لم ينجلِ بعد (منذ حادثة إعلان استقالته من الرياض)، ولم تعلن أو تُبدِ أية إشارة تشي بإعادة تجديد الثقة به.

مؤشرات على المستقبل

هناك أربع قضايا تؤثر على الأزمة اللبنانية، وستحدد وجهتها وجهة الأزمة اللبنانية:

1. مسار ونتيجة الصراع الإقليمي المستجد بعد “التمدد الإيراني” الواسع في المنطقة، خاصة في سوريا؛ حيث المنطقة بانتظار اتضاح موقف الإدارة الأميركية الجديدة من إيران، سواء من تمدد هذه الأخيرة وسياستها الخارجية، أو من الاتفاق النووي (الذي عقدته إدارة الرئيس باراك أوباما، العام 2015، وخرجت منه إدارة ترامب، مايو/أيار 2018) وما إذا كانت ستُحييه وبأية شروط؟ وبجميع الأحوال، لن يخلو هذا من انعكاسات على الشأن اللبناني، الذي يعاني من ضغوط اقتصادية أميركية بفعل العقوبات على حزب الله أو على حلفائه اللبنانيين، وقد يعيد صياغة تحالفات وموازين القوى اللبنانية. كما ستكون له انعكاساته على حزب الله ودوره في لبنان، خاصة فيما يتعلق بسلاحه ودوره في الإقليم، ولا يخفى على اللبنانيين ومنهم حزب الله، أن المبادرة الفرنسية يقوم جوهرها على “تحييد لبنان”؛ ما يعني بالضرورة أن يكفّ حزب الله عن دوره الإقليمي أو تجميده على الأقل. ولهذا اعترض حزب الله على دعوة البطريرك الماروني، بشارة الراعي، إلى ما سماه “الحياد الناشط”، وهي تلتقي أو تستهدف إلى حدّ بعيد، بعض ما ترمي إليه المبادرة الفرنسية.(9) كما أن الدعوة لتغيير “طبقة الأحزاب السياسية الحاكمة في لبنان”، والتي كانت تشجع عليها إدارة ترامب وتحبِّذها السعودية إلى حدّ ما، فسببها ليس مسؤولية هذه الطبقة عن الانهيار المالي فحسب، بل لأنها بحسب هذا الزعم، سهّلت أو لم تمنع حزب الله من “الهيمنة” المحلية، وهذه الدعوات تدعو عملياً لإبعاد الحزب عن دائرة السلطة، حتى إن الملك سلمان بن عبد العزيز في كلمته أمام الدورة الـ 75 للجمعية العامة للأمم المتحدة (23 سبتمبر/أيلول 2020) طالب بتجريد حزب الله من سلاحه ووصفه بأنه مهيمن على القرار اللبناني(10)؛ ومن الواضح حتى اللحظة على الأقل، أن المملكة ليست معنية بأي دعم خاص للبنان في ظل حكومة يكون فيها وزراء للحزب أو هيمنة مطلقة لحلفائه عليها. وبالموازاة، هناك احتمال بتعزز أدوار قوى إقليمية وعربية جديدة في الأزمة اللبنانية وبدوافع مختلفة وبتفاوت، مثل الدور الروسي؛ حيث بات لبنان جواراً قريباً لقواته العسكرية في سوريا، وهو معني بالموازنة بين إسرائيل وحزب الله كي لا يعصف أي تصعيد أو حرب بمكاسبه في سوريا.(11) أما عربياً، فهناك تطلع لبناني لتلعب قطر دور الوساطة في مرحلةٍ ما بين اللبنانيين في سياق مسار متوافَق عليه إقليمياً ودولياً، لا سيما أنها رعت اتفاق الدوحة، العام 2008. كما أن هناك دوراً إماراتياً وإن لم تتضح وجهته بعد، لكنه يسير على وقع موقفها المستجد من سوريا، لا سيما أنها أعادت علاقتها الدبلوماسية معها، العام 2018.

2. موقف لبنان من إسرائيل، خاصة أن أزمة لبنان الاقتصادية أصبحت بطريقة ما مرتبطة بهذا الملف؛ حيث إن بعض المنطقة البحرية الواعدة بالغاز (البلوك رقم 9) محل نزاع مع إسرائيل، وهي تنتظر النتيجة التي ستُفضي إليها مفاوضات ترسيم الحدود بين البلدين. وكان رئيس مجلس النواب اللبناني قد أعلن انطلاق المفاوضات حولها، 1 أكتوبر/تشرين الأول 2020، وعُقدت عدّة جلسات برعاية أممية ووساطة أميركية، وستستمر حتماً لحاجة لبنان لثروته، وبالتالي ستُفضي إلى تصورات لبنانية عدة لترسيم العلاقة السياسية بين البلدين، وبقدر ما قد تسهم في الحل، هذا إذا نجحت، فإنها ستكون أيضاً محل إشكال بين اللبنانيين.

3. دور القوى الجديدة التي جاء بها الحراك اللبناني، وإذا ما كانت ستنجح في تخفيف وجهة “إتفاق الطائف” أو أي اتفاق جديد، ليكون أقل طائفية وليكون لبنان أكثر استقلالاً عن مشاكل الإقليم والقوى الخارجية التي اعتادت أن تكون متنفذة في الداخل اللبناني لأسباب تاريخية وثقافية أو دينية. وحتى اللحظة، لم يُنتج الحراك قوى سياسية واضحة يمكن أن تشي بتغيير كبير في تركيبة وطبيعة “طبقة الأحزاب الحاكمة”، لكن هذا المسار فُتح ولا شيء يمنع من أن ينمو خاصة إذا ما ساعدته الظروف المحلية والإقليمية. وأحد أهم التداعيات التي نشأت عن الحراك الآن، أن المبادرات الخارجية جميعها تتكئ على بعض مطالبه أو مخاوفه، فالمبادرة الفرنسية مثلاً قامت بالمبدأ على تشكيل حكومة تكنوقراط من غير سياسيي طبقة الأحزاب الحاكمة (بغضّ النظر عن بعض التنازلات لاحقاً)، بداعي أن الجمهور اللبناني يرفضها، وهكذا دواليك.

4. مصير “إتفاق الطائف”. لم يعد خافياً أن هناك قناعة تترسخ لدى اللبنانيين بكافة طوائفهم وفئاتهم، أن لا قدرة للبنان على تجاوز الانهيار الاقتصادي والمالي الحالي، دون العودة لمؤتمر سياسي تأسيسي جديد، ليكون مكمّلاً أو بديلاً عن الطائف. لأن جزءاً من الأزمة الحالية كان بسبب العيوب التي تعتري اتفاق الطائف، وكذلك بسبب تغير الظروف التي جاء لمعالجتها. وهناك إدراك من قبل كل القوى اللبنانية المحلية وكل القوى المعنية بالشأن اللبناني لأن ما سينتهي إليه اتفاق الطائف من تعديل لبعضه أو تبديل له بمجمله سيقرّر الجمهورية الجديدة التي سيكون عليها لبنان. وإن كانت المذهبية بين السنَّة والشيعة تتصدر حالياً الخلاف في الشأن اللبناني بسبب الاشتباك الإيراني مع قوى عربية وإقليمية ودولية في المنطقة، فإن لبنان على موعد مع خلاف طائفي بين المسيحيين بجميع مذاهبهم من جهة، والمسلمين (بحسب الطائف، هم: سُنّة وشيعة ودروز وعلويون) من جهة أخرى، في حال استطاعوا الوصول إلى طاولة المفاوضات مجدداً، حيث سيتجدد النزاع على السلطة والثروة بينهما، وما إذا كانت ستكون مناصفة أو غير ذلك.

خاتمة

على المدى القريب والعاجل، إن الخطوة الأولى والضرورية لمواجهة الانهيار المالي هو أن تشكّل أو أن تسمح القوى اللبنانية النافذة بتشكيل حكومة بمعايير مقبولة إقليمياً وعربياً وتحظى بثقة أغلب اللبنانيين ولو بالحد الأدنى، وهذا تحدّ كبير لبعض قوى السلطة الحالية. لأنه يعني بالضرورة إعادة تعريف السلطة في لبنان وإعادة ترتيب أحجام ونفوذ أطرافها، فتكوين حكومة اختصاصيين يعني أن على حزب الله أن يقبل بالخروج من الحكومة، ويرى أنه مستهدف أصلاً بهذا الطرح. كما على رئيس الجمهورية ألا تكون له اليد العليا في الحكومة الجديدة بخلاف ما هو عليه في الحكومة الحالية المستقيلة. وليس ببعيد أن تصل “طبقة الأحزاب الحاكمة” لتسوية بينها لأنه في نهاية المطاف سيتساوون في الحكومة إذا شُكلت، ولكن بقية المسار ستكون أصعب.

ختاماً، إن أسوأ ما ينتظره لبنان إذا لم يسلك الإقليم مسار التهدئة، العجز عن الخروج من أزمته المالية، أو أن يتعرض لاعتداء إسرائيلي واسع. وفي حال عجزت الأطراف اللبنانية عن إيجاد خارطة طريق للتفاهم حول صيغة جديدة لتطبيق اتفاق الطائف أو ما يشبهه، فإنه معرّض لتجدد الفوضى الأمنية وسيبقى مفتوحاً على الأزمات وعلى رأسها المالية منها، وستبدأ السلطة فيه في التحلل والتشرذم. أما أفضل ما ينتظره فهو أن يحيّد نفسه وبشروط مواتية لجميع الأطراف فيه، فينتزع مساحة من التهدئة رغم التصعيد في الإقليم، أو أن يستفيد من أي توافق إقليمي لإعادة ترميم اقتصاده ولُحمته الوطنية، وتنظيم علاقاته مع جواره العربي ومع المجتمع الدولي.

المراجع:

(1) جاءت المبادرة بعد زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لبيروت، في 6 أغسطس/آب 2020، ثم أعقبها بأخرى، في 31 أغسطس/آب 2020، للغاية نفسها.
(2) المقاعد المخصص للشيعة، وفق النظام اللبناني الطائفي، 27 مقعداً، وفاز في انتخابات 2018 على لائحة الثنائي 26 نائباً.
(3) يُنظر نص وثيقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر، المعلنة بتاريخ 6 فبراير/شباط 2006، موقع المقاومة الإسلامية، بدون تاريخ. (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2021): https://bit.ly/2QavAz3
(4) “باسيل: لاعتماد استراتيجية دفاعية إلى حين السلام المأمول”، صحيفة الأخبار، 14 مارس/آذار 2021، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2021): https://bit.ly/2Q7Q0sn
(5) وليست المرة الأولى التي يشكو التيار فيها من قصور التفاهم بالنسبة له ولأن حزب الله لم يساعده في محاربة الفساد وبناء الدولة، وكان سبق للتيار أن أصدر بياناً رسميّاً لهذه الغاية أيضاً، في فبراير/شباط الماضي. ينظر: “حزب عون: تفاهمنا مع حزب الله لم ينجح في بناء لبنان”، الجزيرة نت، 7 فبراير/شباط 2021، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2021): https://bit.ly/3lrcLDe
(6) ينظر: شفيق شقير، الحراك اللبناني: البواعث والمكونات والتداعيات، 23 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2021): https://bit.ly/3cxTPhX
(7) ينظر: “فيلتمان: لبنان ليس أولوية بايدن وملف واحد يهمه فقط”، موقع لبنان 24، 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2021): https://bit.ly/3lk80Lv
(8) كان مجلس النواب قد كلف سفير لبنان إلى ألمانيا، مصطفى أديب، بتشكيل حكومة اختصاصيين، في 30 أغسطس/آب 2020، ولما لم يستطع تشكيلها اعتذر في 26 أغسطس/آب 2020، ليفتح الطريق أمام إعادة تكليف سعد الحريري.
(9) ريتا الجمال، “مذكرة لبنان والحياد الناشط” للبطريرك الراعي: تساؤلات وصعوبات، العربي الجديد، 17 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2021): https://bit.ly/3cBxwbf
(10) “الملك سلمان لتجريد حزب الله من السلاح”، جريدة اللواء اللبنانية، 24 سبتمبر/أيلول 2020، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2021): https://bit.ly/3qQbx5e
(11) في خطوة لافتة، قام وفد من حزب الله بزيارة روسيا وكان الشأن الحكومي اللبناني محل بحث مع وزير الخارجية، سيرغي لافروف، إضافة إلى الشأن السوري. ينظر: “وفد من حزب الله يلتقي لافروف في موسكو ويؤكد على الإسراع في تشكيل الحكومة”، 16 مارس/آذار 2021، (تاريخ الدخول: 16 مارس/آذار 2021): https://bit.ly/3qTw496. وينظر: “حزب الله يسأل موسكو عن مصير الأسد”، روسيا اليوم، 16 مارس/آذار 2021، (تاريخ الدخول: 16 مارس/آذار 2021): https://bit.ly/2NrHe7A

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات.

مصدر الصور: العربي الجديد – النهار العربي.

موضوع ذا صلة: لبنان بين الدويلات “العميقة” و”العقيمة” و”الغميقة”

شفيق شقير

باحث في مركز الجزيرة للدراسات متخصص في المشرق العربي والحركات الإسلامية