ركز الإعلام العربي والعالمي على “اتفاقية التعاون الاستراتيجي” بين الصين وإيران بوصفها تغييراً في قواعد اللعبة – Game Changer من شأنه أن يترك أثراً جوهرياً على خريطة توزيع القوى السياسية في منطقة الخليج. إلّا أنّ زيارة وزير الخارجية الصيني إلى الشرق الأوسط حملت معها مشروع مبادرة صينيّة لحلّ الأزمة في الشرق الأوسط من خلال 5 محاور، أهمها ذلك الذي يتعلق بالأزمة بين إيران وجيرانها العرب في منطقة الخليج، ليُمكن الحديث عن مقاربة صينية شاملة تشكّل وجهة النظر الصينية تجاه المسألة الإيرانية، وأزمة الأمن والتعاون في الخليج العربي بأضلاعها المتشابكة، كما تُوجِّه اتفاقيات التعاون الاستراتيجي بين بكين ومختلف دول المنطقة.

شكّل انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، من الاتفاق النووي، مايو/أيار 2018، ثم دعوته إيران إلى طاولة “حوار شامل” مُنعَطفاً مهمّاً في الملف الإيراني، ورأت الإدارة الجمهورية أن “الاتفاق النووي” بالصيغة التي أقرتها إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، أغفل قضايا خلافيّة جوهريّة بين إيران والمجتمع الدولي، ليكون بالتالي اتفاقاً منقوصاً، كما أنه كان اتفاقاً سيئاً من زاوية الملف النووي لأنه كان عملياً يفتح المجال أمام إيران للتحول إلى قوة نووية خلال مهلة زمنية محددة. وأفردت إدارة الرئيس ترامب مساحة واسعة لملفات أخرى، غير الملف النووي مثل البرنامج الصاروخي، وبرنامج التوسع الإقليمي في انتقاداتها الموجهة لإيران، وبوصفها محاور يجب أن تتناولها أية اتفاقات مستقبلية مع إيران.

في المقابل، تمسّكت طهران بشدّة بمواقفها التقليدية السابقة الرافضة للحوار مع واشنطن “تحت الضغط” دون أدنى مرونة، ما فتح المجال أمام ظاهرة المبادرات البديلة، ووساطات التهدئة التي حاولت بعض القوى الإقليمية والدولية طرحها في ظل استعصاء الحوار، واستعصاء العودة للصيغة السابقة المتمثلة بالاتفاق النووي، وارتفاع منسوب التوتر أحياناً إلى مستويات خطرة. مبادرات كان من طلائعها المبادرة الروسية، ومحاولات الوساطة الباكستانية، والعراقية، واليابانية، والفرنسية.

واستقبلت طهران فوز الديمقراطيين بالانتخابات الرئاسية الأمريكية بتفاؤل حذر، ظناً منها أن واشنطن “الديموقراطية” ستعود بسرعة إلى الاتفاق النووي، لتنتهي الأزمة التي شكّلت مرتعاً لتلك المبادرات، لكنّ منحى التطورات أظهر أن طريق العودة إلى الاتفاق النووي لا يزال شائكاً إذ استمرت الخلافات بين طهران وواشنطن ليس حول الاتفاق النووي فقط، وإنما حول القضايا المضافة التي أصبحت واقعاً يجب أخذه بالحسبان، وفق الخطاب الدولي المتمحور حول الملف الإيراني، لتستمر كذلك مُسوغات طرح المبادرات البديلة.

وفي هذا السياق، يمكن في الوهلة الأولى، النظر إلى المبادرة الصينية باعتبارها حلقةً أخرى ضمن مُسلسل المبادرات الإقليمية والدولية التي أصبحت الأزمة الإيرانية تُشكّل مكاناً خصباً لها. وإذا افترضنا إخفاق محاولات حكومة حسن روحاني التي باتت اليوم تُشبه “حكومة تصريف أعمال” في الأشهر الأخيرة المتبقية من عمرها في شق الطريق نحو إحياء عمل مجموعة 1+ 5، فإنّ فرص حصول المبادرة الصينية على مباركة إيران حينها ستكون أكثر من مثيلاتها السابقات، خاصة وأن المصادر الأوروبية تميل إلى الانتظار، لحين تجاوز الاستحقاق الرئاسي في طهران، قبل اتخاذ أية خطوات جوهرية تجاه الملف الإيراني، وبالنظر كذلك إلى تزايد فرص فوز المحافظين المتشددين في طهران بالانتخابات الرئاسية التي تأتي بعد شهر واحد، وهو ذات التيار الذي فضّلت بكين التحاور معه أثناء مباحثات توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي، لا مع حكومة الرئيس روحاني بحسب تصريحات وزير الخارجية الإيراني الأسبق، كمال خرازي، وهو أيضاً التيار الذي أثبتت التجربة أنه يفضل خيار “التوجه شرقاً” على خيار الانفتاح على الغرب في النظام السياسي الإيراني.

ومن المرجح أن تفضل الحكومة الإيرانية المُقبلة، بحُلَّتها المحافظة، الحلّ الصيني على الحلول الغربية، خصوصاً إذا تمّ تطبيق اتفاقية التعاون الاستراتيجي الصيني – الإيراني التي تمنح للصين اليد العليا في إيران، حيث ستعوِّل طهران حينها على دفع بلدان الخليج المرهقة بفعل ما يشبه حرب الاستنزاف، نتيجة استمرار العُقدة الإيرانية نحو قبول الحلّ الصيني لفك هذه العُقدة التي طال أمدها.

وفي كل الأحوال، ستكون المبادرة الصينية أحد الأُطر والمُحدّدات الرئيسة لمستقبل الحوار العربي – الإيراني في حال تسلّم المحافظون الحكم في إيران، خصوصاً إذا أخذنا بالحسبان رفض هذا التيار لأي حوار مباشر مع الولايات المتحدة على الأقل حتى الآن. وسيُحدّد المناخ الإقليمي المأزوم توجُّهات مُختلف الأطراف نحو الحلول الوسطية، والبديلة في ضوء تراجُع فرص الحوار المباشر الأمريكي – الإيراني، ما يفتح المجال أيضاً أمام المبادرات الإقليمية التي يجب الحديث عنها في وقت آخر، أو اعتماد المبادرة الصينية بوصف بكين شريكاً اقتصادياً قوياً لمختلف أطراف الحوار الإقليمي.

لكن قبل الاندفاع في تسويغ المبادرة الصينية ينبغي أخذ بعض النقاط الجوهريّة بالحسبان:

أولاً، إذا كانت التقارير المتواترة عن مضمون الاتفاق الصيني – الإيراني صحيحة، فإن الاتفاق سيجعل من إيران أشبه بـ “مستعمرة” للاقتصاد الصيني، أو على الأقل سيرفع إيران إلى مرتبة “الحليف الاستراتيجي” الأقرب إلى الصين في المنطقة؛ الحليف الذي تنوي بكين استثمار مئات المليارات فيه، مقابل حصولها على حقّ الأولوية في التزوُّد بالنفط الإيراني، والحصول على الأولوية في الولوج إلى مختلف حقول الاقتصاد الإيراني؛ وبالتالي، فمن المرجح أن يعمل هذا الواقع على نقل المبادرة الصينية من حالة المبادرة المحايدة إلى حالة الانحياز الصريح للجانب الإيراني على الرغم من كون الصين شريكاً اقتصاديّاً كبيراً للدول الخليجية.

ثانياً، تعتبر الصين ثاني أهم مُزوّد لإيران على صعيد الأسلحة، وأهمّ مُزوّد لها على صعيد التقنية الصاروخية. وفي حين زوّدت روسيا إيران بأنظمة دفاع صاروخي، فإن المُعطيات التاريخية تُظهر أن حجماً لافتاً من التقنية الصاروخية التي تستخدمها إيران جاءت من الصين، وبخاصة الترسانة الصاروخية الهجومية الباليستية الموجهة في غالبيتها ضدّ دول الخليج. ووفقاً للبنود التي رشحت عن مضمون اتفاق التعاون الاستراتيجي بين البلدين، فإن حجم التعاون العسكري البيني سيشهد قفزة كبيرة، تتمثل في بناء قواعد صينية في الأراضي الإيرانية، وإنشاء أنظمة رادار ومراقبة في الخليج، ما يضع القوة الصينية نظرياً على الجانب الإيراني في موازنة القوى العسكرية في منطقة الخليج.

وفي السياق الجيو – سياسي، فإن مبادرة الصين لحلّ الأزمة مع إيران يجب اعتبارها استمراراً لسياسات تدخل القوى العالمية في منطقة الخليج، وهو ما أثبتت التجربة التاريخية عدم جدواه في العثور على حلّ استراتيجي للأزمة، لأنها عادةً تأتي في إطار خريطة “إرادة هيمنة” تحاول هذه القوى تطبيقها في المنطقة، ما يُشعل من جديد حالة التنافس والاستقطاب الدولي، والإقليمي المتأثر بهذا التنافس الدولي.

ويُشير مجموع التطورات الداخلية في إيران إلى صعود نجم المحافظين المقربين من الصين، وتعمُّق أزمة انعدام الثقة المرشحة للتزايد في الفترة المقبلة بين واشنطن وطهران، وتعطُّش مُختلف الأطراف في الأزمة الإقليمية إلى حلّ ينهي حالة الاستنزاف، ما يعمل بمجموعه على ترجيح اعتماد الحل الصيني. لكن، ينبغي ألا ننسى أن ما يدفع الصين وأطرافاً أخرى إلى طرح بدائلها أساساً، هو استمرار العُقدة الإيرانية دون حلّ، إذ تُعوِّل المبادرة الصينية وغيرها على حالة الإرهاق التي تدفع مختلف الأطراف على ضفتي الخليج نحو اعتماد أي بديل يمكن أن ينهي الأزمة.

وأمام هذه الحالة، تبدو المنطقة أمام خيارين؛ الأول، البحث عن الحلول وفق المقاربات الدولية التي يحمل كل واحد منها أجندة خاصة ما يعني تغييب المصالح الإقليمية إلى حدٍّ بعيد، والثاني التفكير في طرح إقليمي محلي نابع من منطلق المصالح الوطنية والإقليمية المشتركة، والتفكير في طرق لإنجاحه، ودفع مختلف الأطراف باتجاه الانخراط فيه.

المصدر: مركز الإمارات للسياسات.

مصدر الصور: سبوتنيك – روسيا اليوم.

موضوع ذا صلة: استراتيجية “الحزام والطريق” وتنامي الدور الصيني في الجزائر

د. ابتسام الكتبي

مؤسِّسة ورئيسة مركز الإمارات للسياسات / أستاذة العلوم السياسية في جامعة الإمارات / عضو الهيئة الاستشارية في مجلس التعاون لدول الخليج العربية.