أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، 14 أبريل/نيسان 2021، قرار سحب القوات الأميركية من أفغانستان بحلول الذكرى الـ 20 لهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، إذ قال “آن الأوان لإنهاء أطول حرب في التاريخ الأميركي”.(1) وستبدأ القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي – الناتو الانسحاب في مطلع مايو/أيار 2021.(2) وبذلك، تكون إدارة بايدن قد التزمت بالخطوط العريضة للاتفاق الذي توصلت إليه إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، مع حركة “طالبان” في الدوحة، فبراير/شباط 2020.
أولاً: حيثيات القرار
اعتبر بايدن أن إنهاء الحرب في أفغانستان “مصلحة وطنية” أميركية، متجاهلاً تحذيرات أطلقها مستشاروه العسكريون والأمنيون(3)، وكذلك الانتقادات التي جاءت من الجمهوريين باعتبار أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى انهيار حكومة كابول وعودة “طالبان” إلى السلطة. لكن بايدن أكد من جهة أخرى أن واشنطن سوف تراقب الوضع في أفغانستان، وستحتفظ بقدرات عسكرية واستخباراتية في المنطقة لمكافحة “الإرهاب”(4)، ومنع عودة تنظيمات مثل القاعدة من جديد إلى أفغانستان.
وشدد على أن الولايات المتحدة ستحاسب “طالبان” في حال إخلالها بالتزاماتها في مفاوضات الدوحة بعدم السماح بأي تهديد إرهابي ضد الولايات المتحدة أو حلفائها انطلاقاً من الأراضي الأفغانية. واعتبر أن الانسحاب العسكري من أفغانستان لا يعني إنهاء النشاط الدبلوماسي والإنساني في ذلك البلد، فضلاً عن أن واشنطن ستواصل تقديم المساعدات للقوات الأمنية والعسكرية للحكومة الأفغانية. وأكد أن بلاده سوف تدعم محادثات السلام بين الحكومة الأفغانية وطالبان بإشراف منظمة الأمم المتحدة، وستواصل دعم حقوق النساء، والحفاظ على مساعدات إنسانية وتنموية كبيرة. وأشار إلى أن واشنطن ستطلب من دول أخرى أن تفعل المزيد لدعم أفغانستان، بخاصة باكستان، وكذلك روسيا والصين والهند وتركيا، التي لها مصلحة في استقرار أفغانستان.
ثانياً: مبررات الانسحاب
ينسجم قرار الانسحاب من أفغانستان مع مقاربة بايدن للسياسة الخارجية التي أعلن عنها، وهو لا يزال مرشحاً للرئاسة العام 2020، وتتضمن إنهاء “الحروب الأبدية” التي تخوضها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وعموم الشرق الأوسط، وتكلفها دماء وأموالاً كثيرة، والتركيز عوضاً عن ذلك على مهمات عسكرية محددة، تنفذها قوات خاصة، وكذلك تقديم معلومات استخباراتية ودعم لوجستي لقوات حليفة للتصدي لخطر التنظيمات المتطرفة. وتشدد هذه المقاربة على أن الاستمرار في صراعات لا يمكن كسبها يستنزف القدرات الأميركية، ويضعف قدرتها على القيادة العالمية في مواجهة خصوم تزداد قدراتهم على تهديد المصالح الأميركية.(5)
بناء عليه، فإن استمرار تورط الولايات المتحدة في أفغانستان بات يمثل عبئاً استراتيجياً عليها واستثماراً غير مجد، في ظل عجزها وحلفائها عن حسم الوضع على الأرض. ورغم أن احتمال انهيار حكومة كابول وعودة “طالبان” إلى الحكم يظل قائماً بعد الانسحاب العسكري الأميركي وخروج قوات الناتو، فإن الولايات المتحدة ما عادت قادرة على الاستمرار في تحمل أعباء استنزاف قدراتها العسكرية في حرب لا يمكن كسبها، خصوصاً في ظل فساد وعدم كفاءة النخبة السياسية الحاكمة في كابول، فقوات الحكومة ما زالت غير قادرة وحدها على تأمين البلاد في مواجهة “طالبان” بعد عقدين من الزمن.(6) ويمكن تلخيص مسوغات بايدن بالانسحاب كلياً من أفغانستان في 4 نقاط، هي:
1. انتفاء أسباب الغزو
بحسب إدارة بايدن، فإن هدف الولايات المتحدة من غزو أفغانستان، العام 2001، كان “واضحاً” وتمثل في “اجتثاث القاعدة ومنع الهجمات الإرهابية المستقبلية ضد الولايات المتحدة”. وترى الإدارة أن هذا الهدف قد تحقق، خصوصاً بعد مقتل زعيم القاعدة، أسامة بن لادن، العام 2011.(7) وقد استفادت الإدارة من تقدير للاستخبارات الأميركية مفاده أن القاعدة و”التنظيمات الإرهابية” الأخرى في أفغانستان ما عادت تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الأميركي، وهي غير قادرة على شنّ هجمات جديدة في العمق الأميركي.(8)
بناء عليه، لم يعد هناك مبرر بالنسبة إلى بايدن لبقاء القوات الأميركية في أفغانستان. ومن الواضح أنه لا يعتبر الحفاظ على النظام القائم في أفغانستان من أهداف الغزو، كما أنه لا يستطيع أن يضمن عدم عودة “طالبان”.
2. انتشار التهديدات الإرهابية خارج أفغانستان
ترى إدارة بايدن أن تهديد الجماعات المتطرفة بات أكثر انتشاراً حول العالم، ويتضمن ذلك “حركة الشباب” في الصومال، و”القاعدة” في شبه الجزيرة العربية، و”جبهة النصرة” في سوريا، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام – “داعش”، الذي يحاول إنشاء فروع له في دول مختلفة من أفريقيا وآسيا. وهذا يعني أن إبقاء آلاف الجنود على الأرض وتركيزهم في بلد واحد فقط، بتكاليف تبلغ مليارات الدولارات كل عام، لا يحمل أية قيمة إضافية. وعوضاً عن الاستمرار في الحرب مع “طالبان”، كما يرى بايدن، فإن على الولايات المتحدة “تتبع وتعطيل الشبكات والعمليات الإرهابية التي انتشرت إلى ما هو أبعد من أفغانستان منذ هجمات سبتمبر/أيلول 2001”.(9)
3. صعوبة تغيير المعطيات على الأرض
يرى وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أنه “لا يوجد حل عسكري” للصراع الأفغاني.(10) وتأسيساً على ذلك، رفض بايدن نصائح قادته العسكريين بضرورة ربط الانسحاب العسكري بتحقق شروط موضوعية على الأرض، ويرى أن “الحجة الرئيسة للبقاء لفترة أطول هي أن الوقت ليس مناسباً الآن للرحيل”. وكان الناتو أعلن، العام 2014، أن “قوات الأمن الأفغانية ستتحمل المسؤولية كاملة عن أمن البلاد بحلول نهاية ذلك العام”، لكن هذا لم يحصل، ولا يُتوقع أن يحصل في أي وقت قريب.
ويشكك بايدن في منطق أصحاب هذا الرأي قائلاً “ما الشروط المطلوب تحققها على الأرض لكي نغادر؟ وكم من الوقت سيمضي حتى تتحقق، هذا إذا كان من الممكن تحقيقها أصلاً؟ وكم هي التكلفة الإضافية في الأرواح والأموال؟ لا أسمع أية إجابات جيدة عن هذه الأسئلة. وإذا كنت لا تستطيع الإجابة عنها، في رأيي، ينبغي أن لا نبقى.”(11)
4. نشوء مصادر تهديد جديدة
لم تعد المؤسسات الأميركية العسكرية والاستراتيجية والأكاديمية ترى أن الإرهاب يمثل التهديد الأبرز الذي يواجه الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة؛ فهناك الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، فضلاً عن الاقتصاد والأوبئة والتغييرات المناخية.
ووفقاً لهذه الرؤية، فالأولويات بالنسبة إلى بايدن تتمثّل في محاربة الفقر والتمييز العرقي وتجديد البنى التحتية الأميركية المتهالكة وزيادة الاستثمار في التكنولوجيا، مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي واتصالات الجيل الخامس، وليس في استخدام الجيش لدعم “حكومات فاسدة”.
ويقول أصحاب هذا الرأي في الإدارة إن هذا يعني ضرورة التفكير في الدفاع عن سلاسل التوريد التجارية بدلاً من خطوط الإمدادات العسكرية. وبحسب بايدن، فإن واشنطن مطالبة بـ “تعزيز قدرتها التنافسية في مواجهةٍ أشدّ شراسةً مع الصين. كما يتعين عليها تقوية تحالفاتها والعمل مع شركائها لضمان تعزيز القيم الديمقراطية، وليس قيم الحكام المستبدين. وعليها أيضاً دحر الوباء وتعزيز النظام الصحي العالمي استعداداً للوباء التالي؛ لأنه سيكون هناك جائحة أخرى”. ويخلص إلى أن الولايات المتحدة ستكون أقوى وأقدر على المنافسة مع خصومها “إذا خاضت معارك العشرين عاماً المقبلة، وليس الـ 20 عاماً الماضية.”(12)
ثالثاً: المحاذير
في مقابل مبررات الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، ثمة محاذير من تداعيات هذا القرار، يؤكد عليها جنرالات الجيش والمسؤولون الاستخباراتيون. ويمكن تلخيص حججها في 3، هي:
1. سيطرة “طالبان” على أفغانستان من جديد
لا يخشى معارضو قرار الانسحاب من تكرار السيناريو الذي حدث في العراق وسوريا العام 2014 فحسب، بل يحذرون من سيناريو أسوأ، مثل سقوط عاصمة فيتنام الجنوبية، سايغون، أمام زحف قوات فيتنام الشمالية بعد أن تخلت الولايات المتحدة عن حلفائها المحليين وانسحبت منها.
وبناء على ذلك، فقد سعى قادة المؤسسة العسكرية الأميركية إلى ثني بايدن عن قراره، ورهن الانسحاب بتحقق شروط موضوعية على الأرض، محذرين من أنه من دون ذلك قد تسقط كابول، ويحدث تدفق كبير للاجئين، وتعود “طالبان” إلى الانتقام من الأفغان الذين وقفوا إلى جانب الولايات المتحدة.(13) ويستشهد أصحاب هذا الرأي بتقييم استخباراتي سري قُدِّم للرئيس ترامب، العام 2018، وتمَّ تسريبه مؤخراً، يخلص إلى أن انسحاباً سريعاً قد يؤدي إلى حرب أهلية، وسيطرة “طالبان” على أفغانستان من جديد.(14)
2. افتقاد قدرة الضغط على “طالبان”
يرتبط ما سبق بتحذيرات صدرت عن الاستخبارات الأميركية بأن انسحاباً أميركياً غير مشروط يضعف قدرة واشنطن في الضغط على “طالبان”، كما أنه يضعف النفوذ الأميركي عليها في محادثات السلام مع الحكومة الأفغانية.(15)
ويستشهد هؤلاء بامتناع “طالبان” عن حضور جولة من المفاوضات مع إدارة بايدن كانت مقررة في تركيا منتصف أبريل/نيسان 2021. ويشددون على أنه لا ينبغي أن يكون هناك انسحاب أميركي، قبل التوصل إلى اتفاق سياسي بين “طالبان” والحكومة الأفغانية، والتزام الحركة بوقف إطلاق النار.
3. تقليص القدرة الأميركية على التصدي للإرهاب
يحذر معارضو قرار الانسحاب من أنه في حال شنت تنظيمات إرهابية في أفغانستان هجوماً جديداً على الولايات المتحدة، أو شكلت تهديداً لأمنها القومي ومصالحها في المنطقة أو في أي جزء من العالم، فإنه سيكون من الصعب على القوات العسكرية الأميركية التحرك بسرعة وفاعلية للرد على ذلك الهجوم أو تحييد أي تهديد قبل وقوعه. ويقول هؤلاء إن سيطرة “طالبان” على أجزاء واسعة من البلاد ستعقّد المسائل لوجستياً واستخباراتياً؛ إذ لن تتوافر للولايات المتحدة المصادر الاستخباراتية البشرية المحلية الموجودة اليوم، ومن ثمّ “ستتضاءل القدرة الأميركية على تحديد التهديدات والتصرف إزاءها”.(16)
ولذلك يعكف القادة العسكريون الأميركيون على وضع خطط وبدائل من وجود قوات أميركية في أفغانستان لمنع تنظيم “القاعدة” والتنظيمات الأخرى من تعزيز حضورها هناك. وتناقش القيادة المركزية الوسطى الأميركية، التي تقع أفغانستان ضمن نطاق عملها، إمكانية نقل بعض قواتها إلى باكستان أو طاجيكستان لتوفير قدرة على الرد السريع في حال بروز أي تهديد في أفغانستان.(17)
خاتمة
على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تتمكن من هزيمة “طالبان” وإعادة بناء أفغانستان وتحويلها إلى ديمقراطية، كما أعلن الرئيس جورج بوش الابن، حينما قرر غزوها العام 2001، فإنه لا توجد خيارات مثلى أمام واشنطن في ضوء تورطها المستمر منذ 20 عاماً بلا أفق، وفي ضوء تغير أولوياتها العالمية.
يبقى أمل أفغانستان الرئيس متعلقاً بنجاح الأفرقاء الأفغان في التوصل إلى اتفاق سياسي يتمكنون خلاله من إنهاء صراع داخلي مستمر منذ سقوط الملكية العام 1974، واقتسام السلطة في إطار تشاركي، يقطع الطريق على كل من يحاول الاستثمار في استمرار الصراع الأفغاني – الأفغاني من جهات إقليمية وتنظيمات متطرفة.
المراجع:
(1) أنظر:
“Remarks by President Biden on the Way Forward in Afghanistan,” The White House, 14/4/2021, accessed on 26/4/2021, at: https://bit.ly/3aHGJia
(2) للولايات المتحدة في أفغانستان حوالى 3500 جندي، في حين يحتفظ الناتو بنحو 7000 آلاف جندي.
(3) أنظر:
Steve Coll, “Leaving Afghanistan, and the Lessons of America’s Longest War,” The New Yorker, 15/4/2021, accessed on 26/4/2021, at: https://bit.ly/2QvEZBD
(4) أنظر:
“Remarks by President Biden on the Way Forward in Afghanistan.”
(5) أنظر:
Joseph R. Biden, Jr., “Why America Must Lead Again: Rescuing U.S. Foreign Policy after Trump,” Foreign Affairs (March-April 2020), accessed on 26/4/2021, at: https://fam.ag/3xj4E13
(6) أنظر:
Vanda Felbab-Brown, “The US Decision to Withdraw from Afghanistan is the Right One,” Brookings, 15/4/2021, accessed on 26/4/2021, at: https://brook.gs/3xqULOU
(7) أنظر:
“Remarks by President Biden on the Way Forward in Afghanistan.”
(8) أنظر:
Office of the Director of National Intelligence, 2021 Annual Threat Assessment of the U.S. Intelligence Community,, 13/4/2021, accessed on 26/4/2021, at: https://bit.ly/3xsnAdB
(9) أنظر:
“Remarks by President Biden on the Way Forward in Afghanistan.”
(10) أنظر:
Michael Gerson, “Biden’s Withdrawal from Afghanistan is a Terrible Risk,” The Washington Post, 19/4/2021, accessed on 26/4/2021, at: https://wapo.st/3dPTtVD
(11) أنظر:
“Remarks by President Biden on the Way Forward in Afghanistan.”
(12) أنظر:
“Remarks by President Biden on the Way Forward in Afghanistan.”
(13) أنظر:
Gerson.
(14) أنظر:
Dion Nissenbaum & Gordon Lubold, “Military Believes Trump’s Afghan War Plan Is Working, but Spy Agencies Are Pessimistic,” The Wall Street Journal, 31/8/2018, accessed on 26/4/2021, at: https://on.wsj.com/3erI1ie
(15) أنظر:
Lolita C. Baldor, “Afghan Withdrawal will Make Terrorism Fight Harder, Says top US General in the Mideast,” The Military Times, 20/4/2021, accessed on 26/4/2021, at: https://bit.ly/3aEoZnU
(16) أنظر:
Patricia Zengerle & Jonathan Landay, “CIA Chief Highlights Loss of Intelligence Once U.S. Troops Leave Afghanistan,” Reuters, 14/4/2021, accessed on 26/4/2021, at: https://reut.rs/3vnl1Ym
(17) أنظر:
Tom Bowman, “Can the Afghan Army Hold off the Taliban Without The U.S.?” National Public Radio, 16/4/20215, at: https://n.pr/3aHJ7FE
المصدر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
مصدر الصور: فرانس 24 – سي.إن.إن عربية.
موضوع ذا صلة: أفغانستان.. بين الانتظار والانفجار