أحمد سلطان

خلافاً لما هو متعارف عليه في الديمقراطيات الغربية المتحضرة، لا سيما عالم السياسة في مدينة النور، باريس، من تنحية لكل سلطة غير مدنية، سواء كانت دينية (الكنيسة) أم عسكرية (الجيش) عما يعرف بإسم المجال العام، وهو ما يعد ثمرةً لجهود تنظيرية ونضالية ممتدة خلال القرون الأخيرة، فإن مستجداً جديداً وخطيراً، قد طرأ على طريقة عمل السياسة الفرنسية.

تحذير وإنذار عسكري غير صغير، مضمونه، إما أن تتغير السياسات المحلية الحاليّة وطرق إدارة المجتمع والدولة، على نحو معين، وإلا ستكون العواقب وخيمةً، شعبياً ومؤسسياً، ما فجر جدلاً داخلياً ممتداً في بلاد الإليزيه، خلال الأيام الأخيرة.

ماذا حدث بالضبط؟

قبل نحو 10 أيام، نشر خليط عسكري غير صغير، من الجنرالات، الحاليّين والمتقاعدين، إلى جانب الضباط والجنود، في دورية “فالور أكتويل” اليمينية المتشددة التي تصدر بشكل أسبوعي، بياناً عسكرياً موجهاً للسلطات الحاكمة في فرنسا بعنوان: “من أجل عودة شرف حكامنا”.

تضمن البيان نقداً لاذعاً لضعف يد الدولة الفرنسية في تطبيق السياسات اليمينية القومية والقيم الفرنسية، داخل إطار المجتمع، ما سبب فوضى من “الإسلاميين، وجحافل الضواحي، على نحو يهدد وحدة الأمة، ويذهب في اتجاه تحويلها لعقائد متعارضة مع الدستور”، متسائلاً “من كان يتخيل قبل 10 أعوام أن تصل الأمور إلى حد قطع رأس أحد المعلمين؟”.

ونوه البيان عن رصد زيادة ملحوظة في معدلات العنف الداخلي والكراهية، بالمجتمع الفرنسي “وهو ما يحتم على أولئك الذين يديرون البلاد أن يتحلوا بالشجاعة للقضاء على الأخطار، وهو ما يكفله، فقط، أن تطبق القوانين المشرعة بالفعل بشكل حازم”.

وحذر البيان من خطورة الوضع العام في فرنسا، “فالساعة خطيرة، والوضع جاد، وفرنسا في خطر، وإذا لم تتخذ إجراءات سريعة ستتفاقم الأوضاع، وقد نرى حرباً أهلية تضع أوزارها، وتمتلئ الشوارع حينها بآلاف القتلى”.

مخاوف من الانقلاب

قد تتساءل عن الداعي وراء تسمية هذا الحراك بإرهاصات الانقلاب، بدلاً من وصفه بأنه حراك داخلي مألوف يحدث يومياً في كثير من الديمقراطيات، والإجابة وفقاً لخبراء في تحليل الخطاب (Discourse) علقوا على البيان، فإن هذا البيان تضمن “الثيمات” المضمونية الرئيسية الواردة في أي بيان انقلابي أو يحمل نوايا وتهديدات بالانقلاب.

أهم هذه “الثيمات” هي المبالغة في إظهار خطأ البوصلة السياسية الحاليّة واستبطان نوع من الوصاية العسكرية على المجتمع والتقليل من كفاءة السلطة الحاليّة والانتقاص منها والتهديد بالتحرك ضدها أو دعم أية تحركات ضدها.

وقد ورد في بيان الجنرالات الفرنسيون أنه: “نحن ما زلنا جنوداً في خدمة فرنسا حتى في سياق التقاعد، وأنه لا يمكننا في الظروف الحاليّة أن نظل غير مبالين بوطننا الجميل، ونحن مستعدون لدعم أية سياسات تأخذ في الاعتبار حماية أمن الأمة، وأن الغالبية العظمى من أبناء الوطن غارقة في صمت السلطة المثير للدهشة والذنب”.

شارك في صياغة البيان رُتب رفيعة المستوى مثل رئيس أركان القوات البرية سابقاً ومفتش عام سابق في سلاح الجو وجنرالات معروفين، مثل كريستيان بكيمان الذي فصل من العمل العسكري بعد تنظيمه مظاهرةً ضد المهاجرين في مدينة كاليه قبل 5 أعوام، بالإضافة إلى ما لا يقل عن 8 آلاف جندي، تقول بعض التقديرات إنهم 10 آلاف جندي، وقد نال دعم خبراء عسكريين سابقين، مثل جون بيار فابر، وهو ما يعني أننا أمام نواة لطليعة عسكرية متمردة في الجيش.

قبل نحو 60 عاماً، أشرف 4 جنرالات متقاعدين فرنسيين، من بينهم موريس شال وأندريه زيلر وراؤول سالان، على محاولة انقلابية لرفض خروج فرنسا من الجزائر، تمكنوا خلالها من احتلال بعض المواقع الإستراتيجية في الجزائر، وإقناع وحدات عسكرية بالانضمام إليهم، إلا أن خبرة الرئيس والجنرال شارل ديغول حسمت الموقف وأجهضت الانقلاب قبل توسعه، بمعاونة الرفض الشعبي الواسع للانقلاب.

أما هذه المرة، فقد نال هذا البيان دعماً سياسياً من زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا والمرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبان، التي قالت إنها تشاطر العسكريين مخاوفهم على أمن المجتمع، بالإضافة إلى استحسان شخصيات عامة مثل رشيدة داتي، وزيرة العدل السابقة من أصول عربية، التي قالت “ما هو مكتوب في البيان حقيقة واقعة، عندما يكون لديك بلد مبتلى بحرب العصابات في المناطق الحضرية وتهديدات إرهابية مستمرة، فلا يمكن أن نقول إن هذا البلد بخير”.

سبق صياغة هذا البيان وجود بعض “الحوامل/الروافع” الاجتماعية والسياسية التي أضفت أهميةً عليه، على غرار مقتل شرطية فرنسية على يد مهاجر تونسي مسلم، ودعوة وزير سابق إلى “التمرد” عبر نفس المنصة التي نشرت البيان العسكري، فالور أكتويل.

وكانت علاقة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بالجيش الفرنسي قد توترت نسبياً بعد إطاحته بأحد الجنرالات الأقوياء في بداية فترته الرئاسية الأولى، هو الجنرال بيير دو فيليه العام 2017، ما أثار مخاوف من توتر علاقة مؤسسة الرئاسة بالجيش بشكل عام، وبالجنرالات المتقاعدين بشكل خاص، حتى من قبل صدور هذا البيان.

“لقد شددوا على طريقة تطبيق القوانين، وأنا أقول إنني أشاركهم هذه المعاناة وهذه الملاحظات، وأعتقد أن هذه المشاكل لا بد أن تحل من خلال مشروع سياسي يضم الفرنسيين في إطار ديمقراطي، ومن هذا المنطلق أدعوهم إلى الانخراط في حملتي الرئاسية المقبلة”، هكذا علقت مارين لوبان على البيان.

رد الحكومة

لسبب ما، تأخر رد الحكومة على البيان، وهو ما عزاه محللون إلى الصدمة من مضمونه، وغاب الرئيس ماكرون عن هذا الجدل، وبدا لاحقاً أن هناك نيةً للرد على البيان إذعاناً لضغوط يسارية، وأن ماكرون أوكل مهمة الرد على العسكريين إلى وزيرة الجيوش، فلورانس بارلي.

يوم الـ 26 من أبريل/نيسان 2021، طالبت بارلي رئيس أركان الجيش بفرض عقوبات على الضباط والعسكريين الموقعين على البيان ممن لا يزالون في الخدمة العسكرية، بسبب ما أسمته “انتهاك هؤلاء العسكريين لميثاق الشرف الموقع مع المؤسسة العسكرية”.

وفي نفس السياق، وبخّت الوزيرة زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، قائلة إن “تسييس الجيوش الذي اقترحته السيدة لوبان من شأنه أن يضعف قوتنا العسكرية، وبالتالي يضعف فرنسا. الجيوش ليست موجودةً للحملات الانتخابية، بل للدفاع عن فرنسا وحماية الفرنسيين”.
وفيما يبدو أنه استجابة من رئيس الأركان لتعليمات قائدته العسكرية، فقد أكد فرانسوا لاكوانتر أن “كل هؤلاء الضباط سيمثلون أمام مجلس عسكري”، مشيراً إلى أن دور الرئيس في هذه الأزمة سيكون توقيع مرسوم جمهوري لإحالتهم إلى التقاعد الإجباري، متمنياً أن يبادر الجنرالات العاملون في الخدمة بهذه الخطوة، قبل أن تقوم بها السلطات.

بالتزامن مع ذلك تقريباً، عاودت وزيرة الجيوش الفرنسية تأكيد التزام مؤسستها بالحياد السياسي ورفض دعوات الانقلاب، موضحةً أن “الجيوش لها دور وطني بالمجتمع فعلاً، مثل إدارة أزمة كورونا، لكن دورها الأهم هو القتال ضد عدو محدد مثل إرهابيي داعش، ومن ثم فإن توقيع العسكريين على العريضة لا معنى له، فالجيوش ليست موجودة لحفظ الأمن الداخلي”، قبل 5 أيام.

مستقبل الحركة

بالنسبة لمصطفى الطوسة، نائب رئيس تحرير إذاعة مونت كارلو، فإن لهذا البيان تأثيراً سلبياً على المجتمع الفرنسي والحياة السياسية في أوروبا بشكل عام، إذ يعد هذا أول تلويح بالانقلاب العسكري (وصفه بذلك رسمياً رئيس الوزراء الفرنسي) منذ عقود طويلة، حيث لم تعرف فرنسا إلا حكاماً مدنيين منذ شارل ديغول الذي حكم البلاد منتصف القرن الـ 20 في ظروف صعبة تخللتها هزيمة فرنسا من ألمانيا وانسحاب فرنسا من الجزائر.

كما أنه على الأرجح وفقاً لنفس المصدر، سيكون لتأييد السيدة لوبان لهذه الحركة تأثير سلبي على مستقبلها السياسي، إذ سيسوّق اليمين غير المتشدد واليسار والسلطات الفرنسية الحاليّة إلى أن انتخاب هذه السيدة في الانتخابات الرئاسية القادمة قد يفتح أبواب جهنم على البلاد ويعيدها إلى عصور الظلام ويهدد الحرية والاستقرار.

على الجانب المقابل من هذه الرؤية، ينظر رياض صيداوي الباحث المغاربي، من خلال نظرية تعتمد على مفاهيم علم “الاستغراب” (المقابل من الاستشراق) والفرنسولوچي، إلى أن معظم البلاد الأوروبية، إذا أردنا أن نقسمها وفقاً للتقسيم المعمول به في العلوم السياسية من ناحية الحكم، فردياً أو أقلية أو ديمقراطية، فإننا سنجد أنها في الواقع محكومة من “أوليغارشية” (أقلية) يمينية قومية رأسمالية متشددة، منذ نجاح الثورة الفرنسية في الخلاص من ثنائية الإقطاع والكنيسة، قبل نحو 3 قرون.

وبناءً عليه، فإنه وفقاً لهذا التحليل، من الوارد أن تكون هذه الحركة الانقلابية نابعةً من “الأوليغارشية” الفرنسية الحاكمة، إذ يعد الجيش في فرنسا وغيرها، جزءاً من بنية الحكم (الدولة العميقة) من خلال حمايته لاستحواذ مستثمرين وقلة معينة على الشركات الكبرى مثل “توتال” و”داسو” (الاقتصاد السياسي) وتأمين الإيديولوجيا النظرية المهيمنة على المجتمع (اللائكية)، ولا يعد بعيداً عن الحياة السياسية بشكل كامل كما هو متوهم.

وإن صح ذلك، فإنه يعني أن الرئيس ماكرون سيطاح به في الانتخابات القادمة في أقصى تقدير، نظراً لعدم قدرته على الحفاظ على أهم ركيزة لاقتصاد السوق (الاستقرار الاجتماعي)، ليحل محله وجه آخر مختلف قادر على تنفيذ أجندة الأوليغارشية الحاكمة، على الأرجح سيكون السيدة لوبان.

المصدر: نون بوست.

مصدر الصور: فرانس 24 – ليبانون فايلز.

موضوع ذا صلة: فرنسا العلمانية أمام تحدي التطرف و”الإنعزالية الإسلامية”