محمد العربي
كشف تخلي أستراليا عن صفقة الغواصات النووية “بيركودا” الموقعة مع فرنسا، العام 2016، واستبدالها بغواصات نووية أمريكية في إطار تحالف “أوكوس” بين الدول الثلاث (أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا)، عن تحولات استراتيجية عميقة في بنية العلاقات بين الدول الكبرى.
بيد أن هذه الأزمة طرحت تساؤلات أخرى حول مدى تأثير إلغاء صفقات الأسلحة بين دول العالم على العلاقات الاقتصادية الثنائية، وما إذا كانت هذه التوترات قد تحمل بين طياتها تداعيات أوسع على أنماط التعاون الاقتصادي بين الدول في الأمد الطويل.
سوابق عديدة
يكشف تاريخ التعاون العسكري الدولي عن حالات متعددة لإلغاء صفقات عسكرية بين عدد من دول العالم، وفيما يلي أبرزها:
1. إلغاء فرنسا صفقة “مسترال” لروسيا: قررت فرنسا العام 2015 إلغاء صفقة بيع حاملات الطائرات المروحية “مسترال” لروسيا بعد ضغط غربي وأمريكي، والذي جاء على خلفية العقوبات الغربية على موسكو بسبب ضم الأخيرة شبه جزيرة القرم. ولتعويض باريس عن خسارة هذه الصفقة، دعمت واشنطن بيع “مسترال” الفرنسية لشركاء وحلفاء آخرين لها في العالم.
2. انسحاب أستراليا من صفقة “غواصات الديزل” اليابانية: قررت أستراليا في ظل حكومة رئيس الوزراء السابق مالكولم ترنبول، العام 2016، الانسحاب من صفقة الغواصات اليابانية الإلكترو- ديزل من طراز “سوريو”، والتي كان من المقرر أن تحل محل أسطول الغواصات من طراز “كولينز”، وذلك لصالح الصفقة الفرنسية التـي تم إلغاؤها مؤخراً في إطار تحالف “أوكوس”.
وقد بدأ التفاوض على تلك الصفقة اليابانية، العام 2014، باتفاق مبدئي بين رئيس الوزراء الياباني السابق، شينزو آبي، ونظيره الأسترالي آنذاك، توني أبوت. وكان من المقرر أن يتم بناء هذه الغواصات في جنوب أستراليا، إلا أن المخاوف من عدم خبرة اليابان في إنجاز مثل هذه الصفقات العسكرية الكبيرة والتي دخلت فيها طوكيو لأول مرة، فضلاً عن مخاوف أستراليا من الارتباط الاستراتيجي مع اليابان، وما قد يعينه هذا لعلاقتها مع الصين؛ قد دفع كانبيرا تحت قيادة حكومة ترنبول إلى الانسحاب من التفاوض مع طوكيو بدعوى وجود مصاعب تقنية في إنجاز الصفقة، ومن ثم تم البحث عن بديل آخر لتحديث أسطول الغواصات الأسترالية، وكان الخيار حينها هو فرنسا.
3. وقف اليابان صفقة النظام الدفاعي “إيجيس آشور” الأمريكية: ألغت اليابان، يونيو/حزيران 2020، مشروع بناء موقعين للنظام الدفاعي إيجيس آشور – Aegis Ashore المضاد للصواريخ بالتعاون مع الولايات المتحدة بسبب ارتفاع التكاليف البالغة 1.8 مليار دولار، فضلاً عن التعقيدات التقنية للمشروع. وتبع هذا القرار أيضاً انسحاب طوكيو من التفاوض مع واشنطن على شراء نظام المراقبة بالطائرات المُسيّرة المعروف بـ RQ-4, Global Hawk. وقد بدأ التفاوض على شراء النظام المذكور، العام 2015، بيد أن ارتفاع تكاليف بناء منصات التشغيل، دفعت للتخلي عن النظام كله بعد عامين من إبرام الصفقة.
4. إلغاء كندا رخص تكنولوجيا الطائرات المُسيّرة لتركيا: قررت كندا إلغاء رخص استخدام تكنولوجيا تقنية متقدمة تُستخدم في تطوير وتصنيع الطائرات المُسيرة لتركيا، أبريل/نيسان 2021، وذلك بعد أن تأكد لدى حكومة أوتاوا أن هذه التقنيات تم توجيهها إلى أذربيجان في حربها الأخيرة مع أرمينيا حول إقليم ناغورنو كاراباخ، خريف 2020، بدون إذن من الحكومة الكندية، وهو ما اُعتبر خرقاً لشروط “المستخدم النهائي” في أذونات التصنيع. وأدى هذا القرار إلى إلغاء 29 إذناً لتصدير “سلع عسكرية”، من بينها 25 إذناً لتصنيع كاميرات الطائرات المُسيّرة “بيرقدار TB2”. فيما أكدت الحكومة الكندية أن تركيا حليف رئيس داخل حلف “الناتو”، إلا أن تصدير التطبيقات العسكرية لأنقرة في إطار التعاون داخل الحلف سيكون على أساس كل حالة.
5. إلغاء سويسرا صفقة الـ “رافال” الفرنسية: ألغت سويسرا صفقة شراء الطائرات الفرنسية “داسول رافال”، واستبدلتها بطائرات F-35 الأمريكية، سبتمبر/أيلول 2021. ومن جانبها، اتهمت باريس الجانب السويسري بالخوض في التفاوض مع فرنسا حول “رافال” في الوقت الذي كان فيه شراء الطائرات الأمريكية مُتخذاً بالفعل.
قياس التأثير
يصعب القول إن إلغاء تلك الصفقات العسكرية وغيرها قد أثّر بطريقة واحدة على العلاقات الاقتصادية بين الدول المعنية. لذا يمكن قياس التأثير من خلال البحث في نمط العلاقات الاقتصادية بين هذه الدول، وذلك على النحو التالي:
1. فرنسا – روسيا: كان تأثير إلغاء صفقة “مسترال” الفرنسية لموسكو، العام 2015، محدوداً للغاية على العلاقات الاستراتيجية بين البلدين. فقد جرى احتواء الأضرار الناجمة عنها مع عقد صفقات تعويضية أخرى بين موسكو وباريس، ولم يؤثر إلغاء الصفقة على التفاهم الاستراتيجي بينهما، حيث تقود فرنسا تيار الانفتاح على روسيا داخل الاتحاد الأوروبي. وأيضاً، لم تتأثر العلاقات الاقتصادية بين الدولتين، والتـي تشهد نمواً منذ العام 2017؛ حيث زاد معدل التجارة الثنائية بين فرنسا وروسيا مع ارتفاع واردات النفط الفرنسية من موسكو.
2. اليابان – أستراليا: على الرغم من ردة الفعل اليابانية الغاضبة تجاه قرار كانبيرا حول صفقة غواصات “سوريو”، فإن ذلك لم يؤثر بشكل كبير على مجمل العلاقات بين البلدين. بل إن الشراكة الاستراتيجية القائمة بينهما والموجهة بالأساس لاحتواء النفوذ الصينـي الأكثر تأثيراً على اليابان، باتت أكثر تقارباً مع تعاظم النفوذ الصيني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وعلاوة على ما سبق، ما زالت اليابان تمثل ثاني أكبر شريك اقتصادي لأستراليا وثاني أكبر سوق تصديرية لها، وثالث أكبر مصدر للاستثمار الخارجي المباشر داخل أستراليا.
3. تركيا – كندا: تعتبر أنقرة الشريك الاقتصادي رقم 28 لكندا بناءً على حجم العلاقات التجارية بين الدولتين والتـي تبلغ في المتوسط حوالي 3 مليارات دولار سنوياً، فيما تبلغ حجم الاستثمارات الكندية في تركيا حوالي ملياري دولار. وعلى الرغم من اتهام أنقرة لأوتاوا بازدواجية المعايير، وتخوفها من تأثر القرار الكندي بالعقوبات الأمريكية كاتسا – CAATSA والعواقب المتعلقة بشراء تركيا منظومة الدفاع الصاروخي “إس – 400” الروسية؛ فقد أكد الطرفان احترام الشراكة الاقتصادية والاستراتيجية في إطار حلف “الناتو”. والأهم من ذلك، أن هذا القرار دفع أنقرة إلى البحث عن موردين آخرين للكاميرات والمعدات البصرية المستخدمة في طائرات “بيرقدار” المُسيّرة، أو ربما محاولة تطويرها محلياً.
4. اليابان – الولايات المتحدة: يعكس إلغاء مشروع “إيجيس آشور” وجود تحول في أولويات الاستراتيجية الدفاعية اليابانية، ومع ذلك فإنه لم يؤثر على علاقات الولايات المتحدة واليابان والتـي تشكلت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتقوم على أساس الشراكة الاستراتيجية الدفاعية والاقتصادية الثنائية. وتعد اليابان رابع أكبر شريك اقتصادي للولايات المتحدة وبلغ حجم التجارة البينية بينهما، شاملة للسلع والخدمات، نحو 252.2 مليار دولار، العام 2020. وبلغ حجم الاستثمار الأمريكي المباشر في السوق الياباني 131.8 مليار دولار، العام 2019، أما حجم الاستثمار الياباني المباشر في الولايات المتحدة فقد وصل إلى 619.3 مليار دولار.
5. سويسرا – فرنسا: من المبكر قياس تأثير تداعيات إلغاء صفقة بيع الـ “رافال” الفرنسية لسويسرا، بيد أن المؤشرات الأولية تشير إلى محدودية أو انعدام تأثيرها الاقتصادي. والأهم أن العلاقات الاقتصادية بين فرنسا وسويسرا تعكس حالة شراكة تقترب من التكامل الاقتصادي. إذ تعد سويسرا الشريك الاقتصادي الخامس لفرنسا، ويبلغ حجم التجارة السنوية بينهما 38 مليار فرنك سويسري (ما يعادل نحو 41 مليار دولار)، وتعد التجارة على الحدود بين البلدين نقطة تداخل سكاني واقتصادي في غاية الأهمية. وتعد فرنسا ثاني أكبر مستثمر في سويسرا باستثمارات تصل إلى 48.7 مليار فرنك سويسري (52.5 مليار دولار). وتعمل 1100 شركة سويسرية في فرنسا، فيما تعمل 1500 شركة فرنسية داخل فرنسا.
تفسيرات ثلاثة
يتضح مما سبق أن أثر إلغاء الصفقات العسكرية في الحالات المذكورة على الشراكات والعلاقات الاقتصادية بين الدول ما زال محدوداً للغاية. ويمكن تفسير هذا التأثير المحدود من خلال ما يلي:
1. إن إلغاء أو الانسحاب من الصفقات هو أمر وارد في “أعراف التعاقد بين الدول”، ومنظم بالقوانين التجارية ونصوص الاتفاقات، كما حدث في صفقة “مسترال” الفرنسية مع روسيا، العام 2015.
2. غالباً ما تأتي الصفقات العسكرية في إطار شراكات استراتيجية، ولا يعني إلغاء صفقة تسليح التأثير على أنماط هذه الشراكات التي دائماً ما تستند إلى عوامل تتجاوز “الأرباح المادية” من وراء تلك الصفقات.
3. غالباً ما تقترن الشراكات الاستراتيجية بعلاقات اقتصادية قوية تصل إلى حد التكامل في بعض الأحيان، وهو ما يجعل تأثير إلغاء الصفقات الاقتصادية محدوداً، وهذا ما اتضح في حجم التجارة البينية والاستثمارات في الحالات الموضحة أعلاه. وبالتالي، يصعب المخاطرة بالعلاقات الاقتصادية القوية لأجل صفقات محدودة.
تأثير بعيد المدى
إن الأثر السلبي الذي تركته صفقة “أوكوس” في طبيعة التحالف بين فرنسا من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا من جهة أخرى، يمكن تفسيره بعاملين؛ الأول هو “الدبلوماسية السرية” التـي صِيغت من خلالها صفقة الغواصات النووية الأمريكية لأستراليا، ما يعد خرقاً لأعراف النظام الليبرالي الدولي وقواعد عقد الاتفاقات. ويتمثل العامل الثاني في الكشف عن تحول جيو – استراتيجي كبير يتعلق بمواجهة النفوذ الصيني في ظل وجود التكنولوجيا النووية الأمريكية في تفاعلات منطقة المحيط الهندي والباسيفيكي (الهادئ)، والتـي تعد فرنسا لاعباً رئيساً فيها عبر انتشار قواتها المسلحة في عدد من الجزر والقواعد العسكرية عبر المنطقة.
ومن ثم، فإن التأثير بعيد المدى لمثل تلك الصفقات غير الشفافة، يتمثل في تآكل الثقة بين أطراف النظام الدولي، والانخراط في تفاعلات متضاربة على نحو قد يهدد بإجراءات تصعيدية مثل “الإجراءات الحمائية” أو “الانسحاب من اتفاقات أوسع” أو “فرض عقوبات أحادية” من الدول المتضررة.
في الختام، يمكن القول إن القاعدة الرئيسية لتجنب التأثير السلبي لإلغاء الصفقات العسكرية على العلاقات الاقتصادية، تكمن في ترسيخ قواعد الثقة والشفافية في عقد وإدارة وإنهاء هذه الصفقات. ويرتبط بذلك، ترسيخ ممارسات “دبلوماسية الإلغاء” أو “إعادة التفاوض” بين الدول. وقد كان لهذه الدبلوماسية دور إيجابي في الحيلولة دون تفاقم تداعيات إلغاء صفقة “مسترال” الفرنسية لموسكو، في حين أدى غيابها واللجوء للتفاوض السري إلى أزمة بين فرنسا وحلفائها الغربيين مؤخراً.
كذلك، كان لسوء تصرف الدبلوماسية الأسترالية دور في ردة الفعل اليابانية الغاضبة على إلغاء صفقة غواصات “سوريو”، العام 2016، في الوقت الذي قُوبل فيه قرار طوكيو بإلغاء صفقة “إيجيس آشور”، العام 2020، بالتفهم لدى الدوائر الأمريكية بسبب وضوح الأسباب، ووجود رصيد من الثقة بين الطرفين.
المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
مصدر الصور: ناشيونال إنترست – تاس.
موضوع ذا صلة: مستقبل التنافس البحري ومخاطر الفاعلين دون الدول