نشر “معهد الشرق الأوسط” مقالاً للكاتب ريتشارد ويتز، زميل بارز ومدير مركز التحليل السياسي العسكري في معهد هدسون، يناقش فيه إمكانية إنقاذ الاقتصاد الأفغاني على يد الصين في ظل الانهيار الكبير الذي فاقمه سيطرة حركة “طالبان” على السلطة بعد انسحاب الولايات المتحدة من البلاد.

وفي مطلع مقاله، يُلقي الكاتب نظرة على الاقتصاد الأفغاني الذي ينهار؛ حيث أدَّت سيطرة “طالبان” على السلطة إلى تقليص جميع المساعدات الخارجية تقريباً، وهو تطور مدمر لدولة تعتمد اعتماداً كبيراً على المساعدات الدولية.

وأدَّى انتشار الجفاف والفساد المستشري وإهمال الثروة البشرية وعدم تلقيح السكان إلى حد كبير ضد “كوفيد – 19″، إلى تفاقم هذه المشكلة الطويلة المتمثلة في التبعية المالية للخارج. وقد ضاعفت التحديات الاقتصادية الجديدة التي ظهرت منذ استيلاء “طالبان” على السلطة من هذه الصعوبات التي طال أمدها.

مأزق “طالبان”

ويلفت الكاتب إلى أن الحكومات الغربية وافقت على تقديم المساعدات الإنسانية وغيرها من المساعدات الطارئة للشعب الأفغاني، ولكن شريطة أن تظل هذه الأموال بعيدة عن أيدي “طالبان”. وتعني سيطرة “طالبان” على المؤسسات الرئيسة في البلاد أن العقوبات التي اعتُمِدت في الأساس لمعاقبة “طالبان” وأعضائها القياديين وإضعافِهم تؤثر الآن تأثيراً سلبيّاً في عامة السكان.

وعلاوةً على ذلك، تحتاج “طالبان” إلى وضع أيديها على المال لممارسة الحكم الفعَّال وإرضاء أصحاب المصلحة الرئيسين في البلاد. وتأمل الحركة في أن تساعد الصين في سد هذه الفجوة من خلال الاستثمار والتجارة والقروض، وغير ذلك من الأنشطة المدرِّة للدخل، ولكن هناك عقبات كبيرة تقف حجر عثرة في هذا الطريق.

الانهيار الاقتصادي

وبيَّن الكاتب أن قادة “طالبان” منذ أن انتزعوا السيطرة على العاصمة، أغسطس/آب 2021، واجهوا تحديات اقتصادية جَمَّة، لافتاً إلى أن بعض هذه المشكلات مزمنة وقد أثقلت كاهل جميع الحكومات الأفغانية الأخيرة، بينما ظهرت بعض المشكلات الأخرى أو تفاقمت بعد أن استولت الحركة على السلطة وأعلنت إعادة بناء إمارة أفغانستان الإسلامية.

وعلى مدى العقدين الماضيين، أصبح الاقتصاد الأفغاني يعتمد على مليارات الدولارات من المساعدات الحكومية وغير الحكومية الأجنبية. وقد احتاجت الحكومة الأفغانية إلى أموال خارجية لتغطية جميع نفقاتها الأساسية تقريباً. ولم تتحقق قط آمال القادة الأفغان السابقين في أن تؤدي التجارة والاستثمار الخارجيين إلى خفض اعتمادِهم على المساعدة الخارجية.

واستمر نقص المياه وانعدام الأمن الغذائي ونقص الوقود والكهرباء. وقد ثبُت أن نظام الصحة العامة المُجهَد غير قادر على مواجهة جائحة كوفيد والتحديات الطبيعية الأخرى ذات الصلة بالحرب. وقد تسبَّب تمرد “طالبان” في ظهور ملايين اللاجئين الأجانب والمشردين داخلياً. كما أدَّى العنف، إلى جانب البنية الأساسية الهزيلة والموقع غير الساحلي، إلى عرقلة الاستثمار الأجنبي والسياحة والنقل.

كذلك، وحسب ما يضيف الكاتب، أوجد استيلاء “طالبان” على السلطة تحديات إضافية، ذلك أن الحركة وأعضاءَها القياديين يخضعون لعديد من العقوبات الدولية التي تحول دون وصولهم إلى التمويل والاتصالات الدولية.

ولم تعترف الدول الغربية بعد بإمارة “طالبان” المعلنة حديثاً. وحتى روسيا والصين رهنتا اعترافهما بوفاء “طالبان” بمعايير محددة مثل محاربة الإرهاب. وحرمت وزارة الخزانة الأمريكية النظام الجديد من الوصول إلى احتياطيات البنك المركزي الأفغاني. وتحت الضغط الغربي، أوقف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أيضاً المدفوعات النقدية للحكومة الأفغانية.

ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش “طالبان” إلى السماح للمؤسسات المالية الدولية بضخ الأموال من خلال تقديم المساعدة المباشرة للمستفيدين.

مساعدات تتجاوز “طالبان”

وأضاف الكاتب أن الجهات المانحة للمساعدات الغربية ركَّزت على التخفيف من حدة الأزمة الإنسانية الآنية من خلال تقديم المساعدة الطارئة لمن يعانون من انعدام الأمن الغذائي، موضحاً أن تلك الجهات سعَت إلى الحفاظ على التدفقات النقدية المستهدفة عن طريق إعفاء المنظمات الدولية التي تلبي الاحتياجات الإنسانية الأساسية من العقوبات، وهي مبادرات استهدفت توصيل المساعدات إلى الأفغان مباشرةً، متجاوزة بذلك الهياكل التي تسيطر عليها “طالبان”.

وكان قادة الغرب حذرين من تقديم الأموال مباشرةً إلى “طالبان” خوفاً من أن تكون هذه الأموال مكافأة لاستيلائهم غير القانوني على السلطة ومعاملتهم الانتقائية للنساء والأقليات الدينية. كما أنهم تجنبوا الإجراءات التي قد تعزز سلطة “طالبان”.

وبحسب الكاتب، فمهما كانت التصريحات المطمئنة التي يدلي بها قادة “طالبان” في العلن، فإن سياساتهم لا تلبي المعايير التي اشترطها قادة الغرب للإفراج عن المساعدات. ولكي تحصل “طالبان” على مزيد من المساعدات الاقتصادية الغربية، ستحتاج إلى تبني حكومة أكثر شمولاً، ونظام عدالة أقل قسوة، وتدابير أخرى تتعارض مع أيديولوجيتها الأساسية.

وكذلك تتطلع “طالبان” إلى البلدان غير الغربية، بمعايير أكثر مرونة، للحصول على المساعدات. وعندما اجتمع ممثلو الصين وروسيا وإيران وباكستان في موسكو، 19 أكتوبر/تشرين الأول، حثوا المجتمع الدولي بأسره على تقديم مساعدات إنسانية واقتصادية سخية لأفغانستان. ونظراً لأن روسيا وباكستان وإيران لم تكن على مر التاريخ من مقدمي المساعدات السخية، فإن الصين تبرز بطبيعة الحال باعتبارها مانحاً أجنبياً محتملاً مفضَّلاً لـ “طالبان”.

هل تهب الصين للإنقاذ؟

يوضح الكاتب أنه توجد شراكة اقتصادية طبيعية من حيث المبدأ بين أفغانستان الفقيرة مالياً ولكنها غنية بالموارد وبين الصين المتعطشة للموارد ولكنها غنية. وهذه الموارد لا تقع بالقرب من الصين فحسب، بل إن دخولها من خلال مقاطعاتها الغربية من شأنه أن يشجع على تحقيق تنمية جغرافية أكثر توازناً داخل الصين. ولكن الروابط الاقتصادية بين الصين وأفغانستان تخلفت كثيراً عن تلك التي تتمتع بها مع عديد من البلدان الأورو – آسيوية الأخرى.

وتتألف التجارة الثنائية أساساً من استيراد الصين للمواد الخام الأفغانية في حين تُصدِّر لها السلع الاستهلاكية. وبعد أن فتحت الحكومة الأفغانية قطاعات مواردها الطبيعية أمام الاستثمار الأجنبي العام 2007، تفاوضت عدة شركات صينية على عقود كبرى، بعضها لاستكشاف رواسب الهيدروكربونات المحلية واستغلالها. ولكن الفساد ومشكلات التصاريح والتشريعات المحلية الأفغانية المتخلفة والتهديدات الأمنية المحلية الحادة عطَّلت هذه المشروعات لسنوات.

ونوَّه الكاتب إلى أن أفغانستان كانت رسمياً عضواً في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. ولكن من الناحية العملية، تجاوزت خطوط السكك الحديدية الرئيسة، والطرق السريعة، والبنية التحتية للطاقة التي بنيت في أوراسيا بالاستثمار الصيني أفغانستان لاجتياز طرق أكثر استقراراً. ورأت الشركات الصينية في أفغانستان خطراً أمنياً وليس فرصة اقتصادية.

ولفت الكاتب إلى أن الصين وأفغانستان ترتبطان مادياً عبر ممر “واخان”، وهو شريط ضيق من الأراضي الوعرة يمتد من شمال شرق أفغانستان إلى غرب شينجيانغ. ولكن السلطات الصينية أبقت هذا الممر مغلقاً أمام أغلب حركة المرور التجارية، وذلك جزئياً لمنع المتطرفين ومهربي المخدرات في أفغانستان من دخول الصين عبر الممر.

وأشار الكاتب إلى أن الحكومة الصينية قدمت من العام 2001 إلى العام 2021 مساعدات إنمائية متواضعة لأفغانستان. وإلى جانب الإعفاء من القروض والإعفاء من الرسوم الجمركية، موَّلت المساعدة بناء بعض المستشفيات والمدارس وعديداً من مشروعات التعمير البارزة مثل مجمع للري في باروان وقاعة للمؤتمرات في القصر الرئاسي في كابول. ورغم أن المبالغ والمشروعات المحددة التي دعمتها الصين على مدى العقدين الماضيين تظل غامضة بسبب الافتقار إلى الشفافية، فمن الواضح أن هذه المبالغ كانت ضئيلة إلى حد كبير مقارنة بمليارات الدولارات التي تبرعت بها الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية بل والهند للمؤسسات الأفغانية.

خيارات الصين

وتطرَّق الكاتب إلى أن صناع السياسة في الصين كانوا يرغبون في رؤية تسوية سلمية تفاوضية بين “طالبان” والجهات الفاعلة الأفغانية الأخرى، وهو السيناريو الذي كان سيوجِد بيئة أكثر ملاءمة لتقييد الإرهاب الإقليمي وتهريب المخدرات مع تسهيل الاستثمار الصيني وبناء البنية التحتية التي تربط أفغانستان بالصين وبقية دول أوراسيا. ومع ذلك، قبلت بكين بأن “طالبان” حققت نصراً عسكرياً حاسماً ومن المرجح أن تظل في السلطة لأعوام، وذلك لأن تجارب إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا توضح أن الأنظمة يمكن أن تبقى لسنوات حتى وإن كانت شعوبها تتعرض لضغوط اقتصادية دولية هائلة.

لذلك، يفكر المسؤولون الصينيون اليوم في كيفية متابعة أهدافهم الاقتصادية والأمنية فيما يتصل بأفغانستان في بيئة تتسم بانخفاض المساعدات المالية والعسكرية الغربية، مع وجود نظام بقيادة “طالبان” يفتقر إلى الكوادر الفنية التي كانت موجودة في الحكومات الأفغانية الأخيرة. وفي الوقت نفسه، تفاقمت العلاقات بين بكين وواشنطن، الأمر الذي قلل من احتمالات التعاون الصيني الأمريكي بشأن بأفغانستان. وفضلاً عن ذلك، كانت التحديات الاقتصادية التي تواجهها الصين وجائحة “كورونا”، وغير ذلك من النكسات، سبباً في حرمان مبادرة الحزام والطريق من الزخم اللازم، الأمر الذي أدَّى إلى تقليص احتمالات اضطلاع أفغانستان بدور رئيس فيها.

ويُفترض أن الشركات الصينية لا تزال ترغب في أن تضمن “طالبان” لها الوصول إلى الموارد الطبيعية في أفغانستان والبنية الأساسية الاقتصادية اللازمة لجلب هذه الموارد إلى الصين. ولكي تحدث مثل هذه الاستثمارات الصينية، تطالب بكين بضمانات أهمها أن “طالبان” لن تستهدف العمال الصينيين أو الاستثمارات في أفغانستان أو ترعى مقاتلي الإيغور أو غيرها من الحركات التي تعتبرها الصين إرهابية.

ونوَّه الكاتب إلى أن عبد الغني برادار، رئيس المكتب السياسي لـ “طالبان”، تعهد – وفقاً للحكومة الصينية – عندما التقى بوزير الخارجية الصيني وانغ يي، يوليو/تموز، بأن “طالبان لن تسمح أبداً لأية قوة باستخدام الأراضي الأفغانية للقيام بأعمال تضر بالصين”. وألمح الكاتب إلى أن التضحية بالإيغور لإقامة علاقات طيبة مع بكين ستكون أمراً سهلاً لـ “طالبان” شأنها في ذلك شأن عديد من الأنظمة الأخرى.

أهداف أمنية على المدى القريب

ويرى الكاتب أن أفضل أمل لبكين في هذه المرحلة هو أن يدعم “المجتمع الدولي” الانتعاش الاقتصادي لأفغانستان دعماً جماعيّاً. ومثل نظرائهم الروس، دعا المسؤولون الصينيون الحكومات الغربية إلى الإفراج عن الأموال المجمدة الموجودة في بنوكها وتقديم مساعدات تنموية وإنسانية كبيرة للأفغان.

وكلما زادت المساعدات التي تقدمها الحكومات الأخرى للمستفيدين الأفغان، قلَّت النفقات التي ستحتاج الصين لتخصيصها لهذه الأغراض. وعلى النقيض من ذلك، سوف تعتمد الحكومة الصينية في الغالب على باكستان وروسيا وآفاق العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الصينية مع حكومة “طالبان” في تعزيز أهدافها الأمنية المتمثلة في منع “طالبان” من دعم المسلحين المناهضين للصين.

ويؤكد الكاتب في ختام مقاله على أن أهم مصالح الصين في أفغانستان ترتبط في المقام الأول بالأمن على المدى القريب، وآية ذلك أن بكين تشعر بالقلق إزاء الكيفية التي قد تؤدي بها التطورات السلبية في أفغانستان إلى تعزيز عدم الاستقرار في الدول المجاورة في آسيا الوسطى، وباكستان، والصين ذاتها، وخاصة إقليم شينجيانغ الغربي. وعلى مدى الأعوام القليلة القادمة، سوف تحدد هذه الأهداف الأمنية في المقام الأول، وليس أي مكاسب اقتصادية وهمية ومتواضعة نسبياً من الاستثمار والتجارة، مشاركة الصين الاقتصادية في المستقبل مع حكومة “طالبان”.

المصدر: Middle East Institute – تعريب: ساسه بوست.

مصدر الصور: دايلي صباح – فورين أفيرز.

موضوع ذا صلة: بواعث “الهرولة” الأمريكية – الروسية نحو طالبان